المقاومـــــة بالريشـــــة “محمد عبلة”: المهمشون حين يصبحون أبطالاً للوحة

66

كتب: عيد عبدالحليم

تمثل تجربة الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة واحدة من التجارب المتميزة والمجددة في مجال الفن التشكيلي بما تطرحه من قدرة علي ملامسة الواقع وإقامة علاقة مع تفاصيله اليومية بصورة تجعل من هذا الفن – الذي ظل لفترة طويلة فنا للنخبة – تجعله أقرب إلي روح وحس البسطاء من الناس.

اللوحة عند «عبلة» تمور بالحياة، تكاد من قربها للواقع أن تطابقه، رغم ما فيه من رؤية وشفرات فنية، تحمل دلالات أوسع من النظرة الأولي للأشياء، لكنها إن صحت التسمية «دهشة العادي» التي تتحول عبر ريشة محترفة إلي وجود ممتلئ بالحيوية.

وهكذا تتطابق صورة الفنان مع صورة الإنسان، فالفنان الذي أقام عشرات المعارضة في مصر وفي العالم أختار للإقامة «جزيرة القرصاية» بوسط النيل، تلك الجزيرة المهمشة التي يسكنها بشر عاديون بسطاء من مهن مختلفة صيادون وفلاحون وعمال، وكانت محط أنظار رجال أعمال في النظام السابق والذين حاولوا الاستيلاء عليها لكن تصدي لهم أهل الجزيرة وعلي رأسهم «عبلة»، الذين حول مرسمه وبيته بالقرصاية إلي سجل فني يؤرخ لتلك البقعة الصافية في وسط نيل القاهرة.

مفردات الحياة

ومن هنا جاءت براءة الرؤية التي تميز معظم أعماله الفنية والتي يؤكد «عبلة» أنه «يرسمها من خلال اعتماده علي فضاء طفولي يحتفي بالوجود الإنساني والحنين إلي الصفاء والتكامل والتآلف مع الأشياء».

ومن هنا استطاع أن يوجد المعادلة البسيطة القائمة علي مفردات الحياة التي يهذبها تهذيبا، فنجد لوحاته ممتلئة بالنيل والشجر والمراكب والصيادين وحاملات الجرار والسماء التي تخترقها أضواء الميلاد المحتمل.

وما أدراكم بفنان ولد في أحضان النيل وتربي علي رقرقة مياهه وتفتحت مداركه الإبداعية علي انسيابه ما بين ضفتين، وهذا يدلنا علي مدي تأثره بذلك حيث صار «النيل» هو المحور الغالب علي لوحاته وفي ذلك يقول «عبلة»:

«النيل في مصر يعني الحياة بكل مقوماتها وله خصوصية ترتبط بنسيج الشخصية المصرية وإرثها الحصاري العتيد، لكن بعيدا عن ذلك، وفوق كل ذلك، أنا أحب النيل فقد استحممت في مياهه وغصت فيه، بمعني آخر «طهرتني مياهه من الذاتية والنظرة الشخصية، علاقتي به جعلتني أعشق حياة الجماعة – مثله تماما، فكيف يكون هو فياضا وأكون أنا الإنسان العاشق له منحصرا في ذاتي، ولقد اخترت أن يكون مشروع تخرجي في كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية عن «المراكبية» الذين كنت أراقبهم منذ صغري وهم يواجهون الرياح من أجل أن يحصلوا علي لقمة عيشهم من صيد السمك، وكذلك «المراكبية» الذين كانوا ينقلون البضائع من صعيد مصر إلي أسواق القاهرة، لقد شاهدتهم وهم يفردون القلوع، وعرفت كيف يقرأون الدنيا والخرائط وكيف يوجهون دفة المركب، كل هذه المفردات وغيرها جعلتني أحس أن النيل مثل الكائن الحي وأنه رحيم دائما بمن يحبه، وأن فيضانه ما هو إلا تجلي لمحبة المصريين له علي مر الزمن».

