مـــن داخــــل «لجنــــة الخمســــين» : الدستور بين النص على «مدنية الدولة» و «حكومتها مدنية»

18

تقرير يكتبه:حسين عبدالرازق

عندما أعلن عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين مساء الأحد الأول من ديسمبر 2013 الموافقة الإجماعية لأعضاء اللجنة على مشروع الدستور، الذين صوتوا عليه جميعا برفع الأيدى بعد أن صوتوا على مواد الدستور (247 مادة) إلكترونيا، ووقفوا جميعا مع انطلاق أنغام النشيد الوطني.. لم يستطع كثيرون منع الدموع من عيونهم فرحا بالمولود الجديد الذى شاركوا جميعا فى كتابته كلمة كلمة، وربما أيضا نتيجة الإرهاق الذى بذله الجميع طوال 60 يوم عمل والذى أثمر فى النهاية وثيقة دستورية يؤمن صناعها أنها تجسيد لمبادئ وأهداف ثورتى 25 يناير و30 يونيو اللتين تعدان استمرارا لثورات وانتفاضات مصر وتجاوزها لها، سواء الثورة العرابية أو ثورة 1919، وانتفاضة الشباب 1935 أو الحركة الوطنية للطلبة والعمال 1946 وصولا إلى ثورة 1952 وانتفاضة 18 و19 يناير 1977.

كانت أول خطوة ايجابية على طريق صياغة الدستور الجديد، هو قرار رئيس الجمهورية فى أول سبتمبر 2013 تشكيل لجنة الخمسين من 27 هيئة وجماعة واتحادا وطائفة وتيارات سياسية حزبية ونقابة وشخصيات عامة ومجلسا قوميا.. إلخ، تولت هى اختيار ممثليها.

وعندما التقى أعضاء لجنة الخمسين «الأساسيون والاحتياطيون» لأول مرة ظهر يوم الأحد 8 سبتمبر 2013 لاختيار رئيس للجنة وهيئة مكتب لجنة الخمسين، لم نكن نبدأ من فراغ، فقد جرت مشاورات فى الأيام السابقة للاجتماع للتوافق على تشكيل قيادة اللجنة، بدأتها بدعوة عدد من أعضاء اللجنة أعرفهم شخصيا، حضر منهم 15 من أعضاء اللجنة واعتذر آخرون لأسباب مختلفة، وعقد الاجتماع بمكتبة خالد محيى الدين واختار الاجتماع خمسة من الحاضرين للاتصال قدر الإمكان بالأعضاء الخمسين لمعرفة رأيهم فى اختيار هيئة مكتب اللجنة ورئاستها وعقدت اللجنة الخماسية اجتماعا بمكتب منى ذوالفقار لعرض ما توصلت إليه، تم عقد اجتماع ثالث وأخير بمركز بدائل بدعوة من عمرو الشوبكي، حيث تم التوافق على كل المواقع باستثناء موقع الرئيس الذى أعلن كل من عمرو موسى وسامح عاشور عزمهما الترشح له، كما تم تكليف منى ذوالفقار ود. جابر جاد نصار بصياغة مشروع لائحة داخلية للجنة الخمسين.

وفى الجلسة العامة الأولى تم انتخاب عمرو موسى رئيسا للجنة بأغلبية 33 صوتا مقابل 16 صوتا لسامح عاشور، والموافقة على ثلاثة نواب للرئيس هم د. عبدالجليل مصطفى ومنى ذوالفقار وكمال أدهم، كما اختير د. جابر جاد نصار مقررا عاما وتوزع الأعضاء «الأساسيون والاحتياطيون» على اللجان النوعية الثلاث «لجنة الدولة والمقومات الأساسية للمجتمع» و»لجنة الحريات والحقوق الأساسية» و»لجنة نظام الحكم»، وكذلك «لجنة الصياغة»، واختارت اللجان مقرريها والمقررين المساعدين، فاختارت لجنة الدولة والمقومات القاضى «محمد عبدالسلام» مستشار شيخ الأزهر وأحد ممثلى الأزهر فى اللجنة مقررا لها والسفيرة «ميرفت التلاوي» مقررا مساعدا، واختارت لجنة الحريات والحقوق الأساسية «د. هدى الصدة» مقررا و»عمرو صلاح» مقررا مساعدا»، واختارت لجنة نظام الحكم «عمرو الشوبكي» مقررا و»محمد عبدالعزيز» مقررا مساعدا، واختارت لجنة الصياغة «د. عبدالجليل مصطفي» مقررا لها.

