د جودة عبدالخالق يكتب: أمريكا وأفغانستان والتاريخ

676

إن من لا يقرأ التاريخ ويعى دروسه جيدا، يدفع ثمنا باهظا. ويكون الثمن مضاعفا لمن لا يقرأ الجغرافيا بعناية. ويبدو أن هذا هو حال الولايات المتحدة الأمريكية. فَمِنْ فَرْطِ غطرسة القوة، أصبحت أشبه بالدولة المارقة. فقد اعتاد الأمريكيون أن يفرضوا قوانينهم على باقى خلق الله. يفعلون ذلك في مجال التغيرات المناخية، وفى قضايا التجارة الدولية، وفي شؤون الصحة العالمية، وفي مجلس الأمن. ورتبوا الأوضاع لصالحهم في البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. ونسوا، أو جَهِلوا، أن التاريخ له قوانينه التي تسرى على كل الدول- شاءت أم أبت. وأمريكا تأبى، وبالتالى فإنها تتصرف باعتبارها فوق الجميع، بما في ذلك تاريخ البشرية بقوانينه الصارمة! فهل ثمة حماقة أكثر من ذلك؟ وها هي أمريكا قد تصورت أنها ستنجح في أفغانستان فيما فشل فيه الروس، وقبلهم الانجليز. بل إن الاسكندر الأكبر سبق كل هؤلاء الى نفس المكان في القرن الثالث قبل الميلاد. تاريخ أفغانستان وجغرافيتها تقول إنها معبر، وليست مقرًا.

لقد غَرَزَت أمريكا نفسها في المستنقع الأفغانى. وهى عاجزة الآن عجزًا فاضحًا عن الخروج الآمن من ذلك البلد، الذى يؤكد تاريخه أنه عَصِىٌّ على الحُكْم. وهى لم تستوعب دروس تاريخها العسكرى الحديث؛ خصوصًا حرب فيتنام، التي مُنِيَت فيها بخسارة جسيمة. وتذكرنا مشاهد الخروج الأمريكي المرتبك من كابل حاليا بمشاهد مثيلة للخروج المهين من سايجون عام 1975، بعد الهزيمة القاسية للأمريكيين وحلفائهم الفيتناميين الجنوبيين في حرب فيتنام. وهذا يفرض السؤال: لماذا يتجاهل الأمريكيون التاريخ؟ هناك سببان على الأقل. أولا، غِواية القوة المفرطة. ففي اللحظة التاريخية الحالية، أمريكا هى صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ولها الريادة التكنولوجية في عدة مجالات، وتملك أكبر قوة عسكرية. ثانيا، إن حظ أمريكا من التاريخ متواضع. فهي صاحبة أقصر تاريخ بين مجموعة الدول الكبرى؛ حيث لم تبلغ قرنين ونصف قرن من العمر بعد.
وبتعبير ابن خلدون، فإن الدولة الأمريكية في اللحظة التاريخية الراهنة تعانى بصورة متزايدة من مظاهر خلل واضحة بين مقوماتها الثلاثة: المال والجُنْد والعدل (العدل أساس الملك). وبلغتنا المعاصرة هذا معناه افتقاد التوازن بين العناصر الثلاثة لقوة الدولة: الأساس الاقتصادي الراسخ والقوة العسكرية الفاعلة والعدل للجميع. بعبارة أخرى، فإن عبء الانفاق على التورط العسكرى الأمريكي في الخارج أصبح أكبر من أن يحتمله اقتصادها. فرغم أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو أكبر اقتصاد على مستوى العالم (أقل قليلا من مجموع ربع الناتج المحلى الاجمالى لكل الدول)، إلا أنه يتراجع بوضوح. ولن يمر وقت طويل حتى تزيح الصين أمريكا عن موقع الصدارة الاقتصادية عالميا. وبتراجع القوة الاقتصادية لأمريكا، فلا بد أن تتراجع قوتها العسكرية.
وكما أوضح بول كينيدى في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى”، فإن التمدد الجغرافى المفرط هو أحد أسباب سقوط تلك القوى بسبب عجز مركزها عن السيطرة على أطرافها. وينطبق ذلك على حالة أمريكا الآن؛ إذ يبلغ عدد قواعدها العسكرية الخارجية أكثر من عشرة أمثال ما لدى بريطانيا وفرنسا وروسيا مجتمعين (800 قاعدة مقابل 30). لكن ربما كان العامل الأهم في سقوط أمريكا كقوة عظمى هو الاستقطاب الداخلى نتيجة غياب العدل في المجتمع الأمريكي. فالتفاوت الاقتصادى في أمريكا هو الأكبر بين دول مجموعة السبع (نادى الأغنياء المكون من أمريكا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان). وطبقا للاقتصادى جوزيف استيجليتز، الأستاذ بجامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإن السياسات المطبقة منذ عهد الرئيس ريجان أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى وازدياد التفاوت الاقتصادى والاستقطاب الاجتماعى والسياسى. وقد ظهر ذلك بوضوح في الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
حكمة اليوم:
وتلك الأيام نداولها بين الناس.

التعليقات متوقفه