ثورة يوليو فضاءات مفتوحة على ثقافة الشعب

211

علاقة ثورة يوليو 1952 بالثقافة علاقة وثيقة على مختلف الأصعدة، هي علاقة بناء وتأسيس لكيانات ثقافية ما زالت تعطي حتى الآن، وتأثيرها واضح في الحياة المصرية، منذ تأسيس وزارة الثقافة في خمسينيات القرن الماضي، وتحديدا منذ تولي ثروت عكاشة هذه الوزارة والذي حول الثقافة إلى عمل مؤسسي، فأنشأ “مصلحة الفنون” وأسند رئاستها للأديب الكبير يحيى حقي ، كما أنشأ مؤسسة السينما والتي تولت الإنتاج السينمائي، فشهدت تلك الفترة ازدهار السينما المصرية وبلغ الإنتاج السينمائي ذروته في فترة الستينيات في طفرة غير مسبوقة، وفي المسرح تم إرسال البعثات الفنية للخارج، ونتج عنها تأسيس عدد من المسارح التجريبية مثل “مسرح الجيب” على يد سعد أردش، وكذلك “مسرح الطليعة” و”مسرح الغد” و”مسرح العرائس”.
كما كان لتأسيس “الثقافة الجماهيرية” والتي تم إسناد إدارتها للكاتب الصحفي ذي الميول اليسارية سعد كامل، أثر واضح في تطور الثقافة المصرية، حيث بدأ الاهتمام بوصول الخدمة الثقافية للريف والقرى والنجوع.
وتولي إدارة الثقافة في الأقاليم عدد من المبدعين مثل هبة عنايت في أسيوط وعزالدين نجيب في كفر الشيخ. وعلي سالم في أسوان.
كما كان لإنشاء “أكاديمية الفنون” دور مهم في الدراسة الأكاديمية للفن من خلال معاهدها المتخصصة مثل “معهد السينما” و”معهد الفنون المسرحية” و “معهد الباليه” و “معهد النقد الفني” و”معهد الفنون الشعبية”.
ومع ثورة يوليو ظهرت حركات التجديد الثقافي والفكري والإبداعي ، وخاصة حركة شعر التفعيلة أو الشعر الحر ، على يد صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي في مصر ،..
كما ظهرت حالة من التجديد المسرحي المعتمد على فكرة تأكيد الهوية المصرية والعربية ، فظهرت عدة إتجاهات مسرحية ، منها المسرح الواقعي ، المتأثر بالأفكار الإشتراكية والماركسية ، تجلى ذلك في أعمال نعمان عاشور وميخائيل رومان ، والمسرح الشعبي ، كما في تجربة محمود دياب وسعدالدين وهبة ، والمسرح الذى عمل على إستلام التراث العربى ، لنقد الواقع الإجتماعى والسياسى المعاصر كما في أعمال ” ألفريد فرج ” وكذلك المسرح الشعرى عند صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوى .
المسرح الشعبي
في بداية الستينيات من القرن العشرين قامت مؤسسة المسرح التابعة لوزارة الثقافة المصرية- بتوجيه من د.ثروت عكاشة – بإنشاء عدد من الفرق المسرحية بالمحافظات المختلفة في محاولة لتفتيت المركزية الثقافية التي جعلت كل الأنشطة تتركز في القاهرة – فقط – ما أوجد فجوة معرفية بين الخطاب الثقافي وبين القاعدة الشعبية في القرى والنجوع .
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى مقال للكاتب الراحل سعد الدين وهبة نشر في جريدة الجمهورية بتاريخ 2 ديسمبر 1963 ، يؤكد فيه على أنه ” من حق الشعب في المحافظات أن يشارك في النهضة الفنية ، وأن ينفعل بها فسكان عواصم المحافظات ، وسكان بعض المراكز ليسوا منعزلين تماماً عن الحركة الفنية ، فبعضهم قد تساعده ظروفه على لقاء الفن في القاهرة أو الإسكندرية ، وبعضهم يتلقى الفن عبر الأثير عن طريق التليفزيون أو الراديو ولكن النظرة الأعم – على حد تعبير ” وهبة ” – لابد وأن تكون للملايين الذين لا يعيشون في العواصم الكبرى ولا في العواصم الصغرى ، هؤلاء الذين حرموا من كل شيء فقد آن الأوان لنرد لهم بعض ما فقدوه ، إننا نريد من فرق المحافظات أن تكون للقرى والنجوع والكفور ” .
