“الأهالي” تحاور وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف:لا انتخابات دون القدس ولن نتحول لـ”هنود حُمر”

- تدخّل مصر يأتي في اتجاه تصويب الوضع وإسرائيل لم تتوقع ما حدث

1٬029

– الشعب الفلسطيني في خروجه الأخير تجاوز الخلافات والمعركة وحَّدت الجميع
– الشيخ جرّاح حكاية مصغرة للجرائم التي حدثت طيلة القرون الماضية في فلسطين
– المثقف آخر من ينسحب من المعركة وهناك مراجعات واجبة على النخبة العربية الثقافية
– الكتابة تساوي بندقية وتجعل الحكاية تعبر الزمن
– الاحتلال يؤثر في المشهد الثقافي والمحتل دمَّر 44 مؤسسة ثقافية في قصف غزة
– مهمة الوزارة حماية الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني والتراث يُميّزنا عن الغزاة
– الرواية الفلسطينية ظُلِمت نقديًا والمثقف لدينا يفتقد التواصل
– نجمع أدب الأسرى ونعيد طباعة كتب ما قبل النكبة ولا نيأس
حوار: نسمة تليمة

” لنتخيل طفلًا يجلس بين يدي جدّته داخل مخيم فلسطيني، ترمي له مشكاة لا تنطفئ أبدًا، وتمنحه عن طيب خاطر غريزة محبة لمدينة بعيدة تسكن ذاكرتها ولا تغيب إلا في أحلام الغزاة، تموت وهي تحكي عن يومياتها في المدينة، وتزرع في عقله خريطة بيتها القديم ليستدل عليه حين يكبر دون أن يسأل عن المكان، لا يلزم أن تكون الحكاية السابقة فقط حكاية بطل الحوار، بل هي حكاية كل طفل فلسطيني يحيا الآن، وكل طفل ما زال في رحم الغيب، يخلق معادلته التي ليس كمثلها معادلة محملًا بإرث يضئ وجهه إلى الأبد، وفي انتظار الأبد يمنح جدته إنصافًا للحكاية يفوق توقعاتها، والنتيجة دائما انتصار لا يُسجّله العدو الذي يفشل في تذكر أي عنوان”
د. عاطف أبو سيف، وزير الثقافة الفلسطيني، يمنحنا إجابات في توقيت مهم، عن الحياة الثقافية الفلسطينية الآن، والمشهد السياسي في فلسطين، من رام الله حدَّثنا عبر تطبيق “سكايب” وهو يجلس داخل مكتبه وخلفه كل ما دوَّنه السابقون عن الوطن والحكاية الأصلية، ينير الصورة تجميعة تلتقط عيوننا منها “العقد الفريد” وكتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، وقرب الكتب تلمح شريطًا متواضعًا يحمل عنوان المكان: “وزارة الثقافة”.
بتعبيرات مهمة مثل” الكتابة دليل أنني حي” و”الكتابة تساوي بندقية” يقف الروائي الفلسطيني صاحب “حياة معلقة” والتي رُشِّحت لجائزة البوكر، متحدثًا عن المقاومة والأمل “وعائشة” جدَّته التي دلّته على الطريق..

فإلى نصّ الحوار..
