محمود دوير يكتب: الطريق إلى 30 يونيو…. هكذا كان اعتصام المثقفين

عندما تلتقى الطليعة مع الجماهير في لحظة نادرة

174

في الرابع من يونيو 2013 كانت الراحلة الكبيرة فتحية العسال تهتف بصوتها الأجش “يسقط .. يسقط حكم المرشد ” بينما تعاني آلام مرض عضال لم يمنعها من الاعتصام داخل مبنى وزارة الثقافة رفضا لمحاولات الجماعة التي تحكم مصر من مكتب الإرشاد بالمقطم.
وبدت “فتحية” التي حملت كمية كبيرة من الأدوية ترقد على مقعد بالوزارة تحث زملائها على مواصلة الصمود وتوزع ابتسامة الأمل على كل المشاركين لا تعبأ بضعف جسدها الذي أنهكه المرض بينما عزيمتها تزداد قوة وصلابة.
كانت مصر في هذا الحين تخطو نحو حدث فارق في تاريخها المعاصر عندما انتبه إلى خطورة استمرار الجماعة في حكم البلاد وتلك الرغبة الجامحة في العبث بهوية بلد بحجم وقيمة مصر.
كان “سيد حجاب ” يردد الهتاف بقوة على سلالم وزراة الثقافة ويشد على يده “صنع الله إبراهيم ” و”محمد العدل ” وبهاء طاهر وناصر عبدالمنعم وخالد يوسف .. وآخرون.
وكان الاعتصام قد سبقه محاولة منهم لتقديم طلب لمقابلة الوزير وكانوا يعلمون بعدم وجوده بمكتبه، وفور دخولهم لمقر الوزارة أعلنوا اعتصامهم، ومن هنا بدأ المثقفون التوافد على مقر وزارة الثقافة بالزمالك وهرب الوزير الإخوانى بلا رجعة.
لم يكن قرار الاعتصام ضد محاولات أخونة الثقافة المصرية سوى خطوة في طريق 30 يونيو لكنها ليست ككل الخطوات فهى الوثبة التي حركت الجميع نحو طريق التمرد والخلاص من حكم الجماعة.
كان تكليف “علاء عبدالعزيز ” بوزارة الثقافة هو إعلان واضح عن رغبة “مكتب الإرشاد ” الهيمنة على هذا الملف الرئيسي وتأكد ذلك بعدة قرارات أقدم عليها الوزير المحسوب على الجماعة بعد أقل من شهر من توليه مهام عمله حيث قرر إنهاء عمل عدد من قيادات الوزارة واختيار بدلاء لهم منتمين لجماعة الإخوان ثم كانت محاولاته لوقف عروض البالية بالأوبرا مما أثار غضب فناني الأوبرا.
ثم جاء قرار إقالة الدكتورة “إيناس عبدالدايم ” من رئاسة دار الأوبرا المصرية وهذا ما دفع العاملين بالدار على التظاهر ثم المشاركة فى اعتصام المثقفين داخل مكتب وزير الثقافة.
كان تعنت الوزير – الإخواني – وتمسكه بقراراته التي رفضها المثقفون بل ومحاولات الجماعة شق صف الجماعة الثقافية المصرية من خلال الدفع ببعض المحسوبين على الجماعة للتظاهر دعما لوزيرهم أو التوقيع على بيانات تؤيد خطواته كما دفع الإخوان ببعض موظفي القطاعات الثقافية للذين تم استغلالهم للحشد ضد موظفي وفناني الأوبرا، ظنا منهم أن الفنانين سوف ترهبهم عشرات المؤيدين. وكان رد المثقفين مدهشا حين واجهوا بلطجة الجماعة ووزيرها بالأغنيات الوطنية والعروض الفنية ويتحول الاعتصام إلى كرنفال فنى يستعرض قوة مصر وإمكانياتها ويرسم على الأسفلت اروع اللوحات وتتحول وزارة الثقافة فى أيام الاعتصام إلى مسرح مفتوح يقدم كل أشكال الفنون.
وكأن طليعة المثقفين كانت أشبه بزرقاء اليمامة التي نبهت الجميع لخطورة تلك الجماعة على مصر وهويتها.
كان من الضروري أن يتم تنظيم الاعتصام حتى يحقق أهدافه ويجدد من نشاطه فتم تشكيل غرفة عمليات ضمت كلا من اللواء هشام فرج وكيل الوزارة لقطاع الأمن، والمقدم محمد الحسيني وأحمد شيحة وأحمد عبدالعزيز وسامح الصريطي وسيد فؤاد والدكتور أحمد عواض ومجدي أحمد على، ومن الخارج كان الدكتور أحمد مجاهد والدكتور سامح مهران والدكتورة إيناس عبدالدايم.
تحول الاعتصام إلى مزار لكل الثائرين وقبلة لكل الرافضين “يسقط حكم المرشد” وتطور الأمر حتى اختلطت هتافات الميادين بصرخات المثقفين وفى لحظة استثنائية فى تاريخنا النضالي يجتمع صوت الطليعة مع صوت الجماهير على هدف واحد ووحيد وفى لحظة واحدة.
شهد الاعتصام أكبر فاعلية فنية تضمنت فقرات غنائية ومعرضا للفن التشكيلي ، وحفلات فنيه شارك بالغناء عدد كبير من فناني الأوبرا المصرية كما تم عرض عدد من الأفلام السينمائية منها أفلام الثورة وهما “عيون الحرية و18 يوما.
وانهالت كل أشكال الدعم للمعتصمين حيث أعلنت أحزاب سياسية متمثلة فى “جبهة الإنقاذ الوطني” المناوئة للجماعة عن دعمها للمثقفين في احتجاجهم كما قررت الجمعية العمومية لنقابة المهن التمثيلية بالإجماع “تأييد مثقفي مصر وفنانيها في اعتصامهم الجريء والنبيل لحماية ثقافتهم وفنونهم من أي فكر يعود بهم إلى عصر الظلام والقهر والقمع الفكري والإنساني”.
استمر الاعتصام حتى 30 يونيو حين خرج عشرات الملايين من المصريين ليرددوا الهتاف “يسقط حكم المرشد ” ويحتفل المعتصمون داخل وزارة الثقافة بتلك اللحظة التي طالما حلموا بها.. إنها لحظة يجتمع فيها نخبة الوطن مع جماهيره وفى مشهد نادر وخلاق ..
مشهد يؤكد أن هؤلاء المثقفون لم يكونوا فى عزلة كما يدعى البعض بل هم نموذج واضح وقوى لذلك “المثقف العضوي ” الذى تحدثنا عن غيابه كثيرا .. ها هم يستعيدون روح المثقف الوطني الحقيقي الذى يلبى نداء الوطن ويتحمل مسؤولياته فى لحظات المحنة دون تردد ودون ان يقع أسير لحسابات ذاتية ضيقة.
قد يكون هذا هو الدرس الأهم فى مقدمة الأحداث التي مهدت لثورة يونيو ورغم أن الثقافة وصناعها قد غابوا عن صدراة المشهد فيما بعد ذلك وتراجع الاهتمام بضرورة المواجهة الفكرية والثقافية الشاملة لأفكار الجماعة وحلفائها من قوى الظلام وذلك يحتاج لتفسير ويتطلب مناقشة واسعة إلا أن الدور الذى قام به المشاركون فى اعتصام وزارة الثقافة سيظل نقطة مضيئة فى مسيرة الثقافة المصرية وصناعها لن تنحج محاولات تجاهلها أو الالتفاف عليه.

التعليقات متوقفه