محمد فرج يكتب : الدكتور رفعت السعيد المفكر والسياسي والقائد الحزبي ..رؤية عن قرب

943

بقلم : محمد فرج الأمين العام المساعد للعمل الجماهيري لحزب التجمع

في الذكرى الثانية لرحيل المفكر الكبير د. رفعت السعيد 17 -8-2019 ..ننشر هذا المقال :

الكتابة عن الدكتور رفعت السعيد أستاذ التاريخ والسياسي اليساري المصري قد تبدو سهلة عند البعض، وأراها في منتهى الصعوبة، فهي سهلة لو استسلم الكاتب إلى انحيازاته الذاتية مع أو ضد الرجل، فلو كان الانحياز الذاتي للكاتب معه فما أسهل أن ينطلق ليكتب قصيدة مديح وثناء معددا المواقف والإيجابيات والبطولات والفتوحات السياسية للدكتور رفعت السعيد، وظني أن هذا الكاتب المحب والمنحاز له سيجد في الأوراق وفي الوقائع ما يريد، ولو كان الانحياز الذاتي أو التنظيمي للكاتب ضده ما أسهل أن ينطلق ليكتب قصة طويلة – أو رواية أو مقامة – في ذم السعيد، معدداً المواقف السلبية له وربما التراجعات والإخفاقات التي أحاطت به أو أحاط هو بها، وظني أن هذا الكاتب المنحاز ضده سوف يجد أيضاً ما يريد.
والمشكلة لا تكمن فقط عند الكاتب المنحاز مع أو الكاتب المنحاز ضد ، بل ربما تأتي من غياب تقاليد موضوعية راسخة للكتابة عن السياسيين عموماً والسياسيين اليساريين بصفة خاصة ، فما بالك لو كانت الكتابة عن رفعت السعيد الرئيس السابق لحزب التجمع والكاتب والمؤرخ والسياسي اليساري مفجر الصراعات والمعارك، والذي أحاطت به المحبة والانحيازات له ، وحاصرته وتحاصره العداوات والانحيازات ضده من كل جانب ، من اليمين واليسار ، من الرأسماليين والاشتراكيين ، من الحكام والمعارضين ، ومن المتأسلمين والعلمانيين أيضاً.
هنا ليس علينا إلا أن نحاول أن نقترب من الكتابة الموضوعية ، وهي نفسها إشكالية ، وأن نقترب من الكتابة عن شخصية سياسية إشكالية ، وهذه إشكالية أكبر ، مبتعدين قدر الإمكان عن أي طابع ذاتي وانطباعي للكتابة عن رفعت السعيد بمناسبة رحيله المفاجئ عن دنيانا بصخبها ومعاركها وصراعاتها في الخامسة والثمانين من العمر، ولنمارس معه مغامرة “شغب الكتابة”.
1- محاولة للاقتراب :
في بداية محاولة الاقتراب من شخصية الدكتور رفعت السعيد كمفكر وسياسي وقائد حزبي إشكالي فكرنا أن نقترب من محيط الدائرة التي وقف السعيد في مركزها ، ففي المساحة التي تتواجد بها الكثير من أنصاف الأقطار التي تصل بين المحيط والمركز تنطلق عدة إشكاليات فكرية وسياسية متنوعة ، بعضها ينطلق من المحيط الموضوعي وبعضها ينطلق من المركز الذاتي ، بعضها نابع من العصر الذي عاشه وتفاعل معه ، وبعضها نابع من غياب الطابع الموضوعي وغلبة الطابع الذاتي – والانطباعي – في تناول السياسيين عموماً والسياسيين اليساريين بصفة خاصة ، وبعضها نابع من العداوات التي أحاطت به وساهم هو في صنعها ، وبعضها نابع من طبيعة حركة يسارية نشأت متعددة واستمرت متصارعة ، وبعضها نابع من طبيعته الشخصية ، من شخصيته هو كشخصية إشكالية مفجرة للصراعات مفجرة للمعارك مفجرة للمشاكل، ومفجرة لإشكايات الكتابة السياسية عنه وعن دوره السياسي.