وقد لفت هذا التوجه نحو المسرح الشعبي مجموعة من الفنانين والمخرجين من خريجي معهد الفنون المسرحية أمثال عادل العليمي الذي أنشأ فرقة مسرحية في قرية ” البراجيل ” وأعتمد فيها على إطار فني يقوم على توظيف آليات ” مسرح المناقشة ” وإن جاء ذلك في بداية السبعينيات ، إلا أن هناك تجربة رائدة لابد من التوقف عندها ، أخذت من الدعوة التي ظهرت في منتصف الستينيات بضرورة وجود ” مسرح مصري ” يعتمد على خامات مسرحية مصرية خالصة على مستوى الرؤية والأداء ، وهى تجربة المخرج محمد هناء عبد الفتاح في قرية ” دنشواي ” بمحافظة المنوفية في عام 1968 والتي جاءت كمغامرة – من هذا المخرج الشاب وقتها – والذي كان من الممكن أن يركن إلى العمل الأكاديمي الذي تخرج عام 1966 بتقدير امتياز ، وكان الأول على دفعته التي كان من بينها الفنانة سهير المرشدي ود. هاني مطاوع والمخرجة رباب حسين ، لكنه رفض العمل الأكاديمي – في البداية – واتجه إلى تنشيط المسرح الإقليمي باقتراح من الأستاذ سعد كامل الأب الروحي للثقافة في الأقاليم والذي عينه أخصائياً للمسرح في الثقافة الجماهيرية .
ومع تولى الفنان حمدي غيث إدارة المسرح وكان الكاتب الراحل ألفريد فرج مستشاراً لها ، طلب منه تكوين فرقة مسرحية في ” دنشواى ” كنواة لما يمكن أن يسمى ب ” مسرح القرية ” بالإضافة إلى تكوين مركز ثقافي فيها .
ولأن الظروف لم تكن تتيح فرصاً للتجريب – في هذه القرية الفقيرة – ذات البعد التاريخي والوطني العميق ، فليس هناك خشبة مسرح ، وليس هناك فرقة للتمثيل ، ولا يوجد سوى عدد قليل من ” الطلاب الجامعيين” الذين لا يملكون مهارات فنية تساعدهم على القيام بنهضة ثقافية في القرية .
فماذا يقدم هذا الشاب القاهري ؟ ماذا يقدم لأهل القرية البسطاء ، وهو لا يملك في جعبته إلا مهارات الفن ، والاعتماد المالي المرصود للمشروع لا يكفى لإنشاء مسرح بسيط أو استقدام ممثلين من القاهرة – حتى ولو من الهواة !
وهنا تساءل هناء عبد الفتاح : ترى ماذا يفعل أهل القرية لو قدم لهم أعمال يونسكو أو بريخت أو إدوارد إلبى أو أربال أو كوكتو ، إن الضرورة تحتم عليه أن يتعامل مع الوضع القائم بجفافه المادي وفقره الفني ، وتحتم أيضاً أن يبدأ مشروعه من المكان لذا جاءت الرؤية الإخراجية – التي حولها – وليدة العملية الإبداعية للعمل المسرحي ، فجاء اختياره لمسرحية ” ملك القطن ” ليوسف إدريس – والتي تدور في واقع ريفي محتشد بالصراعات ، وجاء اختياره هذا لخبرته السابقة في تقديم هذا العرض ، والذي قدمه على خشبة المسرح القومي ببطولة للفنانين شفيق نور الدين و فردوس محمد و عبد الرحمن أبو زهرة .
عثمان الخبيرى ويعمل ترزيا
وعبد الوارث زهو ويعمل سمساراً لبيع العجول .
وأم محمد إسماعيل وتبيع الفول السوداني
وصابحة عبد السميع
وسميرة عزب – وهما بائعتا لبن
والشافعي الجيار – ويعمل ترزياً
وربيع عمران ويعمل تومرجياً
ومحمد متولي– وهو طالب في القرية – الفنان التليفزيوني الشهير بعد ذلك –
وحمد إسماعيل ويعمل بتجارة الحبوب
وسهير إسماعيل – طالبة من بنات القرية .
هؤلاء البسطاء ، كانوا أبطال العرض ، وهنا تكمن أسباب نجاح التجربة حيث فطرية الأداء أعطت رحابة وفضاءات أخرى لانطلاق هذه الأرواح المعذبة بالبحث عن لقمة العيش – في رحاب الفن .
ومن ينظر إلى ” عثمان خبيرى ” الفلاح المقهور وهو يجلس القرفصاء ، ويعلن احتجاجه على رمز الاستغلال في القرية ومن يتاجرون بقوت الغلابة يرى صوراً حقيقية للفلاح المصري الثائر على الظلم والاستبداد والباحث عن الحرية المصرية على امتداد تاريخها ، لما فيه من صدق فني وبلاغة اللحظة إن صح التعبير .
