د. رفعت السعيد يكتب: صراع الاسلام والتأسلم حول تجديد الفكر الدينى ( 26 )

56

لكن تداعيات معارك كتاب “الإسلام وأصول الحكم” استمرت . فقد دار الزمان دوره واسعة حتى وصل بنا إلى عام 1947 وحيث كان حزب الأحرار الدستوريين شريكاً قوياً فى الحكومة . وحيث اختفت أوهام القصر الملكى بتولى موقع الخلافة ، كما تلاشى وهم الخلافة ذاته من ذاكرة أغلب المصريين . ولجأ قادة الحزب إلى أعتاب الملك للرضاء عن الشيخ على عبد الرازق والعفو عنه تمهيداً لتعيينه وزيراً للأوقاف . لكن المشكلة الحقيقية أن اللائحة الداخلية لهيئة كبار العلماء تنص على أن يكون إلغاء أى قرار لها بأغلبية ثلثى ذات أشخاص الذين أصدروه . وقد مضت عشرون عاماً وتوفى أغلب من أصدروا القرار. وابتسم أحد الشيوخ قائلاً “وجب التأويل” وبالفعل اجتمعت هيئة كبار العلماء بتشكيلها الجديد وعززت مكانتها بحضور المجلس الأعلى للأزهر ، وشيوخ الكليات الأزهرية فى 25 فبراير 1947 وقررت إعادة شهادة العالمية للشيخ على وعودته إلى زمرة العلماء من جديد . ولأن القرار مخالف للائحة فقد عززوه باللجوء إلى الملك ووجهوا رسالة إلى الملك فاروق تقول “إن المجتمعين من أعضاء هيئة كبار العلماء وأعضاء المجلس الأعلى للأزهر وشيوخ الكليات يلتمسون من جلال الملك وفضله غزير على الأزهر أن يتفضل فيضيف مكرمة إلى مكارمه الحميدة فيعفوا عن الأثر المترتب على الحكم الذى أصدرته جماعة كبار العلماء من أكثر من عشرين عاماً” [د. رفعت السعيد – الإرهاب إسلام أم تأسلم – حيث النص الكامل] .. وأصبح الشيخ على عبد الرازق وزيراً للأوقاف وأميراً للحج لهذا العام .. وانتصر .

لكن الأمر يتطلب ملاحظة إضافية ، فعندما كنا فى عام 1966 وبدأت مجلة الطليعة فى استعادة التراث التنويرى وقررت تقديم الشيخ على عبد الرازق لقرائها عبر كتابة “الإسلام وأصول الحكم” فتطوع الدكتور محمد عمارة بإيقاف ذلك قائلاً إن الشيخ على قد ندم على إصداره الكتاب فور صدوره وأوصى بعدم إعادة نشره وعدم الخوض فى هذا البحث من جديد . والتزمنا فى “الطليعة” بما قيل أنه وصية الشيخ ، لكننى وفى الآونة الأخيرة وبمعاودة البحث فى الأمر اكتشفت عدم صحة ذلك فقد وجدت أن الشيخ قد أدلى بحديث لجريدة انجليزية تصدر فى مصر دافع فيه بشدة عن الكتاب ، وإمعاناً منه فى الإصرار على موقفه أعاد نشر الحوار باللغة العربية فى جريدة السياسة [عدد 14 أغسطس 1925] وبعد سنوات يفاجأ الشيخ الجميع بمقال عاصف ومعطر بعطر الليبرالية الجميل يعلق فيه على كتاب “السفور والحجاب للآنسة نظيرة زين الدين” يقول فيه “وإنى لأحسب أن مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظرى فى مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ فلست تجد بين المصريين إلا المخالفين منهم من يتساءل عن السفور هل هو من الدين أم لا؟ ومن العقل أم لا ؟ بل تجدهم وحتى الرجعيين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص منها للحياة المدنية الحاضرة ولكن العقبة الجديدة التى تواجه المصريين هى الوسيلة التى يتدرجون بها إلى السفور الفعلى تدرجاً لا يكون فيه منافرة بين ذوق الحجاب القديم وذوق السفور الجديد” ويوجه الشيخ تحية حارة للمؤلفة “فهى شابه فتية من بنات الشرق تنهض بالدعوة إلى ما تعتقده صواباً وإن خالفت فى ذلك رأى الشيوخ والمتقدمين” ويؤكد الشيخ “أن خوف البعض من إعلان آرائهم الحرة إن خالفت رأى المجموع يصمهم بأنهم ليسوا بأنفع للبشرية من عامة الناس الذين لا يميزون بين خير وشر ، بل ربما كان أولئك المتعلمون فى سكونهم عما يعرفون ، وفى إعراضهم عن البوح بما انكشف لهم من الحق أحط درجة من الحمقى والمغفلين ، فالذى ينقصنا هو الشجاعة فى الرأى وقول الحق من غير تردد ولا رياء ، فهذا مبدأ الكمال الإنسانى ، وهنا تختلف أقدار الرجال ، مصلح أو مفسد ، وشجاع أو جبان” [الهلال – أغسطس 1928 – مقال للشيخ على عبد الرازق] وهكذا واصل الشيخ انتصاره على الرجعيين من خصومه سواء الذين عارضوا كتابه أو حاولوا اغتيال موقفه بالقول بوصية مزعومة .

ويبقى الشيخ على عبد الرازق شامخاً بليبرالية شجاعة استمرت معه ومعنا حتى الآن .

التعليقات متوقفه