في محيط الدائرة العامة المحيطة بالدكتور رفعت السعيد يأتي عصر من التحولات السياسية العاصفة ، من عصر عبد الناصر إلى عصر السادات إلى عصر مبارك ، وعصر من التحولات العالمية الكبرى ، من عصر الحرب الباردة وعالم القطبين ، الشرقي والغربي ، الاشتراكي والرأسمالي ، إلى تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار دولته ومنظومته في أوروبا الشرقية إلى عالم القطب الواحد ، إلى عصر العولمة ، ولم يعش رفعت السعيد هذه العصور وتحولاتها فقط ؛ بل كتب عنها ما يرضي الآخرين العائشين في نفس العصور وتحولاتها وما لا يرضيهم ، بما أنتجته هذه الكتابات وما أنتجه الرضا وعدم الرضا من تفاعل بين إشكاليات هذه التحولات وإشكاليات ما كتبه السعيد عنها.
وفي الدائرة العامة ولكن الأكثر قرباً من الدكتور رفعت يأتي اليسار المصري الذي انتمى إليه وشارك في منظماته ونضالاته وكتب عنه مؤرخاً أو ناقداً ، ولم يكن اليسار المصري المنظم شيئاً واحداً ولا تنظيماً واحداً ولا اتجاهاً واحداً ، بل منظمات واتجاهات وتوجهات وبرامج ورؤى واستراتيجيات متعددة ومختلفة ، وكثيراً – بل وكثيراً جداً – متصارعة ، وتفاعلت إشكالية اليسار بمنظماته وتوجهاته المتنوعة مع إشكاليات كتابة رفعت السعيد عن اليسار ومنظماته وإشكالياته ، منتجة حلقة ثانية من حلقات الإشكاليات النابعة من المحيط .
وفي الدائرة العامة الأكثر التصاقاً بالدكتور رفعت السعيد يأتي حزب التجمع الذي تأسس منبراً لليسار في عام 1976 كأول تنظيم علني لليسار في مصر ، وكان التجمع نشأة ووجوداً إشكالية لكل من اليمين واليسار خارج التجمع ، اليمين الرأسمالي واليمين الديني واليسار الماركسي وغير الماركسي ، وإشكالية للفصائل المكونة للتجمع نفسه ، فهو بالنسبة لليمين الحكومي حزباً يسارياً شيوعياً متطرفاً ، ولليمين الديني – الإخواني – حزباً يسارياً علمانياً معادياً للإخوان، وبالنسبة لليسار خارج التجمع حزباً إصلاحياً غير راديكالي غير جذري وغير ثوري ، وأحاطت هذه الإشكالية بالدكتور رفعت السعيد أكثر من غيره من قيادات التجمع المؤسسين والتاريخيين الذين كان من بينهم قامات يسارية كبرى في دائرة القيادة المركزية للتجمع.
ولعل الاقتراب من هذه الدوائر الثلاث التي أحاطت بالدكتور رفعت السعيد ، والتي تحتاج التوقف أمامها لدراساتها والتعرف على أبعادها الفكرية والسياسية والثقافية ، يمكننا من الاقتراب بطريقة أكثر موضوعية – بقدر الإمكان – من السمات الشخصية القيادية للراحل الدكتور رفعت السعيد ، وهو ما سوف نحاول القيام به في الفقرات التالية .
2- سماته القيادية :
للدكتور رفعت السعيد كقائد حزبي عدة سمات فكرية وسياسية وشخصية وطريقة للتعامل مع الأحداث والمناخات والدوائر المحيطة – ومن بينها الدوائر الثلاثة السابق التعرض لها – تكون معاً طريقته الخاصة وأسلوبه الخاص ومنهجه في العمل السياسي وفي القيادة الحزبية ، وتنطلق منها إشكالياته السياسية والقيادية ، وتكون دوائر محبيه وأصدقائه وناقديه والمعادين له ، وسوف نحاول التعرف على أهم هذه السمات والتعرف على مفاتيح شخصيته السياسية والقيادية .