الأحداث الأخيرة في فلسطين وما حدث في الشيخ جرّاح وغزة، واكب ذكرى النكبة، كيف رأيت المشهد وتلك المفارقة انطلاقًا من ذكرى لا ينساها أي فلسطيني، وقد يؤرخ الحياة بعدها وقبلها؟
دعينا نتذكر أن الهجمة الصهيونية على الفلسطينيين وعلى العرب في العموم لم تتوقف منذ قرن من الزمن تقريبًا، منذ بداية المشروع الكولونيالي الاستعماري الإحلالي، الذى أراد أن يزيح الشعب الفلسطيني ويأتي بالغرباء في البلاد، ربما هي مفارقة لافتة للنظر، محاولة اجتذاب خمس مناطق سكنية في القدس في هذا التوقيت، ومنهم الشيخ جرّاح وحي سلوان وبطن الهوى، نفس المقولة التي قالها المستوطن الصهيوني للفتاة في الشيخ جراح حين قالت له هذا ليس بيتك وأنت تسرقه، فرد عليها إن لم أسرقه أنا فسيأتي غيري ويسرقه، نفس العبارة التي قالتها المستوطنة لجدّتي عائشة في يافا منذ سنين طويلة حين سرقت بيتها، ومن ثمَّ فالتاريخ لا يعيد نفسه لأن الحركة الاستعمارية لم تتوقف، وحتى الوقت المستقطع كانت تمارس فيه أشكالًا مختلفة من العدوان، الجانب الآخر هو خروج الفلسطينيين من كل مكان في فلسطين، لأن الأقصى يعني لهم هذا المكان المتعلق بالوجود العربي الأصيل في تلك البلاد، ومن ثمّ تلك الهبة الفلسطينية كانت التحامًا متينًا ومكينًا للوطنية.
لديك تعبير تقول فيه “لن نتحول لهنود حمر” ماذا كنت تقصد؟
القضية الفلسطينية يراد لها أن تغيب، وأن تتحول إلى قضية هنود حُمر حوَّلهم الرجل الأبيض لذكريات، أقام لهم متحفًا وبكى عليهم قائلا: “ليتنا ما فعلنا بهم ذلك وظلمناهم”، ونحن يراد لنا أن نصبح كذلك، يمحوننا ويقيمون لنا مُتحفًا، ولكن لسوء حظهم ولحسن حظ الإنسانية أن هذا الشعب لم ينته، بفعل تضحياته وتضحيات الأمة العربية كما تعرفين، مثل الزعيم جمال عبد الناصر، مرورًا بكل شرفاء الأمة العربية وحتى أخر شهيد لبناني سقط في هبّة الأقصى.
هل الانتفاضة الأخيرة لم تكن متوقعة من الجانب الإسرائيلي؟
أعتقد أن إسرائيل أصيبت بغرابة، لأن القاتل لا يستغرب لهبّة الشعب الفلسطيني حتى داخل المناطق الخاضعة لهم، لا تتخيلي مدينة مثل اللد وهي ضمن المدن المختلطة كما يسميها الإٍسرائيليون لوجود عائلات عربية أقلية فيها، مثل يافا التي بها عائلتي، هم ليسوا عرب إسرائيل، هم فلسطينيو الداخل، هنا تكمن الحكاية الفلسطينية الأساسية، حكاية شعب أُريدَ له أن يُمحى عن وجه هذه البسيطة، وأن يؤتَى بتجمعات بشرية مختلفة تسمى الشعب الإسرائيلي لتصبح بديلًا .
أنا ممن قالوا إن الحرب الحقيقية هي هذه الرواية، اللص الذي سرق البلاد يريد أن يسرق كل شيء متعلق بها، بعد أن يسرق البيت بالشيخ جراح يريد تأليف قصة بديلة للعالم عن هذا البيت، وبكل غباء يريد أن نصدق أن يافا ليست مدينة عربية كنعانية، ويريد أن نصدق أنها تل أبيب، ويريد أن نصدق أن القدس ليست أور سالم، ويريد لي أن أصدق أنني حين أنظر الآن من الشباك والمستوطنة المقابلة لي الآن ليست بيت ايل، المدينة اليهودية التي لم توجد في التاريخ، وهي بالنسبة لنا كعرب قرية عمرها 6 آلاف سنة!
