محمود دوير يكتب:موسم الهجوم على ثورة “يوليو”

133

موسم الهجوم على ثورة “يوليو”

محمود دوير
ويصمتون طوال العام ليخرجوا علينا في موسمهم السنوي الذي يوافق شهر يوليو من كل عام ليمارسوا هوايتهم المفضلة في سب جمال عبدالناصر ورفاقه من ضباط ثورة يوليو 1952 .
ومع كل عام يتكرر الهجوم بذات العبارات مستندة إلى نفس المراجع التاريخية – العميقة – والمبهرة ولعل أبرزها كتاب السيدة اعتماد خورشيد “شاهدة على انحرافات صلاح نصر ” وفيلم “الكرنك ” للمخرج على بدرخان الذي يرصد التعذيب فى سجون عبدالناصر أما المرجع الأهم لديهم فهو ما رواه شيوخ جماعة الإخوان المسلمون عن الثورة ورجالها ومذكرات بعض من رموز الإقطاع وباشوات العصر الملكي ولا تغيب قطعا الدكتورة لميس جابر عن هذا العرس السنوي وهي مؤلفة أول مسلسل يرصد حياة الملك فاروق.
ولعل هذا الهجوم الموسمي من جانب المتباكين على حائط الملكية ومصر التي كانت أفضل من أوربا وعمارات وسط البلد والموضة التى كانت تصل مصر قبل فرنسا.
هذا الهجوم بكل ما يحمله من روح كارهة تبتعد عن النقد الموضوعي المعتمد على قراءة لحقائق التاريخ وظروفه الموضوعية يمثل حالة مصرية تعرض لها الكثير من علماء النفس والاجتماع والسياسة.
وفى محاولة للاقتراب والتعرف على تلك الحالة الكارهة وعلى مكوناتها التي أظنها لم تتغير كثيراً فى عناصرها منذ سبعينيات القرن العشرين عندما سمح نظام السادات لأبواق معادية لكل ما هو مرتبط بالمرحلة الناصرية وخصصت لهم البرامج الإذاعية والتلفزيونية ومساحات فى الصحف المصرية لتهيل التراب على كل ما فات كل ذلك فى سياق ما عرف حينها بثورة التصحيح عام 1971.
ولعل القراءة المبدئية لطبيعة هذا الهجوم المتواصل تكشف أن عناصره تتكون بالأساس من جماعة الإخوان المسلمين الذين حملوا ومازالوا مشاعر معادية لنظام حكم ناصر وتوجهاته ولا أظن أن الدافع الوحيد هو ما تعرض له أعضاء الجماعة من سجن وتنكيل وراء قضبان نظام حكم عبدالناصر فقد تعرض الشيوعيون المصريون لأشد ما ذأقه الإخوان وفقدوا حياة عدد من رموزهم وكوادرهم تحت وطأة التعذيب.
لكن التاريخ علمنا أن الجماعة تعادى أي مشروع وطني حقيقي ولا تؤمن سوى بالانتماء للجماعة حدث ذلك من خلال مواقف الجماعة قبل ثورة يوليو ودعمها لكل مستبد وطاغية ومن بينهم ” صدقي باشا ” وما كشفته الوثائق البريطانية عن دور الاحتلال فى دعم إنشاء الجماعة حقيقة لا تقبل الجدل.
فكيف يمكن أن ينتظر أحد من الجماعة أن تدعم مشروع جمال عبدالناصر أو أن يهيم مرشدها عشقا فى زعيم وطني التفت حوله الملايين؟.
كانت هناك محاولات حثيثة من جانب الجماعة للسيطرة على الثورة في مهدها مستندة إلى علاقة قديمة مع ناصر كما كان لها عناصر في تنظيم الضباط الأحرار كما كان للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني “حدتو ” لكن سرعان ما ظهر العداء واضحا ومستمرا بمجرد أن تمكن ناصر من السلطة عقب أزمة 1954 ومحاولة الجماعة قتل ناصر بالمنشية في أكتوبر من نفس العام ليظهر وجه الجماعة الدموي.
بالطبع فإن جماعة الإخوان قد ساهمت بشكل كبير فى تشويه تجربة مصر خلال حكم عبدالناصر كما سار فى ركبها كل جماعات الإسلام السياسي والمتعاطفين معهم وداعمي المشروع الوهابي الذى غزا مصر بداية من عقد السبعينيات وعششت أفكاره فى العقل المصري وقام بعملية إزاحة ممنهجة وممولة لكل ثوابت الثقافة المصرية كما تمكن بالعبث فى وجدان ملايين المصريين تحت دعاوى دينية.
