النيل في مخيلة الأدب والفن .. مسافر زاده الخيال

302

بقلم : عيد عبدالحليم

شغل «النيل» المخيلة الإبداعية المصرية والعربية علي مدار التاريخ الحديث، فاستلهمه الشعراء من قصائدهم الوطنية والعاطفية علي حد سواء، فجاء من خلال الخطاب الإبداعي قرينا بالحياة ومرتبطا بمفردات البقاء والخلود والخصب والنماء وغيرها من المفردات التي تعبر عن فلسفة الوجود الإنساني، وهذا ما نجده في قصائد متفرقة لأمير الشعراء أحمد شوقي ربما أشهرها وأطولها قصيدة «كبار الحوادث في وادي النيل»، وقصائد أخري تشغل جزءا كبيرا من شعر «حافظ إبراهيم» والذي أطلق عليه النقاد «شاعر النيل» من كثرة ما كتب عنه، وعن مصر – بشكل عام – التي قال عنها «هيرودت» الرحالة العالمي الكبير «مصر هبة النيل»، لكني هنا أريد أن أتوقف عند دواوين بعينها – علي مدار التاريخ الأدبي الحديث – كان النيل هو عنوانها الرئيسي أو متعلقا بهذا العنوان ومن أهم هذه الدواوين «الملاح التائه» لعلي محمود طه وتمتلئ تجربة الشاعر بالحديث عن النهر وسحره وجماله حيث تتماوج علي صفحة مياهه الأحلام والرؤي وما أجمل قول شاعرنا في قصيدة «ليالي كليوباترا»..

يا ضفاف النيل بالله ويا خضر الروابي

هل رأيتن علي النهر فتي غض الإهاب

أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب

سابحا في زورق من صنع الشباب؟

أما «شاعر الكوخ» محمد حسن إسماعيل، فهو من أعذب الشعراء الذين كتبوا عن النيل، بل إن قصيدته «النيل» والتي تغني بها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب تعد هي الأروع عن النهر العظيم والتي يقول مطلعها:

مسافر زاده الخيال.. والسحر والعطر والظلال

ظمآن والخمر في يديه.. والحب والفن والجمال

شابت علي أرضه الليالي.. وضيعت عمرها الجبال

ولم يزل يطلب الديارا

ويسأل الليل والنهارا

والناس من حوله سكاري.. هاموا علي أفقه الرحيب

آه علي سرك الرهيب.. وموجه التائه الغريب

يا نيل يا ساحر الغيوب!

ولأن محمود حسن إسماعيل كان من أجمل الشعراء في تشكيل الصورة، فإن قصيدته جاءت عبارة عن صور متلاحقة لا تقل جمالا عن منظر النيل وهو يتدفق حرا ومنطلقا في ربوع البلاد، ومن هذه الصور البديعة قوله:

سمعت في شطك الجميل.. ما قالت الريح للنخيل

يسبح الطير أم يغني.. ويشرح الحب للخميل

وأغصن تلك أم صبايا.. شربن من خمره الأصيل

وزورق بالحنين ثارا

أم هذه فرحة العذاري؟

ويكتب الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة ديوانه «رقصات نيلية» ليعزف علي وتر المحبة عبر لغة رومانسية شفيفة، من خلال جمل قصيرة مكثفة، إشارية اللفظ متسعة الدلالة:

ممعن في صباه الجميل

ذلك النيل

يقبل منفعلا راقصا

ليمارس أهواءه

في حنايا الحقول

يشتهي لمسة الجذر

في القاع

تنهض كل الغصون

علي ساقها

عاريات علي صدره تستطيل

هل هو الحب في لهوه..

يتدلل في رقصه..

ويباغت أعضاءنا بالذهول؟

ويتتبع «أبوسنة» رحلة النيل من المنبع إلي المصب كأنه المسافر الأبدي، العابر للأزمنة وللأمكنة: «يتزوج هذا الزمان/ وينجب أقماره للخلود/ عابث يشتهي/ أن يكون طليقا/ حين تهوي القيود/ علي معصميه/ فيجعل منها أساور فوق الزنود».