وكيف اختلف الأمر لدى الفلسطينيين أنفسهم؟
حين يتعلق الأمر بالأقصى المدينة العربية، وحين يتعلق الأمر بالهوية العربية لهذه المدينة التي ورثناها ويجب أن نحافظ عليها، لم يعد الأمر مرتبطًا بفتح أو حماس، أو الحديث عن الانقسام في الداخل، لا يعود هناك 67 أو 48 أو فلسطينيو الشتات وفلسطينيو الداخل أو الخارج، لأن الكل يشعر بأهمية الوقوف بكل ما يمتلك من قوة للدفاع عن المدينة المقدسة، الجميع تجاوز الخلافات من أجل هذه المعركة التي وحَّدت الجميع، ويجب تنحية الخلافات جانبًا.
قالت إحدى الصبايا إن النكبة لم تعد في الشيخ جراح، لأن الفلسطينيين يدركون أن القصة لم تكن عددًا من البيوت هناك، القصة هي أن هذا المشروع الاستعماري الإحلالي يجب أن يتوقف، الشيخ جراح حكاية مصغرة للجرائم التي مرَّت طيلة القرون الماضية هنا.

كيف رأيت موقف مصر ومبادرتها لوقف إطلاق النار؟
الوضع في غزة يهمّ الأمن القومي المصري، لاعتبارات كثيرة نعرفها، دور مصر تاريخي منذ أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وحصار الفالوجة، هنا في رام الله وفي غزة منذ ستين عامًا صورة عبد الناصر معلقة في الدكاكين القديمة، وحين وقَّعت مصر اتفاقية السلام كانت تدرك مكانة القضية الفلسطينية، ومن ثمّ تدخّل مصر دائمًا ما يأتي في اتجاه تصويب الوضع، ودائمًا ننظر إلى مصر على أنها تفكر كيف تحمي الشعب الفلسطيني من مزيد من الألم، أما عن المبادرة المصرية فقد لاقت ترحيبًا كبيرًا على مستوى السلطة هنا، من الرئيس عباس أو الفصائل، وكانت هناك احتفالات برفع العلم المصري، وهي مبادرة أوقفت الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، إلى جانب استبسال الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه.
هل يمكن أن تجري الانتخابات الفلسطينية في وقت قريب؟
موقفنا واضح، وسواء كنت وزيرًا في الحكومة الفلسطينية أوسياسيًا في حركة فتح، لن نستطيع أن نجري انتخابات دون القدس، ليس لأننا لا نستطيع فرضها ولكن لأننا نريد للعدو وللعالم أن يعرف أن القدس عاصمة فلسطين، لأنه غير معقول أن يسمح لنا بعمل الانتخابات بحرية في رام وغزة وجنين وجباليا وبريج وطولكرم وقلقيلة، ولا يُسمح لنا بعملها في القدس كما لو كانوا يقولون لنا هنا فقط حدود دولتكم، لا يمكن ولن يحدث ذلك، القصة رمزية بالنسبة لنا. القدس ليست كأي مكان، الله خالقها مقدسة، ماذا نفعل؟ السماء قررت أنها مدينة مقدسة، ونحن كفلسطينيين وعرب مسلمين ومسيحيين فخورون بذلك ولن نسلِّم بغيره. ومن ثمَّ دون انتخابات في القدس لن تُجرى أي انتخابات، نستطيع أن نحمل صندوق الانتخابات ونذهب به إلى المسجد الأقصى، ونجعل الفلسطينيين يدلون بأصواتهم ونسرق الصناديق ونعود، لكن وقتها نكون قد سلَّمنا بأن هذا ليس حقنا واللصوص هم من يفعلون هذا، هي مُسلمة مقدسة تقول إن للفلسطينيين المقدسيين الحق في الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، بالمناسبة كان هناك أكثر من عرض بتصويتهم داخل قنصليات ونحن رفضنا، من يصوّت داخل قنصليات مواطنون أجانب، وأعتقد أن الموقف الفلسطيني الرافض لإجراء انتخابات دون القدس هو الذي يشعل الهبات الأخيرة.