وفى الجلسة العامة الثانية تمت مناقشة عامة حول المبادئ الأساسية التى تحكم صياغة الدستور، وكنت أول المتحدثين حيث طالبت فى الجلسة الأولى بضرورة الاتفاق على الأسس التى تحقق التوافق العام، ووزعت ورقة جاء فيها:

مبادئ حاكمة للدستور

تحقيقا لأهداف ثورتى 25 يناير و30 يونيو فى «عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية»، وأخذا فى الاعتبار التراث الدستورى لمصر، بدءا من دستور 1923 ومشروع دستور 1954، والمشاريع التى طرحتها أحزاب وقوى سياسية ومدنية مثل مشروع الدستور الذى صاغته جبهة الإنقاذ والمشروع الذى طرحه حزب التجمع أو «بردية منظمات حقوق الإنسان المصرية» بالأحكام الأساسية للدستور والتى أعدتها 27 من منظمات حقوق الإنسان عام 2012.

أقترح أن تتم صياغة الدستور استنادا لمجموعة من المبادئ والأسس التى تحقق أهداف ثورة 25 يناير والتوافق العام وفى مقدمتها:

* قيام الدولة على أساس حقوق «المواطنة» باعتبارها دون غيرها مناط الحقوق والواجبات العامة.

* تأكيد مدنية الدولة والنص على أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، والشريعة الإسلامية وشرائع الأديان الأخرى والقيم العليا للأديان مصدر رئيسى للتشريع، ويكفل الدستور تنوع مصادر التشريع بما يعكس الروافد المتنوعة للهوية الوطنية ويساعد على تعزيز الوحدة الوطنية، وعدم فرض تشريعات تنظم حياة المواطنين فى المجال الخاص يتناقض مع معتقداتهم أو تنظيم المجالين العام والخاص بشكل يتناقض مع ضمانات حقوق الإنسان والحريات العامة.

* ارتكاز النظام السياسى فى مصر على احترام حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية وفقا للمواثيق والاتفاقات والعهود والبروتوكولات الدولية، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية والتوازن بينهما ورقابتها المتبادلة فى ظل نظام «برلمانى – رئاسي» مختلط يكفل تداول السلطة دوريا، وتعزيز وحماية قيم التعددية باعتبارها طبيعة بشرية وقيمة إنسانية جوهرية وركيزة لإطلاق طاقات المصريين فى بناء وطنهم وتقدمه فى كل المجالات، وتأكيد حرية إنشاء وإدارة الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية والمنظمات غير الحكومية وكافة أشكال تنظيم المجتمع المدنى وبمجرد الإخطار، طالما لا تتعارض أهداف وبرامج هذه الكيانات مع الحقوق السياسية للمصريين، ولا تقوم على أساس دينى أو مرجعية دينية.

* إطلاق الحريات العامة والخاصة والنص عليها فى الدستور وعدم الإحالة إلى القانون، واعتبار الميثاق العالمى لحقوق الإنسان والعهود والاتفاقات والبروتوكولات الدولية مرجعية إلزامية فى هذا الشأن.

* تحقيق المساواة بين الجنسين وعدم التمييز ضد المرأة وحمايتها من العنف المادى والمعنوي.

* السلطة التشريعية تتكون من مجلس واحد هو «مجلس الشعب» وبالتالى يتم إلغاء مجلس الشوري.

* هناك فصل خاص جديد للحكم المحلى بدلا من الإدارة المحلية.

* تحديد واضح لدور القوات المسلحة كإحدي مؤسسات الدولة الخاضعة للسلطة التنفيذية.

* تحقيق استقلال السلطة القضائية بما فى ذلك المحكمة الدستورية العليا.

