د. رفعت السعيد يكتب : مصر والمرأة في مواجهة التأسلم «8»

47

وبطبيعة الحال فإن أي حديث عن المرأة والتأسلم يتعين عليه أن يقتادنا إلي الحديث عن قاسم أمين، ولكي نتعرف عليه وقبل أن نطالع كتاباته لابد أن نضعه في موضعه التاريخي، فهو واحد من تلك المجموعة التي كانت تري تحرر الفكر والنهوض بالعقل المصري هو مفتاح التحرر من الاحتلال، ومن ثم تمايزت عن القوي التي خاضت وبشكل مباشر معركة سياسية ووطنية ضد الاحتلال وهي مجموعة الحزب الوطني «مصطفي كامل ومحمد فريد ورجالهما»

وكانت هذه المجموعة التي قيل إنها مجموعة نخبوية وغير متعجلة للصدام مع المحتل والتي تزعمها أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وقاسم أمين والتي استضاءت بالفهم التنويري للأستاذ الإمام محمد عبده تسعي جهدها للتنوير دون شعارات سياسية ولتحرير العقل المصري دون تصادم متعجل مع الاحتلال، وتميز قاسم أمين عن بقية أعضاء هذه المجموعة التي أصدرت صحيفة «الجريدة»

ثم أسست حزب الأمة بأنه كان الأكثر شجاعة في عرض أفكارها وأكثر إخلاصا وتمسكا بهذه الأفكار وخاصة الأفكار الخاصة بتحرير المرأة، والتي لم يشأ بعض جماعته الخوض فيها خوفا من القوي الرجعية، ولأن الأمر كان شديد التعقيد فقد استعان قاسم أمين بمرجعية الشيخ محمد عبده التي منحه تأييدا ودعما فقهيا وحججا شرعية ما كان بإمكان قاسم أن يخوض معركته بدونها، فمثلا قضية تعدد الزوجات التي وجدها قاسم أمين مسألة مهمة وضرورية أمده الإمام محمد عبده بأفكار مكنته من المجابهة الفكرية والشرعية حولها فقد «وضع الشيخ محمد ضوابط شديدة أوشكت أن تجعل من التعدد من المحظورات علي اعتبار أن شرط العدل بين الزوجات قضية يصعب تحقيقها لأسباب إنسانية وعاطفية خالصة»

(د. صابر عرب – تقديم للكتاب تراث قاسم أمين – إعداد عبدالمنعم محمد سعيد) والحقيقة أن قاسم أمين كان استثناء وسط الجماعة الثقافية والسياسية بخوضه معركة تحرير المرأة، ولأن محاورات قاسم أمين كانت تستند إلي مواقف فقهية وشرعية ذات فقه ردد البعض أنه ليس صاحب هذه الكتابات وإنما هي لمحمد عبده وإنما انتحلها قاسم برضاء من صاحبها، لكن شخصية قاسم أمين واعتداده الشديد بشخصه وكرامته وإيمانه بما يقول وقدرته الشخصية علي خوض المجادلات في هذا الشخص تجعل من المستحيل قبول هذا الرأي.

والحقيقة أن كتاب «تحرير المرأة» قد أقام الدنيا ضد قاسم أمين الذي تمسك في مواجهة خصومه برؤية صافية لحقيقة الإسهام ولتاريخ دور المرأة في المجتمع الإسلامي فهي راوية حديث وقاضية وشريكة للرجل حتي في غمار القتال ولها ذمتها المالية المستقلة وهو ما يتنافي مع قهرها وسجنها في البيت حتي تذهب إلي القبر في القرن التاسع عشر، ولم يكن قاسم أمين في كل كتاباته بعيدا عن حقيقة الإسلام وروحه وأهدافه وعندما أعلن فقهاء عصره أن تعريف عقد الزواج هو «عقد يملك به الرجل بضع امرأة»

