فريدة النقاش تكتب : إجرام فى حق التنوير

245

مات المستشار والمفكر التنويرى العقلانى “سعيد العشماوي” فى صمت كأنه لم يعش بيننا ولم يصدر كتبا تعد علامات بارزة فى مسيرة التنوير والتقدم الفكري.

مات “العشماوي” بعد أن نجح اليمين الدينى خلال عام ونصف العام من حكم مصر فى إهدار الطاقة الثقافية والروحية للبلاد، والتى جرى استهلاكها فى إعادة فحص كل ما هو بديهى حول هويتنا وخصوصيتنا وركائز ثقافتنا ومنابع حضارتنا.

وقبل أن يحكم اليمين الدينى مصر ويجرها إلى هذا المآل المظلم الذى رفض الشعب الاستسلام له كانت سنوات الفساد والاستبداد السابقة بانحيازاتها الطبقية العمياء لرأس المال، وممارساته الطفيلية قد استخدمت الدين وتلاعبت به كأداة لمواجهة اليمين الدينى بعد أن كانت قد مهدت له الطريق عبر زيادة الفقر والبطالة ويأس الجماهير العريضة التى وجدت كل الطرق إلى المستقبل موحلة ومسدودة.

ونجح اليمين الدينى فى استقطاب جماهير عريضة بأفكاره الظلامية وأمواله الطائلة وعلاقاته بالتنظيم الدولى المرتبط عضويا وتنظيميا بأشد الدوائر رجعية فى أوساط الرأسمالية الاحتكارية العالمية وأجهزة مخابراتها التى خططت على امتداد العقود لإجهاض وتشويه بل وتدمير تطلعات الشعوب للتحرر والاستقلال والسيادة ومقاومة الاستغلال وإقامة العدالة.

جرى تهميش “محمد سعيد العشماوي” القاضى الذى أصدر أحكاما تاريخية دفاعا عن الحريات، والتعتيم على كتبه التى طرحت أعقد الإشكاليات فى تاريخنا وثقافتنا ودياناتنا بصورة مبسطة سواء عن الحجاب أو الخلافة الإسلامية وغيرها تماما مثلما حدث مع كل من “فرج فودة” الذى اغتاله اليمين الدينى بالفتوى وبالسلاح وقتله بدم بارد وأفرج الرئيس المعزول عن قاتله قبل أن يستكمل مدة حبسه مع قتلة آخرين.

ومثلما حدث مع “نصر حامد أبوزيد” أستاذ علوم القرآن الذى احتفت بدراساته وكتبه جامعات عالمية حرة بينما اختفت كتبه من مكتباتنا حتى الجامعية منها، كما اختفت كتب “العشماوي”، و”فرج فودة” رغم اتساع قاعدة النشر الحكومى والخاص، وأصبح مشروع التنوير كلمة تلوكها الألسن دون أى جهد منظم استراتيجى وطويل المدى لزرع مبادئ هذا التنوير وقيمه العليا من حرية العقل وحرية الدين والاعتقاد عامة، إلى الإعلاء من شأن المبدأ الأساسى الذى يقول إنه لا يجوز أن يكون هناك رقيب على العقل الإنسانى إلا العقل ذاته. كذلك جرى تشويه وتهميش المبدأ العلمانى الذى يفصل فصلا تاما بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة ليصبح الدين شأنا شخصيا بين الإنسان وربه، وهو ما كانت ثورة مصر الوطنية الكبرى عام 1919 قد أعلت من شأنه بشعارها الخالد الدين لله والوطن للجميع. وها نحن نخطو فى اتجاه استكمال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين وقد تراجع هذا الشعار إلى الخلف سنين بعد هيمنة اليمين الدينى الثقافية على المجتمع حتى أصبح الفكر التنويرى العقلانى الديمقراطى التحررى معزولا يلتزم حالة الدفاع عن النفس ويلوذ بالهوامش. ولعلنا نتفاءل خيرا حول مستقبله بعد أن أمسكت جماهير ثورة 30 يونيو بالحلقة الأساسية على طريق تطورنا الديمقراطى ورفعت شعارها العبقرى “يسقط.. يسقط حكم المرشد” رافضة الدولة الدينية، كان الإجرام المنظم فى حق التنوير عبر التلاعب بالدين وخداع الجماهير قد فعل فعله، وآن الأوان بعد ثورتين عظيمتين، انخرط فيهما شباب ماهر وعلى معرفة بما يجرى فى العالم أن نفتح ملف التنوير مجددا بدءا بنشر كتب هؤلاء المفكرين على أوسع نطاق فى مكتبة الأسرة وغيرها، حتى ننجو بأنفسنا من تجربة أكثر مرارة لحكم اليمين الدينى مرة أخري.

التعليقات متوقفه