ردا علي نجيب ساويرس لا عدالة اجتماعية ولا ديمقراطية إن انفرد رأس المال بالسيطرة علي الحكم

34

برلين ـ نبيل يعقوب

في الوقت الذي ينتظر فيه المصريون من واضعي “خارطة الطريق” ومن الحكومة الجديدة ان تعلن عن خطة تضمن التغلب علي الأزمة السياسية والاقتصادية – الاجتماعية نشرت “المصري اليوم” (18/7) مقالا للسياسي الليبرالي ورجل الاعمال ومؤسس حزب المصريين الاحرار نجيب ساويرس عنوانه “تصوري لخريطة الاقتصاد لمرحلة ما بعد الثلاثين من يونيو” وفيه يقترح برنامجا موجزا للسياسة الاقتصادية في العهد الجديد. والمقال جدير بالاهتمام لأنه يفصح عن تصورات ممثلة لقوة مجتمعية رفضت وقاومت أخونة مصر، وتسهم في جبهة الانقاذ، وتبادر لحظة تشكل حكومة “30 يونيو” باعلان “خارطة طريقها”.ويري المقال انه بعد الاطاحة بمرسي “… آن الأوان للالتفات إلي مصلحة مصر، ولتوجيه كل الجهود، علي وجه السرعة، نحو مرحلة جديدة من الاستقرار، وإرساء سيادة القانون، ومعالجة الانهيار الشديد الذي شهده الاقتصاد المصري” ويواصل “ففي ظل قيام الجيش والشرطة بتأمين جيد للمنشآت والمؤسسات يجب العمل علي عودة السكينة والهدوء والأمن إلي الشارع المصري، وأن تختفي الاعتصامات والإضرابات، حتي تستقر البلاد، ويعود النشاط السياحي إلي سابق عهده، ويطمئن المستثمرون، وتتدفق الاستثمارات الأجنبية، وتدور عجلة الإنتاج”. ويري نجيب ساويرس “… أنه لا بديل أمامنا سوي توقيع اتفاقية صندوق النقد، فرغم عدم شعبيتها فإنها، ورغم مرارتها، تعتبر فرصة حقيقية لإعادة تنظيم موازنة الدولة، ومعالجة العجز بتعديل سياسة الدعم والسياسة الضريبية، كي يتحمل القادرون نصيبهم العادل من الضرائب…” ويطالب بأن يوضع المال العام في مواضعه الصحيحة، “وفي طليعتها: الصحة والتعليم ومحاربة البطالة.” ويكتب بصراحة ” … لا بديل عن اختيار نموذج الاقتصاد الحر، والاعتماد علي مشاركة كبيرة للقطاع الخاص” ولكنه يطلب “… تلافي أخطاء الماضي التي أدت إلي توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء”.

ويري السياسي الليبرالي بصياغات قاطعة ان النظام الاقتصادي “الحر” لا بديل له، لان الاقتصاد “الموجه” فشل في كل مكان حسب قوله، ويطلب “إلغاء الدعم، ووقف الهدر في السلع الغذائية والطاقة، وتعويض ذلك عن طريق رفع الأجور والمعاشات”

بالطبع يثير ما نشره ساويرس كثرة من تساؤلات ومخاوف واعتراضات خاصة عندما يري الحل في نظام لم يعد فشله سرا في كل اصقاع العالم من اوروبا الي امريكا شمالا وجنوبا ناهيك عن بلدان العالم الثالث.

حصاد الانفتاح الساداتي

في كل هذا يجب ان نسأل ونتناقش ولكنا نقتصر هنا علي سؤال واحد وهو “ما الفرق اذا؟”

لن يسمح المجال ان ندخل في جميع التفاصيل. ولكن الم يكن “الانفتاح” الساداتي الكارثي بداية “الاقتصاد الحر”؟ ويطلق الكاتب اسم الاقتصاد “الحر” بدون اي اضافات، وهذه أمانة في الصياغة، اذ في اوروبا الرأسمالية عندما يطمئنون الناس باستخدام اسم “اقتصاد السوق الاجتماعي”، اي عندما يضيفون صفة “اجتماعي” الي اسم النظام فهم يستندون الي ما انتزعه العاملون من حقوق مثل التأمين الصحي، والمعاشات، ورعاية المسنين، والتأمين ضد البطالة، والمعونة الاجتماعية، … الخ.

وان جئنا نحن لنختار “اقتصادا حرا”، نسأل: أهو كما هو الحال الآن؟ أي اقتصاد “حاف”؟ فيم اذا المليونيات والشهداء والمساجين ووجع الراس؟

وعندما نلغي الدعم، ماذا عن الذين لا يتلقون اجورا ولا معاشات؟ كم نسبة من يتلقون اجورا او معاشات في مصر؟ ولكن الكل يحتاجون رغيف العيش.