* اعتماد الاقتصاد القومى على قطاعات ثلاثة «عام وخاص وتعاوني» وتتم إدارته على أساس «العدالة الاجتماعية» وتوزيع عادل لعائد التنمية على المواطنين، ونظام للأجور يحقق حدا أدنى إنسانيا وحدا أقصى يتناسب مع الحد الأدنى والتأمين ضد البطالة، ونظام ضرائبى تصاعدى يرتكز على الضرائب المباشرة وتحقيق تنمية وطنية مستقلة شاملة ومستدامة تعتمد على الذات وتهدف لتحقيق الرفاه الاجتماعية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، وتشجيع الاستثمار وحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وحماية المستهلك، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين جميعا، والعمل على القضاء على الفقر والبطالة.

< لضمان نزاهة الانتخابات تشكل لجنة قضائية مستقلة وغير قابلة للعزل تسمى «المفوضية العليا للانتخابات» وجميع أعضاء المفوضية غير قابلين للعزل، ويتفرغون تفرغا كاملا لعضوية المفوضية، وتلتزم أجهزة الدولة بمعاونة المفوضية فى مباشرة اختصاصاتها التى يحددها القانون وتنفيذ قراراتها وتزويدها بما تطلبه من بيانات أو معلومات تتصل بهذه الاختصاصات، وللمفوضية أن تستعين بأى جهة فى أداء مهامها، وتحدد المفوضية العليا للانتخابات ميزانية خاصة تدرج كرقم واحد فى الموازنة العامة».

وبعد نقاش حول المبادئ والأسس بدأت اللجان الفرعية فى مناقشة الأبواب المحالة لكل منها، وانطلاقا مما تم الاتفاق عليه فى الجلسة العامة وأعلنه بحسم «عمرو موسي» أن لجنة الخمسين تكتب دستورا جديدا لمصر، وأن المسودة المقدمة من لجنة الخبراء ودستور 2012 ودستور 1971 ومشروع دستور 1954 ودستور 1923.. كلها مراجع للجنة فى كتابتها للدستور.

واخترت أن أكون عضوا فى لجنة الدولة والمقومات الأساسية للمجتمع، بينما اختارت «صفاء زكى مراد» رفيقتى فى تمثيل تيار اليسار والعضو الاحتياطى للجنة أن تنضم لجنة الحقوق والحريات الأساسية.

مدنية الدولة

لفت نظرى فى أول اجتماع للجنة أن ممثلى الأزهر الثلاثة الأساسيين والثلاثة الاحتياطيين انضموا جميعا إلى اللجنة ولم يتوزعوا بين اللجان الثلاث وفعل ممثلو الكنيسة نفس الشيء، وكذلك ممثلا حزب النور الأساسى والاحتياطي.

وبدأت أول مشكلة فى اللجنة – والتى استمرت بعد ذلك فى لجنة الخمسين حتى اللحظة الأخيرة وربما حتى الآن – عندما اقترحت تعديلا على المادة الأولى بإضافة كلمة «مدنية» لتقرأ الفقرة الأولى على النحو التالي.. «جمهورية مصر العربية دولة مدنية ذات سيادة» وتمت الموافقة على إضافة «مدنية» بأغلبية 10 أعضاء مقابل رفض 4 أعضاء، كما تمت الموافقة أيضا على تعديل الفقرة التى تقول «إن الشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية» لتصبح «مصر جزءا من الأمة العربية تعمل على تكاملها ووحدتها وتنتمى إلى العالم الإسلامي».

