رحلة النهار والليل..شريف صالح

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

169

رحلة النهار والليل
شريف صالح

خرجنا مع بزوغ الشمس أنا وأمي وأبي. لا نحمل أي شيء في أيدينا. سرنا في طريق ترابي ممتد، على جانبيه صف نخيل قصير إلى درجة أن السباطة المثقلة بالبلح كانت في متناول يدي تقريباً.
قلت لأبي: “أريد بلحة!”
شدني من ذراعي وقال: “لما يحمر”
كانت أمي صامتة وتداري وجهها عني.
في الطريق مررنا على بائع يقف وراء عربة خشبية ملونة بالأحمر والأصفر والأبيض والأزرق، وعلى قوائمها العلوية يعلق كرات وبالونات بكل الألوان كانت تتأرجح في الهواء.
ـ “الله.. كرة.. كرة جميلة يا أمي!”
أخرج أبي نقوداً من جلبابه الواسع ووضعها في يدي
“اشتر لك واحدة وتعال بسرعة”
عدتُ فرحاً بالكرة لكن أبي عنفني بشدة ولكزني في صدري وهو يسألني عن باقي الفلوس، لولا أمي جذبتني بعيداً عنه وضمتني إلى صدرها، دون أن تنظر في وجهي.
لم تدم بهجة امتلاك كرة سوى لحظة، ثم تلاشت بعد لكزة أبي. كتمت دموعي حتى لا يعنفني أكثر. واصلنا سيرنا، وفي الطريق تركت الكرة تنزلق خلسة من يدي.
من بعيد نظرت إلى الخلف فرأيتها تطير في الهواء بخفة إلى أن علقت بين جريد نخلة.
طول الرحلة لم يسأل عنها أبي!
إلى أن وصلنا إلى ساحة الألعاب. رأيت أطفالاً يلعبون بالكرة وآخرون يدخلون إلى صناديق ملونة وسط تصفيق أصحابهم. كان لكل صندوق مروحة من أعلى تجعله يشبه الطائرة.. وكانت الصناديق تطير بالأولاد الصغار هنا وهناك ثم تهبط بطريقة مرحة وتستقر بعد دقائق على الأرض، مرة أخرى.
لعبة مسلية.. لو أمتلك صندوقاً وأطير به!
نهرني أبي عندما لمحني أمد يدي وأحاول لمس أحد الصناديق الطائرة.
بعد العصر بقليل غادرنا ساحة الألعاب أنا وأبي.
لم تكن أمي معنا ولا أعرف أين اختفت في الزحام! أبي لم يخبرني أين ذهبت! ربما تاهت منا أو ركبت أحد الصناديق وطارت. لا أعرف!
رآني أبي أتلفت حولي فأخبرني أن أمي قالت إنها ستلحق بنا عند النهر.
بعد أن كنت أسير بين أبي وأمي، مشيت وراء أبي متراجعاً خطوة أو خطوتين حتى لا يلكزني في صدري كلما أغضبه شيء. كنتُ أرى جسده يزداد انحناء وشعره يبيض ويتساقط إلى أن وقفنا أخيراً على حافة النهر.
خلعنا ملابسنا. وضمني أبي بين ذراعيه ـ لأول مرة ـ وهو يهبط بي في الماء. كان الماء دافئاً لكنني كنت مرعوباً وجسدي كله يرتعش وينتفض.
تركني أبي متشبثاً بجذع شجرة صفصاف وراح يسبح حولي، هنا وهناك. ثبّت عيني على حركات جسده حتى لا يغيب كما غابت أمي.
وجدتني دون أن أترك جذع الصفصافة أقلد حركاته.
أناس كثيرون نزلوا.. استحموا وذهبوا.. لكن أبي ظل في النهر.. كان يختفي عن عيني لدقائق ثم يظهر فجأة بالقرب مني.
بعد الغروب، رأيت أطفالاً يتشبثون مثلي بجذوع الأشجار وأعواد الغاب ونبات السمار. على بعد خطوتين كان أبي يمسك بطرف صفصافة ويغمض عينيه متعباً وهو يلهث.
لأول مرة أرى وجهه بوضوح، مغسولاً في الماء.
بعد اختفاء الشمس، مر على الشاطئ رجل يحمل مصباحاً في يده. أحسست بالاطمئنان لضوء المصباح واهتزازه وانعكاسه على سطح النهر. كلما ابتعد الضوء عنا كان قلبي ينقبض، ويزداد انقباضاً مع عتمة وسكون الماء.
لم لا أجرب أن أصل إلى القاع وأختبر عمق الماء؟!
مددت قدمي لأسفل دون أن أتخلى عن جذع الصفصافة لكن القاع كان بعيداً جداً لا يمكن لقدمي أن تصل إليه وتلامسه.
رفعت رأسي فوق الماء مرة أخرى ونظرت في اتجاه أبي.. لا أثر له!
صرخت في الليل:
“أبي”!
“أبييي”!
“أبييييييييييييييي”!
كان صدى صرختي يتردد مثل تموجات صغيرة ويتلاشى.. عيناي تتلفتان في ذعر يميناً ويساراً:
“أبيييييييييييييييي”!
لا أثر لأبي بين الأجساد المتشبثة بجذوع الأشجار ونباتات الشاطئ.

التعليقات متوقفه