وليس خافيا على كل متابع لمسيرة حركة الضباط فى يوليو والتي بدأت كحركة لتطهير الجيش المصري والتخلص من الاحتلال وتبعية الملك للإنجليز ثم سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية بما حصلت عليه من تأييد ودعم من غالبية المصريين والذين كانوا حينذاك من الفقراء المعدمين يسير معظمهم حفاة مما دفع الملك فاروق في 6 فبراير 1941، لتوجيه الناظر الخاص بالملك خطابا لمجلس الوزراء أعلن فيه صرف مبلغ 2000 جنيه من أجل القضاء علي ظاهرة “حفاة الأقدام” بمناسبة عيد ميلاه، وطلب منهم ان الميسورين من المصريين يتبرعوا من أجل هذا الهدف.
هكذا كان حال المصريين الذين تسابقوا لدعم الحركة المباركة وهكذا تحولت من حركة لتطهير الجيش ومحاربة الفساد والقضاء على الاستعمار وأعوانه لتصبح ثورة حقيقية تغير شكل الحياة مصر والعالم العربي وهنا يحاول البعض العودة إلى القوالب الثابتة فى تعريف مفهوم الثورة متجاهلين أن معيار الثورة الحاكم والرئيس يرجع إلى قدرة أي حركة على إحداث تغيير – ثوري – في المجتمع وهذا ما حدث فى سبتمبر 1952 عندما أعلن عن قانون الإصلاح الزراعي وهنا نعود إلى جمال حمدان وهو يتحدث عن واقع الملكية الزراعية فى مصر قبل وبعد يوليو قائلا: “عدد الملاك في مصر قبل يوليو 52، حوالي 2,8 مليون، أكثر من 2 مليون منهم يملكون 13% من المساحة الكلية، بمتوسط نصف فدان لكل، أي أنهم كانوا معدمين، في المجمل كان 94% من الملاك يملكون نحو 35% (ثلث الأرض)، هذا بينما كان الثلثان المتبقيان حكرا لنحو 6% من الملاك، منهم نحو 3,%، أي 3 في الألف يبتلعون وحدهم أكثر من (ثلث الأرض) “!.
من هنا كان التأييد الشعبي الواسع خاصة بين ملايين الفلاحين الفقراء المعدمين لنصل هنا إلى المكون الثاني لفريق الهجوم على ثورة يوليو وهم كبار الملاك فى العهد الملكي والمتعاطفين معهم من أصحاب التطلعات الأرستقراطية والعالقين في بقايا أحلامهم بالاستفادة من الحظوة الملكية في الحصول على مزيد من المال ومزيد من الوجاهة الاجتماعية.
وهنا نتذكر أن ثورة يوليو لم تخترع نظام الإصلاح الزراعي فقد شهدت مصر خلال الحكم الملكي محاولات عديدة لتنفيذ تلك الفكرة لكن نفوذ كبار الملاك وقف حائلا دون ذلك ومن بين تلك المساعي كانت محاولة النائب “محمد خطاب – عضو كتلة السعديين حين تقدم عام 1944 بمشروع قانون طالب فيه بتحديد الملكية الزراعية بـ50 فدانا مستقلا، غير أن هذا المشروع قوبل بمعارضة شديدة داخل المجلس الذي كان يسيطر علي أغلبيته من كبار الملاك.
ويبقى المكون الثالث من مكونات حلف معاداة يوليو هو تلك الشريحة التى تكونت مع هوجة الانفتاح الاقتصادي الذى شهدته مصر مع منتصف التسعينيات تلك الشريحة التي طفت على السطح بين عشية وضحاها وكونت ثروات سريعة عبر أنشطة اقتصادية أساسها العمولات والسمسرة وبعد ذلك الحصول على توكيلات المنتجات الغربية فغرقت البلاد في بحور الاستهلاكية كما صنعت لنفسها نسقا ثقافيا كان متلازما مع شعارات دولة العلم والإيمان ومفاهيم أخلاق القرية والعيب.
تلك الشريحة التي كان نموذجها الفني أحمد عدوية وكتكوت الأمير وكانت كتابات “أنيس منصور ” و”موسي صبري ” هي المكون المعرفي لها .
نمت تلك الشريحة واقترب رموزها من صناعة القرار وتحالفت فكريا وثقافيا واقتصاديا – فى حالات عديدة – مع جماعات الإسلام السياسي ليصنع ثلاثي خصومة مرحلة عبدالناصر جدارا قويا لحماية مصالحهم من شبح ناصر الذى رحل عام 1970 لكن مشروعه مازال يقلق منامهم ومع كل مظهر لمحبة الجماهير له والحنين لأيامه يزداد القلق من شبحه ويتنامى الخوف على ما حققوه من مكاسب اقتصادية وثقافية.
لعل الملايين الذين مازالوا يحتفظون بصور “ناصر ” فى منازلهم وتدمع عيونهم شجنا عند سماع صوته فى خطبه القديمة هم الحصن الباقي والأمل الحقيقى والرهان الأكبر على وطنية وإخلاص مشروع ثورة يوليو بكل ما بها من أخطاء عظيمة وانتصارات عظيمة.

التعليقات متوقفه