وفوجئنا عند إحالة المواد التى وافقت عليها لجنة الدولة والمقومات الأساسية إلى لجنة الخمسين بأن لجنة الصياغة انحازت لرأى الأقلية وحذفت كلمة «مدنية» من المادة الأولي، وبدا واضحا أن تحالف ممثلى الأزهر مع حزب النور داخل لجنة الدولة والمقومات الأساسية – وهم الأربعة الذين صوتوا ضد إضافة مدنية لهذه المادة – مارس ضغطا على لجنة الصياغة وقيادة لجنة الخمسين، وأثير الموضوع فى لجنة الخمسين، وبرر محمد عبدالسلام القاضى بمجلس الدولة وأحد ممثلى الأزهر الحذف بأن مواد الدستور كلها «مدنية» وأن النص على مدنية الدولة فى المادة الأولى لن يضيف جديدا بل سيسئ للدستور حيث إن كلمة مدنية سيئة السمعة لدى الرأى العام، متجاهلا أن هناك ما بين 26 مليونا و33 مليون مصرى كانوا فى ميادين القاهرة والمحافظات فى 30 يونيو يطالبون بدولة مدنية.

وبعد أن دخلت الكنيسة طرفا فى الموضوع، ووجه الأنبا بولا رسالة للسيد عمرو موسى احتج فيها على ما يجرى وقال فيها «إننى بدأت أشعر بإحباط شديد وأصبحت غير قادر على مواجهة نفسى لمنعها من الخروج إلى الإعلام أو للشعب القبطى للتعبير عما أراه تغليبا لرأى فصيل معين دون مراعاة لمشاعر فصيل كبير تحمل الكثير على مدى عقود وتحمل أكثر من الكل ما بعد ثورة 30 يونيو وأعنى بذلك أقباط مصر».. بدأت لقاءات واجتماعات قادها عمرو موسى بين الأزهر وحزب النور والكنيسة أساسا فى محاولة للوصول إلى حل وسط أو توافق، وفى النهاية تم التوافق على الإشارة لمدنية الدولة فى الديباجة وليس فى مواد الدستور.

وإضافة للكنيسة وضمانا للالتزام بالتوافق الذى تم التوصل إليه، وجه 23 من أعضاء لجنة الخمسين هم : «د. محمد أحمد غنيم وسيد حجاب وضياء رشوان وخالد يوسف ومسعد أبوالفجر وحسين عبدالرازق، وأحمد عيد ومحمود بدر ومحمد عبلة وحجاج أدول ومحمد سلماوى وعزة العشماوى وسامح عاشور ود. محمد أبوالغار ومحمد سامى ود. هدى الصدة وعمرو صلاح الدين وميرفت التلاوى وعمر الشوبكى وعبلة عبداللطيف ومحمد عبدالعزيز والسيد البدوى ود. محمد خيري» رسالة لرئيس اللجنة «عمرو موسي» والمقرر العام «د. جابر جاد نصار» ومقرر لجنة الصياغة طالبين أن تتضمن الديباجة فقرة تقول..

رجاء النظر فى تضمين الفقرة التالية ضمن ديباجة مشروع الدستور الذى تعده اللجنة..

«انطلاقا من ثورتى 25 يناير و30 يوليو، اللتين تعدان استمرارا لثورات مصر وانتفاضاتها الوطنية والاجتماعية وتجاوزا لها، وبصفة خاصة الثورة العرابية وثورة 1919 وانتفاضة الشباب عام 1935 والحركة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946 وثورة 23 يوليو 1952 وانتفاضة 18 و19 يناير 1977.. فإن هذا الدستور يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة، ويكفل هذا الدستور تنوع مصادر التشريع بما يعكس الروافد المتنوعة للهوية الوطنية، وعدم فرض تشريعات تنظيم حياة المواطنين فى المجال الخاص يتناقض مع معتقداتهم أو تنظيم المجالين العام والخاص بشكل يتناقض مع ضمانات حقوق الإنسان والحريات العامة طبقا لمعايير الدولية».

وفى المسودة الأولى للديباجة والتى تولى صياغتها كل من د. صلاح فضل ود. محمود الربيعى تم النص على أن «مصر جمهورية مدنية ديمقراطية حديثة» وعلى «تنوع مصادر التشريع».

وفى المسودة الثانية والتى تولى كتابتها الشاعر سيد حجاب مع لجنة الصياغة بقرار من لجنة الخمسين، تمت الإشارة إلى «تنوع مصادر التشريع» ولكن أسقطت الإشارة إلى مدنية الدولة، وأضيف تفسير للنص الوارد فى المادة الثانية من الدستور والتى تقول إن «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» فرضه حزب النور وينص على أن على المشرع يتعين أن «يكون اجتهاده ملتزما بالقواعد الضابطة لاستنباط الأحكام من أدلتها الشرعية متحريا مناهج الاستدلال على أحكامها العملية والقواعد الضابطة لفروعها».