أما الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، صاب اللغة المتشابكة والشعرية المتفردة علي مستوي الرؤية، المرتبطة بطين الأرض والهوية المصرية، فله ديوان من أهم دواوينه الشعرية وهو «والنهر يلبس الأقنعة»، وهو ديوان يمتلئ بالعديد من الدلالات والتصورات المغلفة بحس فلسفي عميق قائم علي جدلية الواقع والخيال، والديوان ممتلئ بمجموعة من القصائد التي تجئ لفظة النهر فيها ومنها «وشم النهر علي خرائط الجسد» و«حلم تحت شجرة النهر»، والتي يقول فيها: «جسدي يطلع من طينته، والغمر محفوف بليل الخلق/ والله علي جوهرة الخضرة يدعوني كتابا وقراءة، وأنا أسمع صوت الشجر الطالع في الرعد/ فأدعوه رغيفا وعباءة».

ويقول أيضا: «اسمعيني/ فأنا عصفور ماء، وطني جميزة أسقطها البرق، وفي مملكة الريح دمي فسحة حلم بالبراءة/ وأنا أبحر هذا جسد الليل/ وهذي مدن البحر المضاءة».

كما أنشغل شعراء جيل السبعينيات بالنيل أيضا وهناك ثلاثة منهم أفردوا للنيل دواوين خاصة، حيث كتب فريد أبوسعدة له ديوان «السفر إلي منابت الأنهار»، وحسن طلب ديوان «لا نيل إلا النيل» ووليد منير و«النيل أخضر في العيون».

في ديوانه «السفر إلي منابت الأنهار» والصادر عام 1985 يتخذ فريد أبوسعدة «النهر» كقناع شعري لرفضه لكثير من التحولات السياسية والاجتماعية في لغة مضفرة بعبق صوفي، عبر تلاحق دينامي للصور الشعرية، ومنها قصيدة «شكوي النهر» والتي يقول في مطلعها:

زفرة النهر صحاف الطمي في الدلتا

ودمع النهر حلفا

صاغت الأسماك لي

من قشرها الفضي خفا

صرت أمشي فوق الماء

لا تطرف عيني

أيها النهر المطارد

ما الذي تخفيه عني

«صارت القيعان تلا

من عظام وجماجم

والدم القاني وشاحا

آه هل أحصي لك القتلي

وأعطيك القوائم

أم تري أحصي الجراحا»

وفي مجال الرواية نجد أشهر الأعمال التي ورد فيها اسم النيل رواية «ثرثرة فوق النيل» لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ والتي كتبها بعد هزيمة 5 يونيو 1967، ويرصد فيها تحولات المجتمع المصري بعد الهزيمة من خلال نماذج بشرية متعددة محملة بالانكسارات التي يؤدي في أحيان كثيرة الإحساس بها إلي الفوضي والانحلال وضياع القيم الإنسانية الرفيعة.

ومن الأعمال الدرامية التي استلهمت «النيل» وشغل جزءا كبيرا من أحداثها فيلم «ابن النيل» وفيلم «صراع في النيل»، والذي تدور أحداثه كلها علي متن سفينة أبحرت من أسوان وكان المفترض لها أن تصل إلي مدينة القاهرة، وتدور أحداثه في حالة تجمع بين الرومانسية والأكشن، وهي الخلطة التي اشتهرت بها أفلام الخمسينيات.

ومن أشهر المسلسلات التي قدمت في هذا الإطار مسلسل «ومازال النيل يجري» إخراج محمد فاضل وبطولة فردوس عبدالحميد.

والذي ناقش عدة قضايا تؤرق المجتمع المصري في فترة الثمانينيات – تحديدا – ومنها الزواج المبكر، وكثرة الأمراض المستوطنة في الريف، والفساد الإداري وغيرها.

التعليقات متوقفه