فريدة النقاش تكتب: سكن

176

 تتضمن كلمة “سكن” معنى السكينة والهدوء والسلام الداخلى حيث ينشأ التناغم بين الإنسان وعالمه، وتتأسس علاقات اجتماعية صحية يسعى فى ظلها الإنسان حثيثا لكى تبرز مواهبه وقدراته دون أن تتبدد طاقاته فى العراء والغضب والحرمان والقبح.

كان هذا هو المعنى الذى استخلصه المفكر الفنان مهندس العمارة “حسن فتحي” وهو يبلور نظريته عن عمارة الفقراء، وأيضا وهو يصمم قرى ومدنا على امتداد المعمورة، ويستخلص من خبرة بنائها أفكارا جديدة ورؤى مبتكرة ليكتب عن تجربته فى بناء قرية “الجرنة” الجديدة فى “الأقصر” كتابه الفريد “قصة قريتين” عن ما سمى فشله فى إقناع أهالى “الجرنة” القديمة فى الانتقال إلى المبانى الجديدة، وعلاقة هذا “البناء” العظيم بالعمال والمهندسين، هو الذى كان على اقتناع تام بأن مشاركة المواطنين فى وضع تصوراتهم عن السكن الذى سيعيشون فيه جل عمرهم، بل وحتى المشاركة فى بنائه شرطان لأفضل تجسيد لفكرة السكن، وكان “حسن فتحي” قد استلهم هذه الفكرة من خبرة الفلاحين القديمة فى بناء بيوتهم، والمعنى الأساسى فيها هو المشاركة.

أسوق هذه الفكرة لعلنا نتدارس معا فى ضوئها خطة وزارة الإسكان لبناء مساكن لمحدودى الدخل ومتوسطى الدخل، فمن يقرأ كراسة الشروط التى باعها بنك التعمير والإسكان للباحثين عن سكن سوف يكتشف حقيقتين واضحتين كالشمس، الأولى أن المشروع جرى تخطيطه وتصميمه بعيدا عن أصحاب المصلحة، أى أنه استبعد فكرة المشاركة.

الثانية وهى أن الأسعار المعروضة ليست فى متناول الغالبية العظمى من محدودى الدخل ومتوسطى الدخل، حيث إننا لا نعرف الأسس التى بنت عليها الحكومة تقديراتها لدخول المواطنين.

وأجمع كل من ناقشتهم فى الأسعار المعروضة أنه لابد للمواطن الذى يتقدم للحصول على هذه المساكن أن يكون قد سبق له أن وجد عملا أو وظيفة فى بلدان الخليج ليدفع المقدمات والأقساط، واللافت أيضا أن الحكومة قد حسبت سعر الأرض ضمن تكلفة المساكن رغم أن الأرض هى ملك للمصريين جميعا وأخذت بذلك تنافس القطاع الخاص فى رفع الأسعار حتى أصبح السكن بالنسبة للمحتاجين له حلما بعيد المنال.

وعلينا أن نتوقع تفاقم ظاهرة العشوائيات التى ستنبت كالفطر حول المدن، لا فحسب لأن الإسكان الحكومى ليس فى متناول سكانها، وإنما أيضا لأن الفقر والبطالة يتزايدان، مع ملاحظة أن ما يقارب الثمانين فى المائة من العاطلين هم من الشباب الذين يتطلعون إلى عمل وإلى سكن وليس حتى الحد الأدنى للأجور فى متناولهم.

وهكذا سوف نظل نشاهد بألم طوابير القوارب التى تغرق غالبيتها فى عرض البحر وهى متجهة إلى أوروبا حاملة بعض شبابنا الذين لم يجدوا عملا ولا مستقبلا فى بلادهم فما بالنا بالسكن.

فإذا أضفنا لذلك كله الآثار الاجتماعية والثقافية المدمرة لتكدس ملايين المواطنين فى العشوائيات من الأسر المفككة، وزني المحارم، وأطفال الشوارع، وعمالة الأطفال والتشوهات العميقة فى تكوين شخصية المواطنين الذين يسكنونها سوف نلحظ تأثير هذه التشوهات على المجتمع كله، لأن الأماكن التى يعيشون فيها هى فى واقع الأمر معازل، وهى أيضا أبعد ما تكون عن مفهوم السكن الذى يلعب دورا مركزيا فى تكوين ثقافة المواطنين ورؤيتهم للعالم ولأدوارهم وجيرانهم ووطنهم.

رحم الله “حسن فتحي” الذى لم تتذكره أبدا وزارة الإسكان وهى تعمل بنفس منطق التجار الباحثين عن أعلى ربح، لا بمنطق حكم جاءت به ثلاث موجات من الثورة.

فريدة النقاش

التعليقات متوقفه