ودار نقاش طويل فى الاجتماع العام للجنة الخمسين انتهى بالاتفاق على ضرورة النص على مدنية الدولة، وحذف هذا التفسير لمبادئ الشريعة الإسلامية والذى حاول إعادة الحياة للمادة 219 فى الدستور الإخوانى السلفى – دستور 2012 – والتى كانت أحد أسباب رفض وسقوط هذا الدستور، والنص فى الدستور على المرجع فى تفسير مبادئ الشريعة» هو ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا فى هذا الشأن».

فى جلسة التصويت النهائى على الديباجة ومواد الدستور، تم النص على مدنية الدولة بطريقة غير مباشرة من خلال عبارة تقول «نحن الآن نكتب دستورا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة حكمها مدني» اقترحها مفتى الديار المصرية وأحد ممثلى الأزهر فى اللجنة «د. شوقى إبراهيم عبدالحكيم علام».

وخلال عملية التصويت كان هذا هو النص الوارد فى المسودة السابعة التى وزعت على أعضاء لجنة الخمسين والصحافة والإعلام، وعندما قرأ عمرو موسى رئيس اللجنة الديباجة للتصويت عليها استبدل عبارة «حكمها مدني» بعبارة «حكومتها مدنية» وراجعته أصوات من القاعة استنادا للنص الموزع على الأعضاء فأعاد قراءة العبارة قائلا «حكمها مدني» واعتبر أعضاء اللجنة مقولة «حكومتها مدنية» خطأ غير مقصود تم تصحيحه وصوتت اللجنة بالإجماع بالموافقة على الديباجة، ليفاجأ الجميع بعد نشر النسخة الرسمية لمشروع الدستور والذى سيتم عليه الاستفتاء بأن عبارة «حكومتها مدنية» قد أزاحت عبارة «حكمها مدني»، لتتواصل مشكلة «مدنية الدولة»!

البدوي.. ومجلس الشيوخ

ولم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة التى واجهت لجنة الخمسين.

فقد ألغى مشروع لجنة الخبراء العشرة مجلس الشورى والذى كان يمثل زائدة دودية.

وكان الرئيس الراحل أنور السادات قد قرر إجراء استفتاء على تعديل دستور 1971 لإضافة فصل خاص بمجلس الشوري، وتم الاستفتاء فى 19 أبريل 1979 على معاهدة الصلح بين السادات وبيجن وعلى تعديل الدستور لإنشاء مجلس الشوري، وتم تعديل الدستور فى 22 مايو 1980 وأصبح مجلس الشورى حقيقة واقعة.

كانت أسباب إنشاء مجلس الشورى – الذى أسماه السادات مجلس العائلة المصرية – محاولة الحزب الوطنى «حزب الرئيس» إرضاء عدد من قياداته التى طلبت ترشيحها باسم الحزب فى انتخابات مجلس الشعب ولم تتم الاستجابة لطلبها، وذلك بترشيحها لعضوية مجلس الشورى حيث يتمتع العضو بنفس مميزات عضو مجلس الشعب وبالحصانة البرلمانية، وكذلك البحث عن جهة تتولى ممارسة اختصاص الدولة بملكية المؤسسات الصحفية القومية بعد إلغاء الاتحاد الاشتراكى العربى وبدء التعددية الحزبية المقيدة، وكان الاتحاد الاشتراكى يتولى هذا الاختصاص.

وطوال السنوات التى جاوزت الثلاثين منذ تأسيس مجلس الشورى لم يكن له أى دور حقيقى فى التشريع، ولا حتى فى ممارسة حق الدولة فى ملكية المؤسسات الصحفية إلا من الناحية الشكلية، وكل ما قدمه عدد من الدراسات والبحوث المهمة لوجود عدد من الكفاءات والشخصيات «المعينة غالبا» فى عضويته، وهو دور كان ولايزال تقوم به المجالس القومية المتخصصة.