قائد حزبي منشغل سياسياً بالسياسة اليومية:
لكل قائد حزبي طريقته في التعامل مع قضايا السياسة والعمل السياسي العام ، ويتسم الدكتور رفعت السعيد السياسي بمتابعة التفاصيل السياسية اليومية والاهتمام بها ، فالتفاصيل السياسية اليومية ليست قوته اليومي فقط كقارئ ومتابع جيد للصحف اليومية وهي المهمة التي يبدأ بها يومه في الصباح الباكر ؛ بل كذلك هي اللبنات التي ينطلق منها في تكوين وجهات نظره العامة وتحديد موقفه السياسي ، وتظل محدداته الفكرية والأيديولوجية قابعة هناك في الخلفية ، تصنع انحيازاته وانتماءاته وتحدد توجهاته ، لكنها لا تظهر في مقدمة المشهد ، بل تظهر الأحداث اليومية والأخبار وزيارات المسئولين من الخارج لمصر أو من مصر للخارج ووجهات النظر المطروحة في مقال أو عمود صحفي كمحرك سياسي مباشر وظاهر للتحليل السياسي ، وهذه الطريقة لا يحبها كثيرون من اليساريين ، خاصة من يفضلون إظهار الموقف الأيديولوجي والطبقي في مقدمة كل تحليل، وكثيرون من اليساريين الذين يفضلون إظهار المواقف الكلية من النظام ، وبصفة خاصة من رأس النظام ، ولا يفضلون الاهتمام بالمواقف السياسية الجزئية من هذا الحدث أو ذاك أو من هذه الحكومة أو تلك ، أو من هذا الوزير أو ذاك ، أو من هذا المحافظ أو ذاك ، أو من هذا الموظف العام أو ذاك ، الأهم من ذلك أن طريقة السعيد في التعامل مع السياسة اليومية – ومع مفردات الحكم والحكومات حتى لو جاءت في إطار نقدي شديد اللهجة – تظهره – في نظر القوى اليسارية الأخرى واليساريين الآخرين – كسياسي يهتم بالمنهج العملي ، وبالأحداث اليومية ، وتظهره كسياسي معتدل ، وتظهر مواقفه باعتبارها إصلاحية، غير ثورية ، منخفضة السقف.
قائد حزبي منشغل تنظيمياً بالتفاصيل الحزبية :
وللدكتور رفعت السعيد سماته القيادية التنظيمية ، أهمها على الإطلاق انشغاله التنظيمي بالتفاصيل الحزبية اليومية ، التي تصنع منه قائداً منشغلاً – أكثر من الجميع – بالإدارة اليومية للحزب ، يستيقظ مبكراً ويكون أول الحاضرين إلى المقر المركزي ، وربما يتأخر العامل المختص بفتح المقر فيفتحه بنفسه ، ثم يتابع بنفسه كل شيء ، ويتدخل بنفسه لحل كل مشكلة وأي مشكلة ، وهو أول من يفكر في ضرورة كتابة بيان سياسي مختصر أو مطول أو تصريح صحفي أو تصحيح واقعة أو الرد على خبر كاذب ، ويقابل أعضاء الحزب من القيادة المركزية أو قيادات المحافظات ، ويقابل الضيوف العرب والأجانب ، منفرداً أو باستدعاء عاجل لعدد من القيادات المركزية القادرين على الحضور العاجل ، ويطمئن على حضور العاملين بالمقر ، وعلى تفاصيل التفاصيل الخاصة بالمقر ، والخاصة بانتظام الاجتماعات الحزبية ، والخاصة بتنفيذ القرارات السياسية والتنظيمية والجماهيرية ، والخاصة بالصحة والمرض وبأسباب الغياب أو الانقطاع عن العمل الحزبي ، وحيث ينصرف من المقر في الثانية لا يتوقف عن انشغاله بإدارة العمل الحزبي متصلاً بالعاملين بالمقر أو بالمسئول السياسي مصمما على أن يكون الأكثر انشغالاً بالحزب عن الجميع .
