مزرعة الحمير ومخزون الذاكرة

173

كتب: أحمد علي بدوي

النائم يحلم، وقد تُسمَع منه غمغمة: غمغمة النائم إذ يحلم. لكن هل من يسمعها يري نفس الصورة التي يراها النائم؟!

الحلم قَوْل: قول يدلي به صاحبه لنفسه. مصدره العقل الباطن يغترف من مخزون الذاكرة. فهل يستطيع صاحبه أن يدلي بنفس هذا القول لغيره؟

لعل هذه هي معجزة الفن: أقصي قدرة الإنسان علي الإفصاح: الإفصاح عن أدق الخلجات، ولعل هذا هو الفارق بين لغة الفن ولغة الحياة اليومية، هذه القدرة علي إطْلاع الغير علي وَمْضَةٍ كان الظن أن واحدا بمفرده هو الذي يمكنه رؤيتها.

العرض المسرحي الراقص “مزرعة الحمير”، الذي قدمته – علي مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية – جماعة من الفنانين الهواة قادهم مخرج العرض محمد شفيق، سَعْي طَموحا إلي تحقيق المعجزة!

محمد شفيق: المسافر وحده، الطامح إلي بلوغ نقطة أبعد من تلك التي بلغها الآخرون، قادم من رحلته التي تميزت من بين محطاتها مشاركته بالأداء في عرض “سقوط إيكاروس” مع فرقة الرقص الحديث علي مسرح الأوبرا سنة 1993، وتلتها محطات منها دوره في عرض “فويتسك” للشاعر الألماني جورج بوشنر – إخراج إيفا ماريا لوكسمبورج – علي مسرح الهناجر سنة 1995. فاز بالجائزة الأولي لمهرجان المسرح التجريبي سنة 2000 عن عرضه “حيث تحدث الأشياء”، وفي نفس السنة فاز – عن عرضه “هُمّه” – بالجائزة الأولي لمسابقة الرقص المعاصر بحوض البحر المتوسط، والتي كان مقرها مدينة جنوا الإيطالية. ازداد حب المشاهدين المصريين له عندما قدم – في سنة 2002 – عرضه “أقول لكم” المستوحي من قصائد لصلاح عبد الصبور (من بين تلك التي ضمتها مجموعته الشعرية التي بهذا العنوان)، وعرفه المشاهدون الفرنسيون في خمسة عروض قدمها علي مسارح باريس ومارسيليا ومدن أخري بين سنتي 2003 و2009. لكن سنة 1998 هي التي فيها كان تفتح وعي محمد شفيق علي الرقص الحديث بكل معانيه، لأنها شهدت مجئ فنان إسباني إلي مصر ليبحث فيها عن أصلح “الخامات البشرية” – إن صح التعبير – لاستكمال الخبرة التدريبية.

وبالخامات البشرية يبدأ محمد شفيق تصميمه لعرض “مزرعة الحمير”، لا بالتصور الذهني الـمُسبَق لتتابع العرض. هو يبحث أولا الإمكانيات البدنية لمن سيشاركون في العرض، وعلي ضوء بحثه هذا يتقرر أداء كل منهم – استثمارا لأقصي إمكانياته – كمثلما قد يفعل شاعر يترك الكلمات تنشأ الواحدة تلو الأخري وفقا لتناسق جَرْسها اللفظي، ولا يخضِع الكلمات لأفكار يبغي صبَّها فيها.

اللياقة البدنية تبدو شديدة الوضوح لدي “هاني حسن”، لذا سيكون هو الذي في العرض يباهي بإنجازاته في مجال كمال الأجسام؛ رمزا إلي الغرور والخيلاء. و”سلمي عبد السلام” ذات القدرات البهلوانية الخارقة، استغلت قدراتها إلي مدي يكاد يستحيل وصفه؛ يقابلها – من الجنس “الخشن” – “علي خميس”، الذي لم يكن في الإمكان تصور إمكانياته هذه علي الإبداع ببدنه الذي “تظهر فيه رقة ونحول”! “مروان محمد”: هذا “الجبار” – بالمعني الذي تكتسبه هذه الكلمة في سياق معين – أسْمع أداءه الجمهورَ ما يفوق أقصي ما يمكن أن ينطق به غيره، حتي إن كان “محمد فؤاد” (الذي كان له كذلك دور مساعد المخرج) قد جَسَّد ببراعته أشد “منطوقٍ” يمكن أن يصدم إنسانية الإنسان: منطوقِ النفاق! “سلمي سالم” و”نورة سيف” و”ندي الشاذلي”. وخارج الخشبة “نشوي معتوق” لهندسة الديكور، و”صابر السيد” لهندسة الإضاءة، و”حسين سامي” لهندسة الصوت. وأخيرا وليس آخرا “حسام غالب” الذي ألف موسيقي العرض، وشاركه في تأليفها محمد شفيق نفسه.

في مسرحية تنيسي وليامز “صيف ودخان”، نقل هذا الكاتب المبدع عن أوسكار وايلد قوله إننا جميعا في الوَحْل، ولكن بعضنا يتأمل السماء! وفي “مزرعة الحمير” نبدو نحن البشر جميعا كجراثيم علي شريحة تحت عدسة ميكروسكوب، دون خشية غضب الحمير – التي استعيرت لنا صفتها – لما عرف عنها من صبر، ولأنها لا تعرف القراءة!! لكن بواحدة من معجزات الفن يتم تبادل الأدوار، فإذا الذين علي الشريحة يدورون حول الميكروسكوب حتي يمكنهم التأمل من خلال عدسته – كمثل أولئك الذين يتأملون السماء وهم بعدُ علي الوحل – وإشراكنا في تأملاتهم، وإذا نحن أبناء مصر جميعا نجد أنفسنا علي الشريحة تحت عدسة الميكروسكوب، دون خشية غضب الأم: مصر، لأننا صرنا نعلم أن الرضا عن النفس هو أول الطريق إلي الضلال!

في إطار حفلة كالعديد والعديد من الحفلات التي تقام بأي منزل، نشهد تكثيفا لذلك الذي هو مجتمع البشر علي نحو ما يكون في العالم أجمع – بما فيه بلادنا – بكل ما يحوي من نقائض ومثالب: التواصل والتباعد، التباسط والتحفظ، الثرثرة والنميمة، التنابذ والتلميحات، التشجيع والتثبيط، المنافقة المكشوفة والغيرة الكامنة، التودد الصريح والعدوانية المضمرة؛ والتي قد تتفجر في كسر من الثانية!!

بعد مشاهدتنا “مزرعة الحمير” نكرر العثور علي أول الطريق – الذي ليس الطريق إلي الضلال! – وهو ترك الرضا الكسول عن النفس وبالأمر الواقع، لننقذ أنفسنا من موقعنا علي الشريحة كالجراثيم؛ ونسعي إلي اتخاذ موقع المراقب من خلال العدسة!

التعليقات متوقفه