ولم تتوقف لجنة الخمسين طويلا أمام إلغاء مجلس الشوري، ولكن المفاجأة كانت مناقشة لجنة الحريات والحقوق الأساسية إنشاء غرفة تشريعية ثانية تحت اسم «مجلس الشيوخ» دون أن تتخذ توصية بإنشائها، وفاجأ «السيد البدوي» رئيس حزب الوفد وأحد ممثلى التيار الليبرالى فى لجنة الخمسين إلى جانب د. محمد أبوالغار رئيس الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعي، لجنة الخمسين باقتراح إنشاء غرفة تشريعية ثانية «مجلس الشيوخ» وتضمن الاقتراح طريقة تشكيل المجلس ونسبة المنتخبين والمعينين وممثلى النقابات والهيئات، واختصاصات المجلس.. إلخ، ودار حوار طويل فى لجنة الخمسين بين معارض ومؤيد، وأدرك عمرو موسى أن التصويت على الاقتراح سيأتى فى غير صالحه – وهو بالمناسبة مؤيد لفكرة إنشاء مجلس الشيوخ – وتشاور مع السيد البدوى ثم أعطاه الكلمة لإلقاء بيان على اللجنة، على حد قول عمرو موسي، وقال السيد البدوى إنه غير مقتنع بما سيقوله ولكنه مضطر لقوله حرصا على التوافق ونزولا على إرادة عدد من الأعضاء، ثم أعلن سحب اقتراحه.

المحاكمات العسكرية

* المشكلة الثانية تعلقت بقضية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، فقد جرى جدل طويل حول هذا الموضوع فى اللجنة الفرعية، وحضر رئيس هيئة القضاء العسكرى جلسة استماع خاصة لشرح وجهة نظر القوات المسلحة، وبعد جهود مضنية تم التوصل لصياغة تقول فى المادة 204 «.. ولا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكري، إلا فى الجرائم التى تمثل اعتداء مباشرا على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة، وما فى حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التى تمثل اعتداء مباشرا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم».. وأقرت لجنة الخمسين هذه المادة بأغلبية 41 صوتا واعتراض 6 أعضاء وامتناع عضو واحد.

والسبب أن الجرائم المستثناة هى فى الواقع جرائم إرهابية بمعنى الكلمة، لا يمكن لمواطن مدنى عادى الإقدام عليها، فالذى يعتدى مباشرة على منشآت القوات المسلحة العسكرية أو معسكراتها أو معداتها أو أسلحتها أو مركباتها، لابد أن يكون مسلحا واتخذ قرارا بالقيام بعمل إرهابى مخطط ومحدد الهدف، والإرهاب لم يعد ظاهرة طارئة، بل علينا التعايش والتعامل معه لأجل غير معلوم، فخلال الأربعين سنة الماضية توالت الأعمال الإرهابية فى مصر فى موجات متلاحقة تشتد حينا وتتراجع أحيانا، بل وأصبح الإرهاب ليس أمرا محليا فقط ولكنه ظاهرة عالمية تهدد العالم كله، وقد اختلف القضاء العسكرى اليوم عن صورته بالأمس، لم يعد القضاة العسكريون مجرد ضباط فى القوات المسلحة، بل أصبحوا مؤهلين قانونيا. وقد رجحت هذه الأسباب التصويت بالموافقة على المادة 204 خاصة أن التصويت تم فى نفس اليوم الذى اغتال فيه الإرهاب شهداء القوات المسلحة الذين كانوا فى الحافلة التى جرى تفجيرها على طريق العريش، وأحس الأعضاء أن الواجب يفرض على لجنة الخمسين توجيه رسالة تضامن مع قواتنا المسلحة التى تقدم الشهداء كل يوم فى سيناء والوادي.