“نحن لسنا أرقامًا” تعبير يعود إليك في إحدى الكتابات الإنجليزية، إلى أي مدي تؤثر تفاصيل الحياة الاستثنائية التي يعيشها الكاتب الفلسطيني في المشهد الثقافي؟
بالضرورة الفلسطيني حين يكتب لا يستطيع الهروب من السياق الذي يعيش داخله، ومن ثمَّ حتى إن أراد كتابة قصة حب خيالية، ستجده يتسلل إلى واقع الحياة، الكاتب الفلسطيني لديه نقطتان مزدوجتان وقد يتعارضا مع بعضهما، أولًا مطالب بأن يكون وفيًا لقضيته الفلسطينية، ومطالب بأن يلتزم بالشروط الفنية للعمل الإبداعي الخلاق، وإذا نجح في هذا الالتزام الذي قد يزيد، قد يغفل الشروط الأخرى ويُنتج نصًا ضعيفًا، وفي المقابل إذا كان مهووسًا بالشروط الفنية سيتخلى عن السياق الفلسطيني وسيقدم نصًا ليست له علاقة بشخصيته وليس صادقًا، ومن ثمَّ من الصعب أن يهرب من هذا السياق العام، الحياة الاستثنائية هنا هي التي تنتج نصوصًا استثنائية، وعلينا أن نلتقط من هذه الحياة ما يصلح لهذا الفن.
وقد كنت أسال نفسي حين كانت جدتي عائشة تحكي لي وأنا صغير عن مدينتها يافا، وبالمناسبة كانت جدتي أكثر مهارة من نجيب محفوظ في الرواية ولكنها لم تكتب، كنت أتساءل كيف يمكن لهذه الحكايات أن تعبر الزمن؟!
وهل وجدت إجابة؟
نعم، لا يمكن لها أن تعبر إلا من خلال الكتابة، الأدب الجيد هو الأدب الذي يستطيع أن يعبر الزمن، لذا نحن نتذكر المعلقات حتى الآن، ونقرأ شكسبير وموليير، ومن ثمَّ الحياة هنا بالضرورة تفرض معالجات مميزة، وإن لم يحدث ذلك أصبحت فعلًا سياسيًا وتهبط في مطب الشعارات، وهو أمر يجب أن ينتبه إليه الكاتب لأن عليه أن يميز بين نفسه وبين المقاتل.
أتذكر حين كنت معتقلًا في الانتفاضة الأولى منذ ثلاثين عامًا، وكان عمري 17 عامًا، وكيف كتبت معاناة الأسرى كما عايشتها، بقدر أو بآخر يحق للكاتب أن ينفلت من هذا الانضباط السياسي كما يحق له أن ينفلت من بعض الضوابط الفنية، أيام الاعتقال طلبوا مني أن أكتب قصة، وكانت أول قصة في حياتي تصف شعور امرأة تنتظر خروج ابنها من السجن. كنت أتخيل أمي “أمينة” رحمها الله حين تنتظرني وما الذي كانت لتفعله، كانت ستكنس الدار مئة مرة وتشطف الحائط وتزين الشارع وتذهب إلى السوق أربع مرات وتفكر في ما أحب لتشتريه، وبعد كل تلك الترتيبات وصفت مشاعرها وهي تقبّل ابنها الأسير العائد وأحدهم يقول لها إن ابنك الثاني جاءوا لأخذه، أتذكر أحد زملائي الأسري صرخ وقال لي أنت تضيع وقتنا حتى تقول لنا لا أمل في الحياة!
ومن ثمَّ فالأدب يعني شيئًا لمن يقرأه، نحن لا نكتب لذواتنا، في اللحظة التي أكتب القصة أعلقها على الجدار، هي لحظة ينتظرها آخر، هذا النقاش لم يغب عن ذهني طيلة 30 عامًا، ومن هنا يأتي معنى لماذا نكتب.