قائد حزبي متفرغ للعمل الحزبي اليومي بين قيادات وقامات غير متفرغة:
ولم يكن الدكتور رفعت السعيد قائداً حزبياً مهتماً بالإدارة التنظيمية اليومية للحزب فقط ، بل متفرغاً – مع آخرين بالطبع – لإدارة العمل الحزبي اليومي ، وقد صنع منه هذا الوضع قائداً يأتي العمل الحزبي اليومي في مقدمة اهتماماته وأولوياته ؛ بل وضعاً يأتي فيه العمل الحزبي اليومي أهم اهتماماته وأولها ، بل هو عمله اليومي الأول ، ثم تأتي اهتماماته الأخرى – وهي كثيرة ومتنوعة – في مرتبة تالية ، ولكن بقدر عالٍ من القدرة على تنظيمٍ صارمٍ للوقت ، تمكن من خلاله من الاستمرار في ممارسة اهتماماته المتنوعة دون أن يبتلعها الانشغال بالإدارة اليومية للعمل الحزبي ، وأكسبه هذا الوضع وهذا التنظيم والانشغال بالتفاصيل وهذا التفرغ موقعاً تنظيمياً مركزياً بين رفاقه من القيادات والقامات السياسية في مجالات نوعية متعددة ، ولكن غير المتفرغة للعمل الحزبي وغير المنشغلة بتفاصيله بمشاكله وإشكالياته ، أو التي تكتفي بحضور الاجتماعات ثم تذهب لممارسة انشغالاتها ومشاغلها واهتماماتها الأخرى.
الرجل بين الرفاق : مواقعه الحزبية بين قامات فكرية وسياسية :
وصنعت تلك السمات الثلاثة السابقة للدكتور رفعت السعيد موقعاً مركزياًً في التنظيم الحزبي وهيئاته القيادية المركزية، بين قامات فكرية وسياسية وبرلمانية وقيادات جماهيرية عمالية وفلاحية ومهنية ومحلية ، مثل الزعيم المؤسس خالد محيي الدين ورفاقه ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر : الدكتور اسماعيل صبري عبد الله والدكتور فؤاد مرسي والدكتور ابراهيم سعد الدين والأستاذ لطفي واكد والأستاذ لطفي الخولي والأستاذ أبو سيف يوسف ، والدكتور على النويجي والدكتور سمير فياض والدكتور جودة عبد الخالق والأستاذ عبد الغفار شكر والأستاذ حسين عبد الرازق والأستاذ صلاح عيسى والأستاذ نبيل زكي والدكتور رمزي فهيم ، والأستاذة فاطمة زكي والأستاذة أمينة شفيق والأستاذة ليلى الشال والأستاذة فريدة النقاش والأستاذة فتحية العسال وزميلاتهن الكثيرات من القيادات النسائية والإعلامية ، والأستاذ رأفت سيف القائد السياسي والبرلماني والعامل البرلماني والقائد الشعبي البدري فرغلي والقائد العمالي والبرلماني محمد عبد العزيز شعبان والقائد البرلماني النوبي محمد مختار جمعة والعامل والبرلماني أبو العز الحريري ورفاقهم البرلمانيين ، والأستاذ عريان نصيف والشيخ خليل عبد الكريم والشيخ مصطفى عاصي والشيخ محمد عراقي والأستاذ عبد الحميد الشيخ والنقابي رشاد الجبالي ورفاقهما من القيادات العمالية ، وغيرهم من القامات والقادة والمفكرين الذين كانوا في دائرة القيادة المركزية فعلياً أو في دوائر الهيئات القيادية الإقليمية من امناء المحافظات وأماناتها وقياداتها المحلية والنقابية والعمالية والفلاحية والصحفية وهيئة الحزب البرلمانية ، فتقلد مواقع أمين اللجنة المركزية ثم أمين عام الحزب ثم رئيس الحزب ثم كان آخر موقع له قبل رحيله هو أمين عام المجلس الاستشاري للحزب.
3- توجهاته الفكرية والسياسية :
وللدكتور رفعت السعيد سماته التي أصبحت لصيقة بشخصيته النابعة من تكوينه الفكري والسياسي وخبراته السياسية والنضالية والعملية ، فهو من التيار اليساري الذي يدور في فلك استراتيجيات الثورة الوطنية الديموقراطية ذات الآفاق الاجتماعية وقضاياها التقليدية الثلاثة : الاستقلال الوطني ، والديموقراطية السياسية ، والعدالة الاجتماعية ، وهي استراتيجية الحلقة الثانية من الحركة اليسارية المصرية ، وأجزاء من الحلقة اليسارية الثالثة التي نشأت في سبعينيات القرن العشرين وحزب التجمع منذ تأسيسه في عام 1976، وهي استراتيجية تختلف عن استراتيجية أجزاء أخرى من المنظمات اليسارية السبعينية التي كان يدور فكرها السياسي في إطار استراتيجيات الثورة الاشتراكية والثورة العمالية.