وهذا الجانب هو الذي جعل «عبلة» يرسم النيل عبر ألوان زاهية، ليبرز قيمة «الضوء»، وسمات التفاؤل داخل المفردات المحيطة به سواء كانت أشجارا أو مراكب أو حتي عششا فقيرة.

هذا التفاؤل – أيضا – الذي يملأ تجربة «عبلة» الفنية بدرجاته المختلفة، جعلته يهتم برسم الوجوه التي تنطق بالابتسام ونظراتها متعلقة بالمستقبل، رغم أنها قد تبدو للوهلة الأولي وجوها بسيطة لبشر مهمشين نسيتهم الحكومات فكانوا خارج حساباتها.

البيئة الشعبية

اهتمام «محمد عبلة» بالبيئة الشعبية جعله يخصص لها عدة معارض فهو كفنان لم ينفصل عما حوله، كذلك هو لا يرسم اللوحة في إطار اللحظة فقط، بل يحاول أن يجعل لها خلفية من التاريخ الشعبي القريب لتلك الشخصية المرسومة، وهذا جعله يستلهم تاريخه الشخصي – علي سبيل المثال – في ثلاثة معارض كان أولها معرض تحت عنوان «نوشالجيا» والثاني هو «العائلة» والذي تناول فيه الشخصية الشعبية المصرية في الخمسينيات والستينيات من خلال طفولته – فقد ولد عبلة عام 1953 – تلك الطفولة التي عاشها عبر قيم نبيلة ميزت الشخصية المصرية والعربية في تلك الفترة، والتي كان من أهم سماتها الدفء الأسري والود والتآلف بين أبناء المجتمع الواحد.

ورغم ارتباط «عبلة» بتفاصيل الواقع المصري إلا أنه دائما ما يبحث عن الجديد في عالم الفن التشكيلي وتقنياته وآخر ما وصلت إليه مدارسه في العالم، فقد قام بزيارات متعددة لمتاحف العالم، واشترك في ورش فنية كثيرة في الهند وألمانيا والنمسا وإيطاليا وغيرها، بالإضافة إلي مشاركته في معارض جماعية مع فنانين من دول مختلفة.

ولذلك هو يؤمن بأن لغة الفن لا تحدها حدود، ولا تقف في طريقها جغرافيا وعن ذلك يقول: «من خلال تجربتي ورؤيتي لتجارب الفنانين العالميين تعلمت خبرات جديدة، فقد درست الجرافيك، عملت نحاتا، ودرست علم نفس، فلغة الفن عالمية، لكن الفن نفسه محلي، بمعني أنك كفنان جذورك وانتماءاتك هي المؤثر الجوهري في شكل فنك، أما المنتج النهائي الذي ترسمه فيمكن قراءته في أي مكان وزمان بعيدا عن أي حدود جغرافية، والفنان الحقيقي هو الذي يرسم بيئته، فنجيب محفوظ اشتهر عالميا لكتابته روايات فذة عن الحارة المصرية، والفنانين العالميين – بالتأكيد – كل واحد منهم استفاد من البيئة المحيطة به حتي ولو جاءت هذه الاستفادة بشكل رمزي.

ومن هذا المنطلق يمكننا أن نشير إلي اللوحات الأخيرة التي رسمها «عبلة» عن الثورة المصرية والتي استلهم فيها أحداث ثورة يناير وميدان التحرير، واللجان الشعبية ووظف فيها صور الشهداء، وضفرها بكلمات وشعارات الثورة التي رددها المتظاهرون خلال الثمانية عشر يوما الأولي من 25 يناير حتي 11 فبراير 2011.

ومن الاهتمامات التي تشغل بال «محمد عبلة» هي كيف يصل الفنان والمبدع إلي الشارع، وقد حاول – خلال الفترة الماضية – إلي تقريب الفن التشكيلي إلي المواطن العادي من خلال عدة مشاريع فنية قامت علي رسم المفردات اليومية البسيطة وتحويلها إلي جداريات تشكيلية مثل الرسم علي الجدران، وقد حدث ذلك في شوارع القاهرة وبعض شوارع المحافظات.

التعليقات متوقفه