وليس بمستغرب أن يأتي هذا الأداء المتفرد من أهل ” دنشواي ” فأحفاد ” زهران ” أثبتوا أن لغة الفن تكمن في عمق الروح ، وأنهم كما ضرب أجدادهم مثالاً صادقاً في الكفاح الوطني والدفاع عن الشرف ، فقد ضربوا هم – أيضاً – مثالاً في المثابرة وإثبات الذات .
وليس أدل على ذلك من أن هذا العرض حضره يوسف إدريس ود. ثروت عكاشة – وزير الثقافة في ذلك الوقت – والذي شجعته التجربة والتي عرضت في مسرح مكشوف في أحد أجران القرية إلى افتتاح مسرح ” الماي ” وهى قرية مجاورة لدنشواي ، وهو أول ” مسرح جرن ” كمعمار مكشوف في مصر .
وقد قدم المخرج د. هناء عبد الفتاح على خشبته – بعد ذلك – عرض ” ارتجالية عن دنشواي ” وهو عبارة عن تأليف جماعي قام فيه مخرج العرض بدور ” الدراماتورج ” ويتناول حادثة دنشواي 1906 ، وأبطالها ، وتم تقديمه عام 1970 وقد شاركته في إعداد هذه المسرحية الكاتبة المسرحية د. نادية البنهاوي .
وكان لهذه التجربة الثرية أثر واضح – بعد ذلك – في المنهج الذي اتخذه د. هناء عبد الفتاح في المسرح حيث بدأ في تكوين ” ورشة مسرحية ” يكتشف من خلالها المشاركون لغتهم وحوارهم .
ثم قدم مسرحية ” الفيل يا ملك الزمان ” لسعد الله ونوس والذي يناقش ثنائية السلطة كقوة قاهرة والشعب المستنزف من جراء أفعال هذه السلطة ، وقد تم دمج نص ” ونوس ” مع رواية ” رحلة قطار ” لتوفيق الحكيم عبر جدلية الرؤية . وقد لاقى العرض ترحيباً نقدياً من قبل النقاد محمود أمين العالم وأحمد عبد المعطى حجازي وفريدة النقاش وفاروق عبد القادر وأحمد عبد الحميد .
وفى فترة عمله بمحافظة البحر الأحمر كمدير لقصر ثقافة الغردقة ظل هاجس التجريب المسرحي يراود د. هناء عبد الفتاح حيث أكد لى في لقاء خاص معه أنه اكتشف أن هناك الآلاف من عمال التراحيل يعملون في المناجم يموتون بالسل – تماماً – فبدأ يقدم حياتهم كدراما في إطار مسرح شعبي كان أبطاله من هؤلاء العمال البسطاء .
وعن تجربته يقول هناء عبد الفتاح في مقال له تحت عنوان ” وداعاً أيها المسرح ” نشر في مجلة فصول في ربيع 1995 : كانت أهم تجربة لي على الإطلاق تجربة ” فرقة فلاحى قرية دنشواي ” وأهميتها تأتى من أنها أثرت إمكانية صياغة العرض المسرحي المفتوح ” الجرن – افتراش الأرض – الغيط – فناء سجن ” داخل قرى مصر ومدنها واكتشفت آنذاك الإمكانات الهائلة لمسرح يقترب من الظاهرة المسرحية الحديثة .
فرقة الغوري
في الستينيات كان هناك ازدهار لفرق التليفزيون المسرحية والتي أنشأت عام 1962 وقدمت مجموعة من العروض التي لاقت نجاحاً كبيراً على المستوى الجماهيري والنقدي وكان من ضمنها فرقة “المسرح العالمي ” التي كانت تقدم أشهر النصوص العالمية ومن بين العاملين فيها المخرج عبد الرحمن الشافعي .
ومع انتكاسة يونيو تراجعت هذه الأنشطة وسرح العاملون في هذه الفرق ومن بينهم ” الشافعي ” الذي اتجه إلى مسرح الثقافة الجماهيرية فكلف من قبل الكاتب المسرحي سعدالدين وهبه والفنان حمدي غيث بإنشاء ” فرقة مسرحية ” في ” وكالة الغوري ” بحي الأزهر .
وهناك وجد ” الشافعي ” نفسه أمام حالة مصرية خاصة من خلال نمط اجتماعي شعبي له عاداته وتقاليده وموروثه الشعبي والإنساني على مستوى البشر وعلى مستوى الطبيعة المكانية .