وبينما اتخذت استراتيجيات الثورة الوطنية الديموقراطية في الواقع السياسي العملي والنضالي والحركي أسماء وتوجهات ومداخل عدة ، فقد كانت لها مداخل جديدة أيضاً عند رفعت السعيد، فقد اتخذت اسم بناء مجتمع المشاركة الشعبية في البرنامج العام لحزب التجمع الصادر عام 1999 ، واتخذت اسم الثورات الشعبية في كثير من الكتابات التي تعاملت مع حلقات ثورة 25 يناير 2011 وموجاتها الثورية وخاصة موجتها الكبرى في 30 يونيو 2013 ، واتخذت اسم بناء الديموقراطية الشعبية عند حركة الديموقراطية الشعبية وغيرها من الأحزاب والتيارات والكتاب والمفكرين اليساريين ، واسم الديموقراطية التشاركية عند العديد من الأحزاب الاشتراكية الجديدة ، وبناء الديموقراطية من أسفل عند العديد من الكتاب والمفكرين الاشتراكيين.
لكن هذه الاستراتيجية عند الدكتور رفعت السعيد كانت لها مداخلها الجديدة وتعبيراتها الجديدة التي تنتمي لطريقته في تناول القضايا بجذبها من توجهاتها العامة واستراتيجياتها إلى قضايا السياسة العملية وتفاصيلها اليومية ، ودون أن تتخلى كتاباته عن البعد الوطني التقليدي في ارتباطه بقضايا الاستقلال الوطني ومواجهة تحديات الأمن القومي ، أو تتخلى عن البعد الاجتماعي المرتبط بقضايا العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفئات الشعبية، قام السعيد بعمليتين :
الأولى :
هي استثمار خبراته الخاصة وثقافته كمؤرخ ومفكر دارس للتاريخ المصري في عملية ربط القضايا الراهنة للثورة المصرية بجذورها التاريخية باعتبارها حلقات ثورية متتابعة منذ الثورة العرابية ، وربطها بنضال القوى والتيارات الوطنية واليسارية في ظل هذه الحلقات الثورية عبر التاريخ الحديث.
والثانية :
هي قيامه بإضافة القضايا المعاصرة الجديدة لتكون في القلب من استرتيجية الثورة الوطنية الديموقراطية في حلقاتها الجديدة ، وأضاف في هذا السياق ثلاثة مداخل وأولويات مترابطة هي:
المدخل الليبرالي الرافض لأي تمييز :
وصنع السعيد لنفسه بهذا المدخل وضعاً جديداً كقائد حزبي يصبغ يساريته بصبغة ليبرالية واضحة في مجالات الفكر والرأي والتعبير ، وذهب يدعم هذا المدخل بالعديد من الكتابات الصحفية والمؤلفات عن الشخصيات ذات التوجه الليبرالي وأهميتها في التاريخ المصري الحديث.
ومدخل الوحدة الوطنية والمواطنة الرافض للطائفية :
وشغلت قضايا الوحدة الوطنية والمواطنة وظهور الفتنة الطائفية والإرهاب الموجه ضد أقباط مصر مساحة كبيرة من النضال السياسي والكتابة الفكرية للدكتور رفعت السعيد ، وما من ورقة – تخص بيان سيصدر أو تقرير سياسي يجري إعداده أو برنامج عام أو انتخابي – وقعت تحت يده إلا وأضاف فيها بقلمه جملة عن الوحدة الوطنية ورفض الطائفية ورفض التمييز بين المواطنين على أساس الجنس أو الأصل أو الدين المرأة كالرجل والمسيحي كالمسلم والفقير كالغني ، ولم يكن هذا التوجه الواضح في الدفاع عن الوحدة الوطنية وأقباط مصر مثار نقد قوى العنف والطائفية والإرهاب فقط ، بل كان كذلك مثار نقد بعض اليساريين الراديكاليين ممن لا يرون في اليسارية سوى ما يتصورون أنه صراع طبقي ، وبينما كانوا ينظرون لهذه التوجه للدكتور رفعت السعيد باعتباره تخلٍ عن اليسارية واستبدال الدفاع عن الطبقة العاملة والنضال الطبقي بالدفاع عن الأقباط ، كان السعيد ينظر إلى نقدهم باعتباره طفولة يسارية.