هل الحكاية تُروى من أجل المقاومة؟
وقد نرويها لنتأكد أننا أحياء، أذكر شعوري باحتمالات موتي وحياتي مصادفة وقد دوَّنت ذلك في روايتي “حياة معلقة “، في الانتفاضة الأولى كان عمري 16 عامًا، أصبت برصاصة في كتفي، وكانت من نوع الرصاص الذى يتفتت، وصلت المستشفى وقيل إنني مت وحفروا لي قبرًا بالفعل، وفي 2014 شعرت أنني قد أموت في هذه الحرب، كنت أكتب باللغة العربية، وبعد أن أنتهي وأقرأ بصوت عالٍ فأطمئن أنني ما زلت حيًا، وقتها طلب مني أحد أصدقائي أن أحكي بالإنجليزية ووجدتها فرصة ليقرأ آخرون الحكاية، ونشرتها في الجارديان. كانت كتابتي جزءًا من صراع البقاء بالنسبة لي خلال العدوان المهول الذي كان موجودًا، وقتها قصفوا كل البيوت حولنا وذهبت أنقل الناس والأشلاء، ففكرت أن ألمس الكهرباء حتى أتأكد أنني لست ميتًا مثلهم، هي حياة قادرة على البقاء رغم مرارتها، كنت أشعر أنني إذا مت فإنني أريد لأحدهم أن يقرأ ما حدث. أزمة جدتي لم يكن هناك كاميرا تصوّرها وهي تخرج من بيتها، نحن نعيش في وضع غير معتاد ولا يمكن أن يستمر للأبد، وحتى نصل إلى الأبد علينا أن نكتب، كان شعار اتحاد الكتاب الفلسطيني “بالدم نكتب” ليس لأنه يكتب بدمه ولكن لأن الكتابة تساوي بندقية.

ما معالم المشهد الثقافي الفلسطيني في ظل تلك الحياة؟ وإلى أي مدى يؤثر الاحتلال؟
الاحتلال يؤثر في جميع النواحي الثقافية بفلسطين. العدوان الأخير دمَّر 44 مؤسسة من أصل 74، منها مكتب سمير منصور، مكتب النهضة ومركز بسمة وهو من أهم المراكز المسرحية في فلسطين، ومركز جعفر للتراث، بجانب 39 جمعية دُمِّرت جزئيًا، وندرس الآن محاولات إعادتها مرة أخرى. الحرب على الثقافة الفلسطينية قديمة، فحين سرق اللصوص البيوت في يافا وحيفا كانوا يطردون السكان ويسرقون الكتب ومئات اللوحات الفنية، ويغلقون دور السينما “أبوللو والجميل”، ويسرقون منها الأفلام، وهي حرب لم تتوقف واستُهدف فيها كُتّاب فلسطينيون كبار مثل غسان كنفاني الذى استُشهد منذ 49 عامًا، وسنحيي الذكرى الخمسين لاستشهاده قريبًا، وماجد الشرار، كاتب القصة القصيرة، وغيرهم.
ما مهمة وزارة الثقافة التي يؤمن بها سيادة الوزير؟
مهمة الوزارة حماية الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني وتعزيزها بالمحتويات الرقمية والكتابية، لأن هؤلاء اللصوص ألَّفوا قصة، لا أثر لها، قد تجدي هنا في فلسطين آثارًا فرعونية، سامرية، كنعانية، لكن لن تجدي أي أثر للصوص، إذًا الحرب الحقيقية مع تلك الرواية، لا نريد لأحد أن ينساها، أنا ككاتب متصالح مع هذه الفكرة لأن مهمتي الحفاظ على حكايات جدتي عائشة، وكل الجدات اللاتي عشن هنا.