فماذا يقدم لهذا الجمهور المختلف كل الاختلاف عن جمهور المسرح القومي ومسرح التليفزيون الذي قدم من خلاله أعمال شكسبير وموليير ودرونمات وبراندللو وإبسن وثيوتكا .
كان عليه – إذن – أن يوازن بين ما درسه وقدمه – من قبل – وبين مناخ الحي الشعبي بالغورية وحارة الروم والمغربلين ، كذلك كان عليه أن يبحث عن صيغة مسرحية تلائم المعمار العربي الخالص لوكالة الغوري .
مما جعله يبحث في موروثه الذاتي من خلال العودة إلى الأب والبحث الجاد عن الينابيع الثقافية المصرية الجذور، وهو القروي القادم من محافظة الشرقية الذي سحرته أضواء المسرح فترك من أجلها دراسة الحقوق وراحت غواية المعرفة والتجريب تلقى به من أرض إلى أرض حتى استقر في فضائه الأول ، فراح في البداية في بحث حثيث يراود المكان لمعرفة تفاصيله الصغيرة .
ويحكى ” الشافعي ” في شهادة له عن تلك المرحلة نشرت بمجلة ” فصول ” في عدد الربيع عام 1995 قائلاً : تصادقت أولاً مع مجموعة الممثلين الهواة وبعض الشعراء والزجالين والمطربين ” تصعلكنا ” معاً في الحواري والأزقة وعلى أرصفة الشوارع وتنقلنا بين المقاهي والحوانيت ، وعاشرنا أهل الحي وتصاحبنا وصرت ” زبوناً ” معروفاً لمطاعم الفقراء والباعة عابري السبيل وشد إنتباهى شغفهم بالمغنى في الأفراح والموالد في الأزقة والساحات ، أصغيت على دقات الصنايعية ونداءات الباعة في الحواري جذبني الدراويش و ” مقاطيع ” الحسين وماسحو الأحذية وباعة الكتب في حي صاخب لا يعرف النوم ، أيقنت أين يكمن الشعب الحقيقي _ صوت مصر الصريح – إنهم جماعة ذات مزاج خاص يحتفون بالصحبة والألفة ، يشكلون كتلة إنسانية شديدة التماسك في روعة الأهرام وتعانق المآذن والقباب ، تلتصق أكتافهم معاً في الأسواق والموالد حتى في المآتم يتقاربون يتحابون يحتفلون دون فوارق ”
في عالم أولاد البلد – إذن – ولدت التجربة ، وجاء اختيار ” عبد الرحمن الشافعي ” لنص شعبي شديد الخصوصية ليكون بداية التلاحم بين هذا الجمهور المتعطش لفن يعبر عن واقعة وبين مخرج تلبسته حالة إبداعية تحاول أن تستنطق الموروث الشعبي خاصة صورة ” البطل ” في الحكاية الشعبية ، فكان اختياره لأدهم الشرقاوي ليكون باكورة العروض في ساحة الغوري بممثلين هواة .
وأدهم الشرقاوي بطل شعبي من مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة تصدى لظلم الإقطاعيين فخلدته الذاكرة الشعبية وترددت حكايته على الألسنة من جيل إلى جيل، وتناولته الإذاعة والسينما في فيلم شهير بطولة الفنان عبد الله غيث وقام المطرب الراحل عبد الحليم حافظ بدور الراوي للأحداث عبر عرض غنائي

ولكن كيف تم الربط بين المكان التاريخي ” وكالة الغوري ” وبين النص الشعبي من خلال التقنية المسرحية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من وأن نعرف طبيعة المكان الذي تم فيه العرض ، فساحة الغوري واحدة من المباني ذات الطرز المعمارية العربية التي أنشئت في العصر المملوكي على يد السلطان الغوري وكان إنشاؤها بغرض التجارة واستقبال التجار الوافدين إلى مصر من الأقطار الأخرى وهو عبارة عن مساحة مستطيلة في صحن الوكالة في منتصفها نافورة مثمنة الأركان يبلغ ارتفاعها 40 سنتيمتراً بينما حول هذا المستطيل توجد مجموعة من الأعمدة الحجرية تحمل مجموعة من المشربيات و البواكي أسفلها عدد من الأبواب الصغيرة لمجموعة من الدكاكين التي تعلوها ثلاث طوابق يوجد بها غرف لسكنى التجار الوافدين ، حيث كانوا يقيمون بالقرب من تجارتهم .