بالطبع لا بديل عن عملية مراجعة كلية للبنية الاقتصادية ومناقشة بدائل للاصلاح ولكن هذه المهمة اثقل مما تستطيع حمله حكومة انتقالية.. انها تحتاج مؤتمرا وطنيا يشارك فيه ممثلو جميع طبقات وفئات الشعب.

مقالي هذا يريد ان يتصدي بالأساس لاقتراح تضمنه المقال محل النقاش وهو موضوع “الشراكة بين القطاعين العام والخاص”.

خدعة توني بلير

كنت قد نشرت في الاهالي مقالا عن هذا الموضوع منذ سنتين استند هنا الي بعض نصوصه. واود ان اعرض تجربة عدد من البلدان الاوروبية مع هذه الوصفة السحرية التي خرج بها توني بلير عندما نجح حزب العمال في ان يخلف المحافظين في الحكم في نهاية التسعينات. وكانت حكومة ثاتشر قد خصخصت ما استطاعت يداها ان تمتد اليه. ونجح حزب العمال في الانتخابات بسبب حملته علي النتائج الاجتماعية والاقتصادية الكارثية للخصخصة. ولكن توني بلير كان يضمر مواصلة سياسات ثاتشر النيوليبرالية فاخترع الحل الوسطي السحري: ليست خصخصة وانما شراكة!

الحل السحري للخروج من الازمة واستعادة العافية الاقتصادية في رأي المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الاوروبي يتمثل في اقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص. والمقصود بالشراكة بين القطاعين العام والخاص واسمها Public- private-Partnerships (PPPs) ان تتخلي الدولة للشركات الخاصة (ومنها العالمية ايضا) عن مهمات حيوية في قطاعات مثل الري وإمدادات المياه العامة، والمستشفيات، والمواصلات، ومباني وغيرها لفترة محددة. (جريدة TAZ الالمانية

11.10.2011). وتذكر الصحيفة انه حتي لو كانت هذه الترتيبات مؤقتة فانها تعني في النهاية خصخصة القطاع العام. و”تبعا لذلك يشجع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تونس ومصر لتحرير أسواقهما والتوجه للشركات متعددة الجنسيات للبحث عن قروض. وقد وضع الدائنون الدوليون والشركات الغربية الكبري اقدامهم في الباب بالفعل ومنذ زمن ولكنهم يطالبون بالمزيد من حرية الحركة.”

جرب هذه الوصفة، ولا زال، عدد من المدن الاوروبية الكبري (ومنها علي سبيل المثال مدن مثل دوسلدورف وماجديبورج في المانيا) للتغلب علي العجز المزمن في ميزانياتها وذلك ببيع مؤسسات يملكها الحكم المحلي مثل معامل تكرير المياه ومجاري الصرف الصحي، وخطوط الترام، وشبكات نقل الكهرباء لمؤسسات مالية امريكية لتحصل هذه المدن علي مليارات من الدولارات ثمنا لهذا المنشآت، لتسدد ديونها المتراكمة، ثم تستأجر هذه المنشآت من المشترين.

العالم الثالث هو الضحية

وجاءت نتائج وصفة توني بلير علي بلدان العالم سلبية ولكن اشد الضرر يقع في البلدان التي يعرقل حكامها فرض الرقابة الشعبية علي الحكم، ويحولون دون المشاركة الشعبية في القرار، وقد ادت النيوليبرالية عموما في بلدان العالم الثالث الي نشوء طغمة تضم فئات من رجال المال والاعمال والسياسيين تتحكم في البلاد وتستغل العباد. هذه تجربة الشعوب مع الديكتاتوريات السابقة التي اطاحت بها شعوب امريكا الجنوبية، ومع انظمة مثل باكستان مرورا بممالك وشبه ممالك عربية علي اختلاف مسميات نظم الحكم وراياته الايديولوجية. الحكم لقلة من الطفيليين خاطفي الربح السريع، وحكومات لا تلقي بالا لمصالح الشعب، لا لأمنه الغذائي، ولا لمستوي معيشته الآدمي، ولا لتوفير اماكن عمل، ولا حتي لمحو الامية في القرن الواحد والعشرين.