ماذا عن برنامج أدب الحركة الأسيرة في الوزارة الذي يهتم بكتابة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟
كل من يكتب رواية أو قصة أو مذكرات، نحرص على إخراجها للنور، من خلال برنامج الأسرى الذي تتبناه الوزارة، ونطبعها، ونهتم بتسليط الضوء عليها، في 2020 طبعنا 7 كتب تضمَّنت تلك الأعمال، التراث الفلسطيني هو الجين الوراثي لنا DNA الذي يميزنا عن الغزاة، ونحن نحاول حماية الصناعات الثقافية؛ القش والفسيفساء وغيرها، وصون التراث الوطني مهمّتنا لأن التراث مرتبط بعناصر البقاء.

عاطف ابوسيف

ما الأهم في تقديرك: التأريخ للقضية أم التدوين عنها في فنون الأدب المختلفة؟
كلاهما مسار مهم، التأريخ للثقافة الفلسطينية، وأيضا التدوين عنها في الأدب، لذا نعيد طباعة كل ما وُجد قبل النكبة لنحافظ على هذا الحضور، لدينا في الوزارة مطبوعات تصل إلى 4 آلاف كتاب، كما نطبع دراسات عن السينما الفلسطينية قبل النكبة، والأمر الأخير موسوعة الثقافة الفلسطينية قبل النكبة والتي أشرف عليها بشكل شخصي، ويُشرف عليها 25 باحثًا وخلال شهرين ستصدر، الثقافة أداة أساسية للمقاومة والبقاء، وهذا لا يعني أننا لا نهتم بالإنتاجات الجديدة.
انقطعت كتابة الرواية في فلسطين بعد النكبة، حتى عادت في الستينيات مرة أخرى، أين تقف الرواية لديكم الآن؟ وهل هذا الانقطاع أثَّر بالسلب؟
الهزائم تصيب الكاتب بالإحباط، ما حدث بعد النكبة أن المدينة الفلسطينية فُكِّكت، والرواية بنت المدينة، وكان يمكن لولا النكبة أن نشهد غزارة في إنتاجها، ولكن النكبة أصابت الفلسطينيين كلهم بصدمة أفرزت نوعًا من الصوم، فلم يعد هناك ما يكتب عنه، باستثناء الشعراء مثل هارون هاشم رشيد العظيم وأبو سلمي وبعدها محمود درويش وسميح القاسم وعزيز المناصرة والعظيم أحمد دحبور.
المشهد الروائي الفلسطيني بالفعل توقَّف، ولو أننا في أثناء البحث وجدنا عدة محاولات في الخمسينيات وبعضها نشر بالقاهرة، ظل ذلك إلى أن تكيَّف الكُتّاب مع فكرة المكان فتحدثوا عن المخيم، مثل غسان كنفاني وقصص سمير عزام أو الكتابات الأولى لإيميل حبيبي، ولكن ما إن ظهرت مرة أخرى، قدَّمت رواية فلسطينية قوية جدًا على صعيد الموضوعات والتكنيك، مثل رواية جبرا إبراهيم جبرا، وكان يكتب بتيار الوعي الذى لم يكن منتشرًا وقتها، ظهر جيل جديد تكيف مع الخسارات ومع مشروع البناء الذي نقوم به، ومن ثمَّ الرواية الفلسطينية لم تنج ويجب أن تنجو من تأثيرات النكبة والأحلام.
ما الذي يفتقده المثقف الفلسطيني في رأيك؟
يفتقد التواصل مع العالم، قبل أن أكون في الوزارة لم أكن أستطيع الخروج، ممنوع أن أغادر رام الله، المثقف لا يحضر مهرجانات شعرية أو قصصية خارج البلاد، والعالم الافتراضي لا يحل الأزمة.
هل تحاول الوزارة التحايل على ذلك وإيجاد آليات؟
الحلول الافتراضية معقولة لكنها غير كافية، ونحن في الوزارة نسعى إلى أن يكون هناك حضور لفلسطين في معرض الكتاب والمهرجانات، وما يريده الكاتب الفلسطيني حقيقة المقدرة على الحركة، أنا حُرِمت وقت ترشيحي لجائزة البوكر من السفر وهو أمر ليس بسيطًا، ويصيبك باليأس أحيانًا، وعلى الرغم من ذلك، لدينا حياة ثقافية داخل عديد من المناطق، بما فيها مخيمات اللاجئين.