وكان على ” الشافعي ” الذي وعى تماما ًالأهمية التاريخية لهذا الأثر الهام – ذي الطابع المعماري الخاص – أن يتعامل معه بحرص شديد، فليست هناك خشبة للمسرح أو مقاعد للجمهور ، مما يجعله يفكر في عرض مسرحي تجريبي يتلاءم مع طبيعة المكان وأهل المنطقة أيضاً فتأكد من أن أفضل الحلول تكمن في فنون الفرجة القائمة على التفاعل والمشاركة فاتفق مع مصمم الديكور ” محمد عبد الفتاح ” على استخدام ” النافورة ” – والتي تقع في منتصف الساحة – كمنصة للعرض وذلك بتغطيتها بقرصة خشبية ، أما الجمهور فيقف كحلقة حولها من كل جانب والمشربيات تكون أماكن لكبار المشاهدين من الشخصيات العامة ، وتم دخول الفنانين المشاركين في العرض من وسط الجمهور ليصبح الجمهور جزءاً من العرض من خلال الاندماج الكامل مع أبطاله من الممثلين .
وقد اعتمد ” الشافعي ” على تيمات المسرح الفقير فخشبة المسرح الفقير فخشبة المسرح لا يوجد فيها سنوغرافيا أو ديكور ، حتى أدوات العرض لم يكن هناك سوى ثلاث بنادق ومجموعة من العصي وفؤوس الفلاحين
ومن ناحية شكل العنصر الدرامي فقد وضع المخرج الممثل الذي قام بدور ” أدهم الشرقاوي ” والمطرب الذي يروى الأحداث في وسط الجمهور على المنصة وجعل الباشا ومأمور المركز – الذين يمثلان رمز السلطة – في البواكى وبين المنصة والبواكى انفصال مكاني ومعنوي شاسع .
وفى هذا التقسيم دلالة فنية ذات بعد سياسي واضح تناقش وضعية الشعب المتمثلة في صورة البطل الشعبي والسلطة القاهرة في ذلك الزمان .
وإذا كان العرض هو وليد البيئة الشعبية ، فلا بد من أن يكون متاحاً للجميع من أبناء الشعب لذا كانت تذكرة الدخول هي ” ثلاثة قروش ” فقط وقد قام على تنظيم الدخول والخروج مجموعة من أبناء الحي وقد استمر عرض ” أدهم الشرقاوي ” ثلاثمائة ليلة بدأت عام 1968 وانتهت في منتصف 1970 ، ولقد اختير ليكون باكورة الأعمال التي قدمت على مسرح السامر الذي تم افتتاحه عام 1971 .
وكانت الإرهاصة التي قادت مخرجه إلى عرض آخر لاقى إقبالاً جماهيريا ونقدياً هو ” على الزيبق ” والذي عرض لعامين متتاليين 1972 – 1973 من خلال فرقة مسرح السامر وقد طاف العرض قرى ومدن مصر المختلفة فعرض في إستاد المنيا الرياضي وفى كثير من ساحات وأجران الوجه القبلي .
ويحكى ” عبد الرحمن الشافعي ” قصة طريفة وقعت لهم أثناء تقديم عرض ” أدهم الشرقاوي ” بمدينة قها بمحافظة القليوبية عام 1969 حيث كان المسرح عبارة عن منصة أسمنتية تتوسط القرية ، وحضر الجمهور بأعداد غفيرة كبيرة ومن بينهم عمدة القرية وكبار الأعيان وبدأ الخفراء ينظمون الجمهور بعصيهم ومع بداية العرض تفاعل الجمهور من الحكاية فبدأوا يصعدون إلى جنبات المنصة المسرحية وأفلتوا من حصار الخفراء بعد أن ذاب الجميع في المشاهدة . وهذه القصة رغم بساطتها الشديدة وما تحمله من طرافة تؤكد على قيمة التجربة التي قدمت مسرحاً بلا حواجز يتماس مع الجمهور الحقيقي ، المتعطش لتجارب تشخص وتجسد همومه وأحلامه .
وقد فتحت هذه التجربة الباب لمخرجها للغوص في بحر التراث الشعبي فقدم بعد ذلك ” الفلاح الفصيح ” في عرض ” حكاية من وادي الملح ” و ” سعد اليتيم ” و ” عاشق المداحين ” و ” حسن ونعيمة ” في رائعة ” منين أجيب ناس ” وقصة ” السيد البدوي ” في ” مولد يا سيد ” و ” أبو زيد الهلالي ” في سيرة ” سيرة بني هلال ” و ” ليلة الرؤية ” و ” الليلة الكبيرة ” مستخدما في تلك العروض تقنيات شعبية كالسرادق وخيمة السرادق والساحات الشعبية ، وقبل ذلك وبعد ذلك مستلهماً روح الشعب والتي – هي بحق – جوهر أي عمل فني خالد .

 

التعليقات متوقفه