د. جودة عبد الخالق يكتب: المحروسة عن بعد

185

ھى قریبة وإن بعُدت. إنھا مصر. ولن تكون بعیدة أبدا؛ فھى دائما فى القلب والعقل .. فى الأذنین والعینین. لكنى قصدت بالبُعد أن ننظر إلى الأشیاء من مسافة فنرى مجمل الصورة الكبیرة دون أن تتوه التفاصیل الصغیرة. الوجود خارج مصر بالنسبة لى معاناة ما بعدھا معاناة. فأنا مثل السمكة، لا تستطیع الحیاة خارج الماء مھما كان عكرا. ومن الخارج، دعونى أن أعدد بعض الأشیاء التى لا یلاحظھا من بالداخل: بعض ھذه الأشیاء إیجابى والآخر سلبى. من الإیجابیات: الطقس المعتدل، والطبیعة المتفردة: النھر والبحر والصحراء، والروابط الإنسانیة القویة، والعیش والفول والكشرى والطعمیة. ومن السلبیات الضوضاء والفوضى والقذارة، والاھتمام الزائد بالمظھر والألقاب، والتدین الشكلى، وعدم احترام العمل، وعدم الالتزام بالمواعید.

فلنأخذ بعض الإیجابیات. أولا، الطقس المعتدل. قد یندھش القارئ من ھذا الكلام. لكن الحقیقة التى یكتشفھا من یعیش لفترة من الوقت فى بلاد أخرى ھى أن جو مصر جمیل. فلقد حبانا لله بالشمس على مدار العام. وإن غابت فلفترات محدودة جدا. و الشمس مصدر للبھجة والانشراح. ولكنھا قبل ذلك مصدر للطاقة والحیاة. لا عجب إذن أن كانت الشمس ھى أھم معبودات أجدادنا الفراعنة. وھى تمدنا ببعض العناصر اللازمة لتكوین جسم الإنسان وصحته. فلولا شمس الصعید مثلا، لكان المستوى الصحى لملایین الفلاحین الفقراء أسوأ كثیرا بسبب نقص بعض عناصر غذائھم الیومى. فى مصر قد یتبرم البعض من رطوبة الجو فى بعض أشھر الصیف. لكنھم لم یعایشوا الرطوبة الخانقة فى أماكن أخرى. مثلا فى العاصمة الأمریكیة واشنطن أجارك لله من الرطوبة. وفى إیربانا- شامبین وھى المدینة التى أعیش فیھا الآن منذ أغسطس الماضى حدث ولا حرج عن رطوبة أشھر الصیف. بعنى بإختصار، جونا بدیع (لكن لیس معنى ذلك ان نقفل على كل المواضیع!).

وعن الطبیعة، لدینا الصحراء والنیل والبحرین. لقد ظلمنا الصحراء ولم نحاول فھمھا والاستمتاع بھا. بل على العكس، أخذنا منھا موقفا قد یبدو عدوانیا- بالحدیث عن غزو الصحراء. كلمة غزو فى ھذا السیاق لا تخلو من دلالة واضحة: الصحراء عدو والإنسان یخاف من عدوه فلا یرى فیه إلا شرا. وكان یمكن إستخدام تعبیر تعمیر الصحراء أو تخضیر الصحراء مثلا. وباستخدام لغة الغزو لا نستطیع أن نرى جمال الصحراء. وھذه قمة المأساة لأن 95 % من مساحة مصر صحراء. والصحراء فیھا بحیرات مثل بحیرة ناصر وبحیرة قارون والبحیرات المرة الكبرى. وفیھا الكثبان الرملیة المتنقلة كما فى بحر الرمال الأعظم فى الصحراء الغربیة. وفیھا التلال والجبال (جبل موسى جنوب سیناء) والودیان (وادى الریان فى الفیوم). وفیھا الواحات مثل سیوة والفرافرة والبحریة. وھى تعج بعدد ھائل من الكائنات، لكنھا فى الإدراك الجمعى المصرى مجرد متاھة من الرمال بلا حدود.

أما النیل، فیكفى أن نقول أنه النھر الخالد وساحر الوجود. ونحن نقرأ فى تاریخنا أن أكبر خطایا المصرى القدیم كانت ، تلویث میاه النیل. وكیف لا وھو مصدر الحیاة؟! وعن النھر الخالد، نتذكر قوله جل وعلا فى سورة الرحمن (آیة 19- 20 ): “مرج البحرین یلتقیان . بینھما برزخ لا یبغیان.” إن معنى ھذه الآیات یتجلى بصورة مبھرة لكل من زار موقع “اللسان” الشھیر فى رأس البر حیث ملتقى النھر مع البحر (النیل الخالد مع البحر الأبیض)، لیدرك أن ذلك حقا من آیات الله الكبرى. والبحیرات منھا ما كان ذا جمال قدیم قبل أن نشوھه بكل الطرق، مثل بحیرة المنزلة. ومنها ما صار خزانا للماء الشفاف للسنوات العجاف. ویرتبط بالطقس المعتدل والطبیعة المتفردة الموقع الجغرافى الفرید، ذلك الموقع الذى وصفھ جمال حمدان بعبقریة المكان.

و للحدیث بقیة

التعليقات متوقفه