شكشكة: صبرى موسى و«فساد الأمكنة»

201

تعرفت على “حلايب” و”الدرهيب” و “جبل علبة” لأول مرة فى رواية “ فساد الأمكنة “ للروائى الكبير صبرى موسى، الذى كان أول من تنبه إلى أهمية تلك المنطقة و تميزها عن باقى المناطق المصرية بتراثها الحضارى العريق. لم يقرأ صبرى موسى عن تلك المنطقة فقط، بل زار كل شبر فيها يسجل ملاحظاته و يرسم بريشته ما يراه. و الأهم من ذلك أنه وقع فى غرامها، و أوحت له بأروع رواياته.
ولد صبرى موسى و عاش صباه المبكر فى واحدة من أجمل المدن المصرية، دمياط، التى ترقد فى حضن البحر المتوسط و تنعم بهدوء و جمال شاطئها، و التى كانت لفترة طويلة أهم مصيف للمشاهير من الفنانين و الكتاب و الساسة. ولعل ذلك كان وراء عشقه للرسم، الذى عمل مدرسا له لبعض الوقت، قبل أن يقرر التفرغ للكتابة الصحفية، وللرحلات و لاكتشاف باقى أجزاء و صحراوات مصر. و قد ساعده العمل فى مجلة “ صباح الخير” على أن يشبع هواية الترحال، و على الكتابة الأدبية فى نفس الوقت.
و يقول فى حوار معه إنه زار “الدرهيب” بالصحراء الشرقية لأول مرة فى ربيع 1963 و أمضى “ليلة” و فى تلك الصحراء، وفى تلك الليلة، كما قال، ولدت فى شعوره بذور الرواية. ثم شغلته أعباء العمل الصحفى لفترة قصيرة حتى زار الدرهيب مرة ثانية خلال زيارة لضريح المجاهد الصوفى أبى الحسن الشاذلى المدفون فى قلب هذه الصحراء عند “عيذاب”، و استيقظت لديه الرغبة فى معايشة المنطقة و الإقامة فيها بهدف كتابة رواية عنها. و لحسن الحظ، وافقت وزارة الثقافة على تفرغه من نوفمبر عام 1966 إلى نوفمبر 1967 للإقامة فى الصحراء حول الدرهيب.
الطريف أن هذا الكاتب الموهوب كان يكتب فصلا فصلا و ينشره فى حلقات بمجلة صباح الخير، وأتذكر المعاناة التى كان “ مطبخ” المجلة يلقونها فى الاتصال به مرات عديدة و حثه على أن يرسل “ الحلقة “ حتى يرسمها الرسام و يراجعها سكرتير التحرير، فكان يعدهم بذلك، ثم يرسل ما كتبه قبل موعد الطبع بساعة واحدة مثلا. كان يدخن بشراهة و يظل يكتب ثم يلغى ماكتبه قبل أن يطمئن تماما على النسخة الأخيرة . بدأ الحلقة الأولى نهاية عام 1969 ثم انتهي منها عام 1970. و رغم أنى أنتظر عادة حتى تكتمل كل حلقات الرواية المسلسلة لكى أقرأها دفعة واحدة، فقد كنت أقرأ حلقات “ فساد الأمكنة “ بلهفة، و أنتظر بفارغ الصبر حتى موعد الحلقة التالية. و أخيرا نشرت الطبعة الأولى كاملة فى العدد (204) من الكتاب الذهبى الذى صدر فى يوليو 1973. كتب صبرى موسى “ فساد الأمكنة “ بعشق صوفى للمنطقة و شغف بفطرة أهلها و أخلاقياتهم التى رأى أنها تحميهم فى صقيع الصحراء و شمسها الحارقة. كتبها بلغة سامية مختلفة تماما عن كل ماكتب، فكان أن ردت له الجميل ونالت الرواية جائزة “بيجاسوس” الأمريكية عن الأعمال الأدبية غير المكتوبة بالإنجليزية، كما حصل المؤلف على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية عنها، ثم على وسام الجمهورية للفنون من الطبقة الأولى، وأخيرا على جائزة الدولة التقديرية. رحم الله الكاتب الكبير الذى لن يعوض و كان نموذجا متفردا بين كتاب الرواية العرب و المصريين.

التعليقات متوقفه