لا للتمييز الإيجابي

* المشكلة الثالثة كانت مشكلة تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50% فى المجلس النيابي، كان هناك إجماع على أن تقرير هذه النسبة عام 1964 لم يؤد إلى تمثيل حقيقى للعمال والفلاحين، فالقانون الذى عرف العامل والفلاح أدى إلى تسرب مهنيين «محامين – صحفيين – أطباء..» وأساتذة جامعات وقضاة ولواءات شرطة وجيش إلى المجلس النيابي تحت صفة فلاح أو عامل!

والتمييز الإيجابى للفئات والطبقات الضعيفة يعرفه الفقه الدستورى فى العالم ويقوم على أن مبدأ المساواة تطور ليصبح المساواة فى النتائج بدلا من تكافؤ الفرص.

وقدمت اقتراحا للجنة نظام الحكم يقوم على استمرار نسبة الـ 50% للعمال والفلاحين كحكم انتقالى فى الدستور لمدة 10 سنوات وكذلك استحداث نسبة 30% لكل من الجنسين لنفس المدة على أن يعاد النظر فى هذا الحكم الانتقالى بعد انقضاء هذه الفقرة، وبشرط أن ينص الدستور على تعريف صحيح للفلاح والعامل، وقدمت صياغة تقول «يقصد بالفلاح من تكون الزراعة عمله الوحيد ومصدر دخله الرئيسى ويكون مقيما فى الريف لمدة عشر سنوات متصلة، وبشرط ألا يحوز هو وزوجته وأولاده القصر، ملكا أو إيجارا، أكثر من خمسة أفدنة» و»يعتبر عاملا من يعتمد بصفة رئيسية على دخله من عمله اليدوى والذهنى فى الصناعة أو الخدمات، ولا يكون منضما إلى نقابة مهنية أو يكون مقيدا فى السجل التجاري، على أن يكون مقيدا فى نقابة عمالية».

ولم يتم الالتفات إلى هذا الاقتراح، كانت الأغلبية تريد إلغاء هذه النسبة فورا، وصوتت لجنة الخمسين لصالح إلغاء هذه النسبة باستثناء 6 أعضاء هم ممثلى العمال والفلاحين الأربعة وممثلى تيار اليسار والتيار القومي، ووصف عمرو موسى إلغاء هذه النسبة بالقرار التاريخي. وانسحب ممثلو العمال والفلاحين من اللجنة غاضبين ثم عاد ثلاثة منهم، بينما استمر انسحاب رئيس الاتحاد العام للعمال عبدالفتاح إبراهيم حتى نهاية أعمال لجنة الخمسين.

وتوالت المشكلات والقضايا الخلافية الحزبية حول مواد محددة مثل المادة التى تجرم التمييز ومادة حرية إقامة الشعائر الدينية ومادة النظام الاقتصادى ومادة الضرائب ومادة مساواة المرأة وعدم التمييز ضدها.. إلخ.

ورغم كل هذه المشاكل والخلافات فقد تم فى النهاية إقرار مواد الدستور الـ 247 بأغلبية تتجاوز 75%، تم إقرار الدستور كله بالإجماع، ليصبح لمصر «أروع دستور فى تاريخها» على حد قول د. عفيفى كامل أستاذ القانون الدستورى بكليات الحقوق بجامعة الإسكندرية. ومواد هذا الدستور وما تضمنه من حقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وتوازن واستقلال وتكامل بين السلطات، هو موضوع التقرير القادم.

تعريف الدولة المدنية

«الدولة المدنية هى الدولة التى تقوم على مبدأ المواطنة الكاملة، وتحقيق المساواة بين المواطنين جميعا فى الحقوق والواجبات وعدم التفرقة بينهم بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو العقيدة أو المذهب أو الانتماء السياسى والحزبي، وينظم العلاقة فيها دستور مدنى يضعه الشعب، وتتحقق فيها حرية إنشاء الأحزاب والنقابات وحقوق التجمع والتنظيم، وحرية ممارسة الشعائر الدينية واحترام الأديان جميعا، وعدم الخلط بين السياسة والدين.. وتكون القوات المسلحة مسئولة عن حماية استقلال وسلامة الوطن وأرضه ولا تتدخل فى الشئون الداخلية والسياسة والحكم».

التعليقات متوقفه