فريدة النقاش تكتب : المحروسة.. عنوان الحقيقة

131

يشهد مسرح «ميامي» كل ليلة عرضا ممتعا هو «المحروسة والمحروس» من تأليف محمد أبوالعلا السلاموني وإخراج شادي سرور الذي يلعب دورا محوريا في النص، ويعتمد العرض صيغة المسرح داخل المسرح إذ تقرر صاحبة حانة إعادة تمثيل حكاية شجرة الدر ملكة مصر من وجهة نظر جديدة تعمد مؤلفها الرد بها علي محاولات تهميش النساء من قبل الحزب الحاكم في مصر الذي قال في برنامجه إن الولاية الكبري لا تجوز للمرأة ولا للمسيحي، و«شجرة الدر» هي ملكة حكمت مصر وقادتها للانتصار علي الغزو الأجنبي في حين استسلم الخليفة المعتصم بالله «أحمد راتب» الذي أفتي بقتلها أمام هجوم التتار علي بغداد، وجسد الفنان الكبير كل تناقضات الشخصية.

هما إذن روايتان للتاريخ إحداهما تتم من وجهة نظر طبقية ذكورية والأخري تتحري الوصول إلي الحقيقة وتوصيلها حيث يتمني «شادي سرور» أن تكون رسالته قد وصلت للجمهور» يواجه فنانو المسرح كتابا ومخرجين وممثلين وفنيين معضلة التعبير عن واقع يتحول كل يوم مثلما هو الحال في بلادنا بعد الثورة، وفي نفس الوقت يزداد شعور هؤلاء بضرورة المسرح في الأوقات العصيبة ربما أكثر مما يشعرون بهذه الضرورة في أوقات التطور الاعتيادي والعلاقات الواضحة بين مختلف القوي والرؤي والأفكار والتوقعات التي تظل في مثل هذه الأوقات العادية معروفة سلفا بدرجة كبيرة.

خرج كل من المسرح الحديث من المعبد، ودفع به تطور البشرية إلي الساحات العامة والقاعات التي بنيت خصيصا لتلبي الحاجة نفسها التي مثلها وجود المعبد في العصور القديمة، أي الإشباع الروحي ومواجهة المصير المشترك، وتطورت أشكال المسرح وبناؤه تطورا عاصفا بعد هذا الخروج من المعبد إذ وجد الإنسان نفسه وهو يطرح الأسئلة علي علاقته بالعالم وبالطبيعة وبأخيه الإنسان بعد أن اهتزت ثقته بالآلهة، وأخذ البشر ينظرون خلفهم وحولهم بغضب ويجدون ملاذا في الفن وفي فن المسرح علي نحو خاص الذي صمد تاريخيا ضد كل أشكال المنافسة القوية من السينما إلي التليفزيون للإنترنت لأسباب كثيرة منها طابعه الحميم حيث يحتمي الناس ببعضهم البعض ويتأملون معا في احتمالات المصير وتنفتح أمامهم آفاق التوقعات، والأهم من كل هذا أن احتمالات المصير تقود لإمكانية التغيير، تغيير النظرة إلي العالم، استنباط رؤي جديدة من الصراع الدائر علي الخشبة كما يدعونا عرض «المحروسة والمحروس» الذي طرح سؤالا جوهريا.

وكان «برتولد بريخت» قد رأي أن يقود المسرح الملحمي جمهوره إلي طرح الأسئلة دون تلقي الإجابات، وهي الأسئلة التي تنفتح علي إجابات مغايرة، علي العالم الذي نتمناه علي توقعات كان المعتاد منها قد تهشم أمام عنفوان الحقيقة الكامنة في قلب الحركة الخفية للواقع والتي كشف عنها المسرح كأعظم منابر الديمقراطية علي الإطلاق فحين جري تقييد الحريات العامة في الحقبة الناصرية التي شهدت تطورا هائلا في منظومة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ازدهر المسرح كأنما ليعوض النقص في منظومة التحرر، وتبلورت الأفكار والقضايا الكبري علي خشبته حيث قدم أهم كتاب الدراما أعمالهم الرئيسية وملأوها بالرموز والإسقاطات متوغلين في التراث الشعبي وفي أعماق الثقافة العربية الإسلامية ليقرأوها مجددا.

فماذا يريد المسرح لكي يحقق رسالته عبر الفكر والفرجة؟ إنه يريد الحرية لا فحسب لينشأ مسرح سياسي عاصف وإنما أيضا لتنفجر كل البُني القديمة في المجتمع ويجري نسفها لينشأ العالم الجديد عفيا حرا وجديرا بأحلام الثورة التي شاركت النساء فيها علي نطاق واسع.

يخشي الاستبداد من الثقافة ويموت رعبا من المسرح، لأن المسرح هو أقدر الفنون علي زلزلة عروش الاستبداد وتاريخه الغني شاهد علي ذلك.

وحين يتقنع الاستبداد بالدين تصبح المعركة بينه وبين المسرح معركة وجودية لا لأن المسرح تاريخيا نشأ في المعابد وإنما أيضا لأنه فن علماني بامتياز يضع الإنسان أمام نفسه متملكا لمصيره وهو يكشف الغطاء عن الحقيقة دون زيادة أو نقصان وبهذا المعني فإنه يمكن أن يحل محل الطقوس الدينية.

بدون المسرح تصبح الحياة فقيرة أحادية البعد وتنفتح بذلك علي كل أشكال التعصب والتطرف والكراهية ورفض الآخر أما المسرح فهو علامة علي غني الحياة يسقي أشجار التواصل والتعايش لتنمو وتخضر أوراقها.

تدهشنا روح الفريق الرائعة في «المحروسة والمحروس» حين تواصل سوسن بدر قدرتها علي الابتكار وتلحق بها لقاء الخميسي ويتميز كل من مجدي رشوان وهشام الشربيني وسامح عيسي وأحمد عثمان بفرادة خاصة، ومعهم فريق التتار واللاعبين سامي المصري وسمير عامر وحمد حسن وعلي فرج وعمرو يوسف وعمرو بهي ووليد الهندي وأحمد يوسف ومحمد عبدالعزيز، ويحتاج صوت سامح عيسي وموسيقاه التي وزعها حمدي رءوف إلي كتابة خاصة مع استعراضات فاروق جعفر.

التعليقات متوقفه