فريدة النقاش تكتب : إسقاط الفوضي

26

لا أثق في منهج تفسير الأحداث والوقائع الذي يرجع كل شيء فيه إلي المؤامرة، ومع ذلك لا أنكر وجود المؤامرة، ولكن هناك ما يمكن أن يفسد المؤامرة بل ويفجرها في وجه صناعها شرط أن يكون من يقع عليه التآمر قد تملك الأدوات لاكتشافها قبل أن تبدأ في مسارها في الواقع. وربما يقودنا مثل هذا القول إلي سراديب المخابرات وأجهزة الأمن التي لا تستطيع أمة أن تستغني عنها، وفي تاريخنا الوطني مئات الوقائع والأحداث التي كانت المخابرات ضالعة فيها. وقد أصبح بعضها موضوعا للروايات والأفلام والمسلسلات التليفزيونية التي بينت اكتشاف المؤامرات ضد البلاد.

وأسوق هذه المقدمة الطويلة لأبدأ النقاش حول موضوع يجري بحثه علي نطاق واسع في الأوساط السياسية العربية وهو الاتجاه إلي تحويل البلدان الموحدة إلي فيدراليات، وبدأته قوي سياسية في لبنان التي هي في الأساس دولة موحدة لكنها طائفية وأخذت تدعو لحق كل طائفة في أن تحكم نفسها ذاتيا.

وقد دفع بركان الثورات العربية التي انطلقت في عام 2011- بدءا من تونس ثم مصر ثم ليبيا واليمن وسوريا والبحرين- دفع إلي سطح الحياة الاجتماعية بكل نفاياته وفضلاته من نزعات عرقية ودينية وطائفية ومناطقية عنصرية وبدت كأنها استجابة من الواقع العربي لنظرية الشرق الأوسط الجديد الأمريكية التي تخطط لتحويل المنطقة إلي دويلات طائفية ودينية وإثنية ومناطقية، بعد ما أسموه بفشل الدولة الوطنية الموحدة التي حاول العرب إنشاءها بعد موجات التحرر الوطني والاستقلال القومي عقب الحرب العالمية الثانية، ثم سقوط الدول الوطنية بعد الاستقلال في التبعية الاقتصادية.

وكانت نظم الاستبداد العسكري والمدني التي قامت في هذه البلدان بمساندة من القوي الاستعمارية بعد الحرب قد مارست القمع المنظم للشعوب إضافة إلي افقارها مما أدي إلي تغييب السياسة وخلق حالة من الانصراف عن الشأن العام، وهو الانصراف الذي أدي بدوره إلي غياب أي رقابة شعبية علي الحكم، فتفاقم الفساد مع التضييق علي الحريات العامة عبر ترسانات القوانين والطوارئ الدائمة التي صنعت جميعا دولا بوليسية بامتياز حنقت شعوبها.

وهروبا من هذا المناخ الخانق لاذت الجماهير بكل الانتماءات ما تحت الوطنية، مثل الدين والطائفة والعشيرة والقبيلة والعائلة. وفي هذا السياق انطلقت دعوات بريئة – أو غير ذلك- لأشكال جديدة من تنظيم الدولة الوطنية من ضمنها فكرة الفيدرالية المتداولة الآن والتي تشتبك – عبر تشابهات كثيرة- مع مشروع الشرق الأوسط الجديد علي اعتبار أن الثورات التي قامت في المنطقة ضد الاستبداد والفساد والافقار هي شكل من أشكال «الفوضي الخلاقة» كما طرحتها كونداليزا رايس، وهي فوضي تستهدف إعادة تشكيل المنطقة طبقا للمصالح الاستعمارية وطموحات إسرائيل.

وتدعونا الرؤية الموضوعية للواقع إلي الاعتراف بأن فيروسات الطائفية والعشائرية والقبائلية موجودة بقوة في بلداننا ولها تاريخها ومآسيها، ولكن توقيف الكاميرا عند هذه «الفيروسات» وحدها واختزال الأوطان فيها هو المؤامرة بعينها، فما من دولة حديثة في العالم متقدمة كانت أو نامية تخلو من مثل هذه التكوينات، صحيح أنها تكوينات تقوي وتضعف طبقا لتطور الرأسمالية في هذه البلدان والتي عادة ما يقضي تطورها علي الأشكال ما قبل الرأسمالية التي تنتمي إليها هذه التكوينات، لكنها لاتزال موجودة في كل الحالات وإن أصبح وجودها يهدد وحدة البلدان النامية التي اندلعت فيها الحروب والصراعات والتي تعيد إلي الأذهان التجربة الأوروبية في العصور الوسطي.

ولا يجوز أن يدفع بنا الخوف من المؤامرة والانقسام إلي التخلي عن تطلعاتنا الديمقراطية في ارتباطها بتخفيف قبضة الدولة المركزيةوصولا إلي الحكم المحلي الذي تسيطر فيه جماهير المحافظات والأقاليم علي شئون حياتها وتديرها فلا تبقي أسيرة للقرارات العلوية المركزية، فبدون هذه اللامركزية سوف تتعثر التجربة الديمقراطية تحت ضغط بقايا الاستبداد الذي اسقطته الثورات. وفي ظل اللامركزية يتخلق مناخ العيش الطيب والملائم لكي تعبر الخصوصيات ما تحت الوطنية عن نفسها وتتعرف بموضوعية وأمان علي الوشائج العميقة التي تشدها إلي وحدةا لوطن، إذ أن في التعدد ثراء متبادلا. وحين تنزاح غمة الانفلات الأمني وتسقط كل القوانين المقيدة للحريات العامة سوف ينفتح الطريق إلي المستقبل، وتحقق الجماهير أحلامها في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وهي الأهداف المطروحة علي أجندة كل الثورات العربية بصور متباينة، وشرط تحققها الأولي هو أن تسيطر الجماهير علي مصيرها وتحرر إرادتها السياسية لتتوصل إلي القوة التي تمكنها من سحق المؤامرة الاستعمارية لتفتيت البلدان بلدا بلدا.

لا بديل إذن عن إسقاط مشروع الفوضي غير الخلاقة عبر التلاحم الجماهير الواعي ولحمته الحرية وعدالة توزيع الثروات.

التعليقات متوقفه