فريدة النقاش تكتب : خريطة للأمل

32

ديكتاتورية الأمر الواقع التي تتزوج فيها السلطة بالمال استعير هذا التعبير من الكاتب الصحفي «سيرج حليمي» رئيس تحرير جريدة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية الذي بين كيف أن التحالف أو بالأحري الزواج بين السلطة والثروة ينتج في آخر المطاف ثلاثية عدم المساواة الاجتماعية، وتفكك الديمقراطية السياسية، وتقلص السيادة الوطنية للدول حيث السلطة الأقوي هي رقابة الرأسمال والريع التي يقوم بها عبر العالم وفي أوروبا خاصة صندوق النقد الدولي، والمصرف المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية. وعلي صعيد أوسع هناك البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية.

وتعتمد ديكتاتورية الأمر الواقع التي ترتدي قناعا ديمقراطيا علي وسائل الإعلام الكبري من أجل حبك مواضيع الإلهاء التي تؤخر ثم تضرب الثورات الجماعية.

ومع ذلك قدم الإسلاميون ستمائة بلاغ للنيابة ضد صحفيين وإعلاميين ولديكتاتورية الأمر الواقع في حالتنا بقرة مقدسة اسمها صندوق الانتخابات، ورغم ما صاحب انتخاب الرئيس «محمد مرسي» من شكوك كثيرة حول ما يسمي بفضيحة المطابع الأميرية، ومنع الإخوان لقري مسيحية في صعيد مصر من الخروج للتصويت بالقوة.. ومظاهر أخري للتزايد الهائل في عدد الناخبين في فترة زمنية محدودة مما يثير شكوكا أقوي حول عملية تزوير جهنمية في قاعدة بيانات الناخبين، فضلا عن الاستخدام الواسع للبطاقة الدوارة التي ابتكرها الإخوان. رغم كل هذه الحقائق والشكوك قبلت الحياة السياسية والجماهير عامة بنتائج الصندوق، وما أن بدأت بالتعامل معها حتي انهالت علي رءوس المصريين ممارسات ديكتاتورية الأمر الواقع من الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي الذي منح للرئيس سلطات ديكتاتور وحصنها من الطعن عليها، وإقالة النائب العام وتعيين نائب عام جديد هو في الحقيقة نائب خاص ضاربا بكل القواعد المرعية عرض الحائط، والاستعجال في إصدار الدستور الذي يؤسس للدولة الدينية رغم انسحاب كل ممثلي القوي المدنية من الجمعية التأسيسية التي احتكرها ممثلو الإخوان وحلفاؤهم. وجري تزوير الاستفتاء علي مواد الدستور الذي أصبح أمرا واقعا. وجري استبعاد وزير الداخلية «أحمد جمال الدين» لأنه كان قد أخذ يعيد هيكلة الشرطة بالتعاون مع القوات المسلحة علي أسس مهنية. ورفض الانصياع لأوامر اخوانية تخالف القانون.

وتوالت عمليات الحصار للمحكمة الدستورية العليا ولمدينة الإنتاج الإعلامي في إعلان صريح لإرساء البلطجة محل القانون، وبدأت المعركة ضد القضاء من أجل تصفيته وإلحاقه بالسلطة، وفي حيلة مكشوفة وألاعيب صغيرة استدرجت الرئاسة القضاء لعقد مؤتمر للعدالة، وفي ليلة ظلماء قرر مجلس الشوري تحديد موعد لمناقشة قانون السلطة القضائية الذي سبق أن رفضته كل مؤسسات القضاء. وهكذا انتهكت الشعارات التي لاكتها السلطة الجديدة طويلا حول الشفافية والنزاهة انتهاكا ماديا ومعنويا وجري تلفيق القضايا لشباب الثورة واعتقالهم وتعذيبهم حتي الموت.

بل إن من أخطر «إنجازات» السلطة الجديدة التي لاتزال تدعي أنها تمثل الثورة هو الاضافات التي قدمتها لترسانة القوانين المقيدة للحريات العامة التي لم تقم بالغاء أي منها بل اضافت قانونا لتجريم التظاهر وآخر لتقييد عمل المنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني مع موازنة عامة هي نسخة جديدة طبق الأصل من موازنات «مبارك».. وهذا ليس إلا غيضا من فيض كما يقولون.

وبقيت حكاية الصندوق كما هي بقرة مقدسة تختبئ وراءها ديكتاتورية الأمر الواقع، وهي تعيث فسادا وتهدر كل القيم التي دافعت عنها الثورة واستشهد من أجلها بعض خيرة أبناء الوطن وبناته.

والجديد في الأمر هو أن وعيا عميقا قد نشأ مع التجربة بأن ما هو قائم الآن ليس سوي الثورة المضادة بعينها، بعد أن استعادت قوي الثورة زمام المبادرة وأخذت تعيد تنظيم صفوفها بعد سقوط الأوهام وانقشاع الوعي الزائف حول حقيقة السلطة الجديدة علي صعيد الأفكار والأفعال وبعد أن تبين لها بالتجربة الواقعية أن ما جري في الخامس والعشرين من يناير لم يكن اسقاط النظام وإنما عزل رئيسه ثم إعادة انتاج النظام نفسه ولكن بغطاء ديني هذه المرة.

ومن حسن حظ قوي الثورة أن هذا الغطاء الديني قد ثبت زيفه بسرعة، وأن جماهير متزايدة تكتشف كل يوم حقيقة السلطة الحاكمة ومدي ابتعادها عن القيم العليا للدين الذي تتاجر به، وهو الوضع الذي يوفر علي القوي الثورية جهدا هائلا كان مطلوبا منها لكشف هذه الحقيقة أمام الجماهير، وأصبحت المعركة في ميدان القيم والأفكار أدني مشقة من ذي قبل ولكن يبقي التحدي الرئيسي أمامها وهو ابتكار أساليب وطرائق لاستئناف مسار الثورة ومسيرتها من أجل وضع شعاراتها موضع التطبيق علي مراحل وإسقاط ديكتاتورية الأمر الواقع التي هي الثورة المضادة بعينها.

استعير من سيرج حليمي مرة أخري بيت الشعر الذي بدأ به دراسته للشاعر الفرنسي التقدمي بول ايلوار «أريد أن أعرف من أين انطلق لكي يبقي لي كبير أمل»، نعم نحن نريد أن نعرف ولن تتوافر لنا مثل هذه المعرفة دون «خريطة للأمل» في قلب هذا الظلام.

التعليقات متوقفه