هاجمهم بشدة مستندا إلي القرآن الكريم «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، وقال إن القرآن إن علاقة الزوج بالزوجة ليست مجرد علاقة عملية محضة وإنما قوامها المودة والرحمة، وعندما هاجموه بسبب موقفه من تعدد الزوجات قال «أعرف أنه مباح وإباحة كساء أنواع الحلال الذي تعتريه الأحكام الشرعية من المنع والكراهة وفق ما يترتب عليه من المفاسد، مؤكدا أن دفع المفسدة مقدم علي جلب المصلحة» (المرجع السابق، ص9)

وكان قاسم أمين يعيش روح الإسلام وفلسفته الصحيحة ولهذا تناول قضية الطلاق وأخذ علي الفقهاء تساهلهم في هذا الشأن رغم ما يترتب عليه من مفاسد كتشريد الأطفال وهدم كيان الأسرة، ورفض ما أخذ به الفقهاء من وقوع الطلاق بمجرد النطق به.. وقال إن وقوع الطلاق يقصد به رفع قيد الزواج وهذا يستوجب حتما وجود نية حقيقية ومن ثم فقد طالب بعدم الأخذ بطلاق العابث أو الغاضب أو المكره وقال «وقد يكون الطلاق أمام القاضي فرصة للتوفيق بين الزوجين والحفاظ علي كيان الأسرة».

ولعل الكثيرين لم يسمعوا إلا بكتابين لقاسم أمين هما «تحرير المرأة» و«المرأة الجديد» وقد قلت كلمة «لم يسمعوا» متعمدا فإن الغالبية من مثقفي زماننا والقائلين بأنهم ليبراليون أو أنصار للمرأة لم يهتموا بقراءة كتاب قاسم أمين ولو قراءة عابرة، ولكن لقاسم أمين كتابات أخري بالغة الأهمية، منها «المصريون – الرد علي دوق داركور».

وقد كتب قاسم هذا الكتاب باللغة الفرنسية ليوجهه إلي الغرب نافيا مزاعم دوق داركور التي قال فيها إن سبب تخلف الشرق هو تخلف الإسلام ذاته، وأن الإسلام هو مصدر الشر في هذه المناطق، ورد قاسم أمين علي هذه الادعاءات ردا حاسما وشجاعا وقال «علينا أن نسأل هل مصدر الشر آت من الديانة الإسلامية أم أن مصدره وأخلاق الشعوب التي تعتنق الإسلام؟»، وقال «إن ما حدث في الإسلام حدث مثله في الأديان الأخري وذكر الغربيين بما فعلته كنيستهم ومحاكم التفتيش»

ثم قال «ولايزل بعض رؤساء الكنيسة الكاثوليكية يحاربون العلم والفلسفة حتي الآن» (مقدمة لقاسم أمين «الحفيد») وهو الذي ترجم الكتاب إلي اللغة العربية، وفي دفاع قاسم أمين عن مصر والإسلام هاجم أوضاع المرأة الفرنسية وقارنها بالمرأة المسلمة «فالمرأة المسلمة المتزوجة تتمتع بكل حقوقها المدنية وهي ذات أهلية كاملة بالمعني القانوني وتقوم بالتصرف والإدارة والتعاقد دون الحصول علي إذن لا من الزوج ولا من المحكمة بعكس المرأة الفرنسية التي تصبح عندما تتزوج مخلوقا قاصرا في نظر القانون وهي محرومة من التصرف في ثروتها» (ص61)

ومضي قائلا «إن نساء أوروبا لهن الحق في التفكير بأن الرجال قد وضعوا القانون لمصلحتهم ولست في حاجة إلي القول بأننا نتمني النجاح الكامل للنساء الجريئات اللواتي يكافحن بكل شجاعة للخروج من هذا المركز المهين لبنات جنسهن ولكي يمارسن كامل حقوقهن المدنية» ولقاسم أمين كتاب لم يسمع به الكثيرون هو «أسباب ونتائج – أخلاق ومواعظ» وله كتاب رابع بعنوان «كلمات» أورد فيه حكما ومواعظ وأخلاقيات.

.. ويبقي أن نمضي إلي حديقة الأفكار التي قدمها قاسم أمين لوطنه وشعبه.

التعليقات متوقفه