والمدخل المدني الرافض للدولة الإخوانية والتأسلم وخلط الدين بالسياسة :
وبينما كان هذه المدخل المدني في ارتباطه بالمدخلين السابقين ، مدخل الوحدة الوطنية ومدخل ليبرالية الفكر والسياسة وبناء الدولة المدنية واضحاً عند الدكتور رفعت السعيد في دعوته لإقامة دولة مدنية ديموقراطية حديثة ذات دستور مدني لدولة ليبرالية حديثة ‘ فقد كان هذا المدخل هو الأكثر وضوحاً في شقه الرافض لتنظيم الإخوان من منطلق رفضه لعملية خلط الدين بالسياسة التي يمارسها الإخوان ، واصفاً هذا الخلط بالتأسلم ورابطاً سياسات وتوجهات الإخوان والجماعات المرتبطة بها بما أسماه بالتأسلم وليس بالإسلام ، وسمى الإخوان وهذه الجماعات بالمتأسلمين ورفض تسميتهم بالإخوان المسلمين أو تسميتهم بالإسلام السياسي.
وحذر الدكتور رفعت السعيد مبكراً من مخططات جماعات التأسلم التي تسعى لإقامة الدولة الإخوانية ، وحذر من لجوء هذه الجماعات للعنف والإرهاب وإثارة الفتنة الطائفية تحت وهم الجهاد من أجل إعادة إحياء دولة الخلافة ، وبينما كانت هذه النقطة هي إحدى اهم النقاط الاستراتيجية في الفكر السياسي لرفعت السعيد ، كانت هي نفسها أهم نقاط الخلاف معه من بعض القوى الليبرالية والقومية واليسارية التي كانت تسعى دائماً للتحالف مع الإخوان ، ولم تفطن لتحذيراته إلا بعد صعودهم بعد ثورة 25 يناير ولأسباب يطول شرحها لحكم مصر بين يونيو 2012 ويونيو 2013 ، ويبدو أن البعض لم يفطن بعد لتحذيراته وكأنها صرخات في صحراء ، ولم يستطع أن يرى ما رآه الدكتور رفعت السعيد مبكراً وما تنبأ به وسطره في كتاباته مبكرا.
خاتمة :
حاولنا في هذه الصفحات الاقتراب من شخصية الدكتور رفعت السعيد كقائد حزبي وسياسي يساري ، وقلنا منذ البداية أن الكتابة عن الدكتور السعيد هي كتابة إشكالية ، وعياً منا بشخصيته الإشكالية المثيرة للجدل ، ولكننا لذلك لجأنا لمنهجية تقوم على محاولة الاقتراب الموضوعي من خارج الدائرة إلى مركزها ، من الموضوعي إلى الذاتي ، من سمات العصر إلى السمات الشخصية ، وحاولنا بهذه الطريقة المساهمة في وضع الإشكاليات الحقيقية الموضوعية والذاتية في دائرة الضوء أو تحت مجهر الفحص والدراسة ، فوضعنا الإشكاليات الموضوعية المرتبطة بالعصر ودوائر الانتماء المحيطة بالشخصية – كما نراها أو نتصورها – قبل أن نقترب من السمات الشخصية والتوجهات الفكرية للدكتور رفعت السعيد ، ونتمنى أن نكون قد نجحنا – بقدر الإمكان – في رسم صورة تقريبية للدكتور رفعت السعيد كقائد حزبي وسياسي يساري نساهم بها في المزيد من التعرف عليه وعلى أفكاره وتوجهاته وخبراته العملية ، متمنين أن نساهم بذلك في ابتعاد الكتابة الفكرية والسياسية عن الخلافات الذاتية ودوائر الشخصنة المنطلقة من الحب والكراهية ، والأهم من كل ذلك أن نتمكن من الحوار وممارسة عمليات الخلاف والاختلاف حول الأفكار بوعي يجعل من التنوع والتعدد والاختلاف ضرورة موضوعية ومقدمة لحوار مثمر. مع تقديرنا غير المحدود للراحل الكبير الدكتور رفعت السعيد، وتمنياتنا لكل المتحاورين اتفاقاً أو اختلافاً بالصحة وطول العمر والمزيد من الرقي والثقافة والإبداع الفكري والتنظيمي والسياسي.

التعليقات متوقفه