وهل يلقى المثقف الفلسطيني ما يناسب تجربته نقديًا؟
الحقيقة أن الرواية الفلسطينية تحديدًا لا تحظى باهتمام عربي كبير، ومظلومة نقديًا، لا بدّ أن أترشّح على قائمة جائزة لكي ينتبه لي بعضهم ولا أعرف السبب، من المهم تشجيع الكتاب الفلسطينيين على وجودا أعمالهم، فهي أعمال نبيلة وجيدة فنيًا وقوية على مستوى الرسائل.
كيف تُعمِّق الوزارة طابع المقاومة لدى الأجيال الجديدة؟
المقاومة الأساس في مهمتنا الوزارية التاريخية، والثقة في أن الغزاة سيذهبون بلا رجعة، وإذا كانت هذه مقولتنا فيجب أن تنعكس في جميع تداخلاتنا، لدينا 450 مؤسسة ثقافية تعمل من أصغر قرية إلى أكبر مخيم ومدينة، وبعضها يتعلّق بمراكز الأطفال، نشارك في برامج التعليم بالمدارس ونهتم بالأنشطة والمسرح، وإحياء الذكريات الوطنية مثل يوم التراث الوطني، وذكرى استشهاد غسان كفناني وذكرى درويش ويوم القصة القصيرة، وغيرها، ونتأكد أن القضية الوطنية حاضرة في دروس اللغة العربية إلى جانب عملنا مع وزارة التعليم العالي في الجامعات، أطلقنا برنامج تعزيز الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني، ونريد أن ننشئ أول معهد للدراسات الفلسطينية القديمة.
ذكرتَ في أحد المرات أنك حين ذهبت إلى يافا للمرة الأولى، علَّمت بيت جدك بناءً على وصف جدتك القديم له، وهو أمر مذهل، إلى أي مدي تؤثر حكايات جدّتك فيك؟
جدّتي كانت كفيفة، بسبب حرب العدوان في 1948، وكانت ملهمة بالنسبة لي، تجيد الوصف بدقة، ولديها مئات الحكايات، فتحكي عن حضورها فيلم الوردة البيضاء لمحمد عبد الوهاب، وبيوت يافا، والشوارع، ولكنها لم تكن تكتب ما تحكيه، وروايتي الجديدة الغلاف الخاص بها هو التخطيط الهندسي لمنزل والد جدتي في الأوراق القديمة، وعلى ضوء ما سمعته منها عشت وتعرفت على فلسطين قبل النكبة، وهنا يكمن معنى أن الفن ينتصر للحياة، في ظل غياب الحياة.
هل هناك مراجعات واجبة على المثقف العربي والنخبة العربية؟
المثقف آخر من ينسحب من المعركة، وفي اللحظة التي يعترف فيها بالهزيمة لا تعود هناك حكاية نناضل من أجلها، قد يحق للسياسي أن يناور أو يتنازل وربما يجد حلًا من أجل مصالح ما، ولكن المثقف يجب ألا ينخرط في هذا، الذي وحَّد العرب تاريخيًا هو الثقافة العربية الواحدة، عليهم أن يحذروا من الانزلاق، دائمًا أقول مصر صنعت اتفاقًا للسلام مع إسرائيل ولكن معرض الكتاب المصري لم يستضف يومًا كاتبًا إسرائيليًا ولن يستضف. المثقف هو الحارس الأمين للثقافة العربية، إسرائيل سرقت يافا ولكن لا يوجد فلسطيني ينطقها يافو بالعبرية، ولذا هناك مراجعات واجبة علينا، اللصوص سرقوا الكتاب وغيروا الجلدة، ولكن لا يعني هذا أن الكتاب ليس فلسطينيًا.

التعليقات متوقفه