فريدة النقاش تكتب : جرأة “السيسي” المعتادة

25

بخطابه يوم السبت الماضى عن الحاجة إلى “تعديل الخطاب الدينى باعتباره معركتنا الكبري” يكون الفريق أول “عبدالفتاح السيسي” واحدا من الساسة المصريين القلائل الذين التفتوا إلى ضرورة ما اصطلح المفكرون على تسميته بالإصلاح الديني.

ولا يتعلق الإصلاح الدينى فحسب بالخطاب أو بقضايا الفقه والتأويل ولكنه يذهب عميقا إلى إصلاح المجتمع الذى يقوده الفكر المحافظ والرؤى الأحادية المغلقة والمتزمتة باسم الدين إلى الانقياد للقوى السياسية المشوهة التى تحاصر التقدم الاجتماعى باسم الدين ساعية إلى مصالحها الخاصة التى تتناقض مع مصالح الوطن والشعب، بل ومع الدين نفسه وقيمه العليا.

سار “السيسي” على خطى كبار المثقفين الديمقراطيين منذ الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة رافع الطهطاوى فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولا إلى الإمام “محمد عبده” و”طه حسين” وعدة أجيال من المجددين تتلمذوا عليهم وقدموا تأويلات منفتحة وعصرية للنص الديني، ودافعوا عن فصل الدين عن السياسة حتى لا يلحق أحدهما ضررا بالآخر.

يدعو “السيسي” إلى ضرورة تقديم رؤية جديدة وفهم عصرى وشامل للدين الإسلامى بدلا من الاعتماد على خطاب ثابت منذ ثمانمائة عام، ولعل الإشارة هنا أن تكون إلى العصر الذى أحرق فيه النصيون والمتزمتون كتب فيلسوف العقلانية الإسلامية “ابن رشد” وقاموا بنفيه بعد أن كان مسلمو الأندلس قد قدموا صورة ناصعة للدين الإسلامى الذى أضاءت أنواره العالم لثمانية قرون هى عمر تجربة الأندلس الفريدة فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وكانت هذه الحضارة قد انفتحت فى ذلك الزمان على اليهود والمسيحيين وكل الثقافات والديانات وانتشلت أوروبا التى كانت ترزح تحت ظلمات العصور الوسطى ومآسيها لتضعها على أول طريق النهضة بعد أن ترجم رواد شجعان أعمال “ابن رشد” ولاحقهم التكفيريون القساة وجرى إعدام بعضهم وكانوا يسمونهم “الرشديون”، وهو ما سجل بعض ملامحه فيلم “المصير” للمخرج الراحل العبقرى “يوسف شاهين”.

يقول “السيسي” أمام حشد كبير من ضباط وجنود القوات المسلحة والمثقفين والساسة “حين يعتقد البعض أنهم حراس العقيدة والدين يصبحون هم الخطر علينا.. وما يوجه إلى الدين الآن من إساءات أمر غير مقبول.. الإشكالية لدى هؤلاء أنهم لا يعترفون أن إسلام الجماعة لا يستطيع أن ينجح فى إدارة الدولة.. ثم أكد الحاجة لتحسين صورة هذا الدين أمام العالم، بعدما أصبح الإسلام مدانا على مدار عقود أمام العالم بأنه دين العنف والتدمير نظرا للجرائم التى ترتكب باسم الإسلام زورا..”.

وتكتسب هذه الكلمات قوة ونفوذا وتأثيرا من مصداقية الفريق “السيسي” وجرأته وإقدامه مرتين، مرة لأنه كقائد للجيش ووزير للدفاع قد انحاز لثورة الشعب فى 30 يونيه 2013، وجنب البلاد حربا أهلية لم يكن حكم المرشد وجماعة الإخوان الإرهابية وحلفاؤهم الإقليميون والعالميون ليتورعوا عن إشعالها، بل إن إشعال مثل هذه الحرب الأهلية كان هدفا لوضع مصر على الطريق السورى وتمزيقها.

أما المرة الثانية التى تؤكد مصداقية “السيسي” فى دعوته لتعديل الخطاب الدينى فهى أنه رجل بالغ التدين كما عرف عنه، بل إن تدينه يكاد يكون أقرب إلى التدين المحافظ، ولذا لم تنجح الحملة الإرهابية القذرة فى وصمه بأنه “ضد الدين” لأن ذلك سيكون أمرا مثيرا للسخرية، ولكن ما أكثر القش فى مخيلة الغريق كما يقول الشاعر اليمنى “عمار النجار”.

تضع لنا تصريحات “السيسي” بندا أساسيا على جدول أعمال المرحلة القادمة فى العمل الوطنى بعد الانتخابات، بند لن ينهض المثقفون وحدهم بإنجازه، بل إنه يحتاج إلى تكاتف كل من المؤسسة التعليمية والمؤسسة الدينية والإعلام والأسرة فى ورشة عمل كبيرة بحجم مصر يكون الأساس فيها هو إبراز القيم العليا للديانات كافة وتعليمها للتلاميذ، الذين لابد أن يتقبلوا منذ الصغر فكرة أن الدين هو علاقة شخصية بين الإنسان وربه وأن فصل الدين عن الدولة ليس إزاحة له عن الحياة بل حماية له من تقلبات السياسة.

سوف يكون لدينا إذن عمل كبير على “السيسي” أن يرعاه منذ الآن بجرأته المعتادة التى أحبها المصريون وساندوه لأنه لم يبخل بحياته ذاتها من أجل إنقاذ الوطن.

التعليقات متوقفه