الْفِرَارِ..قصة قصيرة..إيهاب قسطاوي

يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com

67

قصة قصيرة

الْفِرَارِ

      إيهاب قسطاوي

”امْتَدَّ جمع العَائِلَةُ , كلاً منهم يَرْكَنُ في ركنه الذى ألفه , حولَ الطَّاولةُ العامرة بما لذَّ وطابَ من الأطباقِ الشّهيّةِ والمتنوّعةِ الّتي تَستغيثُها الأذواقُ  , كانت الأم تقبع على رأس الطَّاولةُ زاهيةً مزدهرةً  , كجندي خرج للتوّ من مَيْدَانُ الْحَرْبِ ظافِراً مُنْتصِراً , بعد عناء يومٍ شاقٍّ من العمل المضْنِي , وقفتُ خلاله طويلاً فى غُرْفَةُ الْمَطْبَخِ , لتحضير وطهي طعام الإفطار , وفي مواجهتها جلس الأب متذمراً ساخطاً ناقماً , كعادته  دائما يساوه الشعور بعدم  الاكتمال , باحثا عن  شي قد يجهله هو ذاته , حتى يبرر تَجَهَّمَهُ الدائم . وعلى يمينه كانت الإبنة تحدّق في كأس عصير قمرالدين البارد، المتلألىء بالندى

متوجسة من أمها التى كانت تقف حائلا بينها وبينه دائما قائلة : ”تناول العصير بعد الطعام“, حتى باتت  لاَزَمَهُ ترافقها في كُلِّ الأَحْوَالِ. بينما اتخذ الابن موقع الاستهداف، منتظرًا اللحظة المناسبة للانقضاض  عَلَى فرِيسَتِهِ الثمينة المتمثَّلة في وعاء البطاطس باللحم.

 بدا الجميع  فى حالة ترقب لسماع مدفع الإفطار , وبعد مضي دقائق من حبس الأنفاس , انساب صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بلحنه المقدس الذى لاتخطئه أذن سامع , مقرونًا بأصوات المفرقعات والألعاب الناريّة , الله أكبر , الله أكبر , خَيْطً نَوْرانِيًّ موصول مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ.

 أخيرا بدت على الوجوه الساهمة علامات الارتياح , التى كادت أن تكون مفقودة طوال هذا النهار الرمضاني القائظ ، فتسابقت الأيدي آلمٌمتدّة قبل الأفواه المشرعة , والعيون المحملقة قبل الأمعاء الخاوية ، تغترف بنهم  كل ما تطالهُ.

خيم على المكان صمت مطبق لثوان قليلة ، على إثر أصوات لاَحَتْ من بعيد , كنجم وضّاء يقترب، ثم بدأت في التعالي رُوَيدًا رُوَيدًا، حاملة في طياتها ضجيجًا مبعثرا , كفيل بأن تقتفي الآذان أثره لفك شفرتة، إلا أنها كانت محاولات يائسة مما دعا الأب إلى أن يشير لابنه أن يشرع أبواب الشُّرْفَةُ , لاستطلاع مايجرى في الشارع.

قام  الابن صاغرا ، متخليا عن موقعة المميز على المائدة، شرع البَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ , وأطلّ برأسه وزم عينيه، ليجد حشداً غفيراً من أهالي الشارع ملتفة حول شَجَرة الكَافُورُ العتيقة التي تتوسط الشارع , أخذت على عاتقها مهمة بسط ظِلالَها علية. كانوا يشيرون بأيديهم  إلى أعلى الشجرة، ويتبادلون أطراف الحديث بصوت يكاد يكون مسموعاً، لكنه غير واضح . فَنَادَى الإبن  من أعلى الشرفة على  أحد المتجمعين، بدا وكأنه يَعرِفُه حقَّ المَعرِفة , و سأله : ”ماذا يحدث هنا ياصديقي؟“ , فابتسم له قائلاً :  ”إنه  القِرْدُ. القرد الموجود فى قصر ”علوان“  هرب للتو من قفصه الحديدي, و ”علوان“ أمر حراسة  أن لا يعودوا  إلى القصر إلا والقِرْدُ  مَعَهُم، حتى لو إقتضى الأمر أن يصيبوه برصاص بنادقهم ويبدو أن المطاردة ستكون مثيرة.

 لم يمض وقتٌ طويل حتى امتلأت شرفات وأسطح المنازل بالمتفرجين المترقبين لفصول هذة المطاردة حامية الواطيس بين حرّاس ”علوان“ و القِرْدُ , و من الذي ستنتهي الجولة لصالحه ! دخل الابن مهرولا و الجميع فى حالة ترقب لما سيقوله . فقال لهم: ” القِرْدُ الذى يملكة ”علوان“ويودعة فى قصرة  لاذا بالفرار وحراسة يطارنة فى الشارع لكنهم لم يفلحوا فى الإمساك به حتى  الآن“   هز الأب رأسه متعجبا و قال : ”الْحُرِّيَّةَ غَالِيَةٌ غالية على الجميع , حتى الحيوان “. فى تلك الأثناء كان القِرْدُ يتنقل من فرع  إلى فرع  آخر فوق الشجرة، ثم مايلبث أن يقفز فى رشاقة من شرفة الى أخرى من شرفات البنيات كفَرَاشةُ تسلم أجنحتِها إلى فضاءٍ رحب , وسط تحية وتشجيع  الجماهير الحاشدة له بالهتافات الحماسية  كَان القِرْدُ يطل عليهم برأسه من حين إلى آخر، في زهو الشَّمس في الصَّيف، وكأنه يَقُولَ لهم : ” إن الْحُرِّيَّةَ تستحق القتال من أجلها.“

استمرت المطاردة حتى خيم الفجر بخيوطه الأولى، واكتظ المكان بالعابرين وأبناء الشارع الذي ضاق بهم على سعته,  وملء أعينهم وأفواههم دهاء القِرْدُ  وجسارته , وفى خلسة الوقت, اخترقت إحدى رصاصات الحراس المارقة احشاء القِرْدُ  ليسقط من عليائة على الأرض مدرجا فى دمائة الساخنة كفوهة بركان ثائر تخرج من باطنه حِممٌ  تحرك السكون . لكنّه ظل يتطلع فى عيون الحشود الغفيرة  بنظرة موارة ملؤها  الانتصار، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة , تاركاً أثراً عميقاً, فيما أظن أَنّة سيظل ممتدّا  إلى زمن طويل بين سكان الشارع.

إيهاب القسطاوي

قاص وروائي وكاتب أدب طفل

التعليقات متوقفه