اوروبا: مقاومة المدن والقري لسياسة تلحق الخراب بالمحليات

وتحصد مدن وقري العديد من دول اوروبا ثمار هذه السياسة التي يسميها محللون اقتصاديون ونقابيون وسكان المدن سياسة “تخريب المحليات ثم بيعها”. في يونيو من العام الماضي سلمت جمعية “الملكية العامة في يد المواطنين” ومنظمة مناهضة العولمة أتاك attac مع احد اكبر النقابات الالمانية ver.di عرائض تحمل توقيعات من اكثر من الف مدينة وقرية المانية الي وزارة المالية وبها امثلة عن مشاريع الشراكة الفاشلة ppp وطالب ممثلو المواطنين باغلاق ما اسموه “ميزانيات الظل” التي تمول هذه المشاريع. وتبين تجربة نحو 1000 مشروع شراكة انجليزي و150 الماني ان تكلفتها اعلي من المشاريع العامة المنفذة بالشكل التقليدي. وقد عرض تقرير لجهاز المحاسبات الاتحادي واجهزة المحاسبات التابعة لولايات المانيا في العام الماضي ملخصا لواقع هذه الشراكة بين القطاعين العام والخاص ليكشف انتشار ظاهرة المشاريع الفاشلة في مدن المانيا والتي يتبين بعد سنوات قليلة انها اعلي تكلفة لكثير من المسجل في العقود الاصلية ومن امثلة ذلك مركز المؤتمرات العالمي في مدينة بون وصالة الفيلهارموني في هامبورج ونفق مدينة روستوك1.

منذ اسبوعين استجاب البرلمان الاوروبي للضغوط الشعبية واصدر قانونا يمنع خصخصة المياه. وكان استفتاء لسكان برلين قد حال دون خصخصة معامل تكرير وتوزيع المياه في العاصمة الالمانية علي طريقة الشراكة.

مثل هذه الشراكة لا تمثل فحسب طريقا ملتفا يؤدي الي نزع ملكية الدولة وملكية الحكم المحلي بل اينما طبِقَت كانت أداة فاعلة لنزع اسلحة الديمقراطية. هذا جربته برلمانات دول ومدن عديدة في العالم لأن نواب الشعب لم يعد لهم سلطة التحكم في قرارات حساسة في الحياة الاقتصادية، ومنها علي سبيل المثال تحديد اسعار الطاقة او مياه الشرب أو وسائل المواصلات العامة. القرار في يد الملاك الجدد والذين يقيمون في الغالب ما وراء البحار.

جمعيات المجتمع المدني في اوروبا المناهضة للعولمة تؤكد ان الديمقراطية لكي تكون معبرة عن الارادة الشعبية فعلا لا غناء لها عن قاعدة اقتصادية من الملكية العامة وملكية المحليات للمصادر الاساسية المتحكمة في مسار الاقتصاد والمجتمع ومنها شبكات الطاقة الوطنية والمحلية، وشبكات الامداد بالمياه، والسكك الحديدية، والمستشفيات الكبري. وتجربة دول امريكا اللاتينية التقدمية تؤكد ان اصلاحا اقتصاديا اجتماعيا وثقافيا عميقا هو الضمان للتغيير المجتمعي الذي يضمن التقدم الاجتماعي المستدام ويحمي الديمقراطية بالمشاركة الشعبية الواسعة.

هل ننجح في التوصل لحل توافقي؟

الخوف من ناصر

ومن الواضح ان الهم الاكبر لدوائر الحكم في الغرب هو الا تعود مصر الي سياساتها الاقتصادية في عهد عبد الناصر، اي الي سياسات التنمية الوطنية المستقلة. وأحد اهم اسباب الدعم الغربي للاخوان المسلمين هو الاطمئنان لمواصلة مصر نهج الاقتصاد الحر في ظل حكم اسلامي (حسب تقديرات “مؤسسة العلم والسياسة” في برلين والتي تقدم المشورة للبرلمان والحكومة).

افكار الرأسمالية النيوليبرالية منتشرة بين العديد من المتحالفين في جبهة الانقاذ، وفي المقابل في الجبهة ايضا من يرفضون بشدة ما يسمي الاقتصاد الحر كما يرفضون الغاء الدعم. التحالف في جبهة الانقاذ يضم قوي اجتماعية متناقضة المصالح والاستراتيجيات المجتمعية لكنها متفقة حول هدف انقاذ مصر من حكم استبدادي جديد يحمل قناعا دينيا ويهدد باعادة مصر الي عصور وسطي. ومن الطبيعي ان تختلف وتصطدم الآراء والاستراتيجيات بين حلفاء المرحلة. ولكن هل نستطيع ان نتوصل الي حل توافقي (مساومة) تضمن ان تتحقق الاهداف الاجتماعية للجماهير الشعبية، وأن يبقي طريق التقدم الاجتماعي مفتوحا، وأن نتحاشي تفجير التحالف الديمقراطي؟

التعليقات متوقفه