على الرغم من نقدنا الشديد في مقال سابق للقس الأمريكي چيسى چاكسون، عندما وجه خطاباً للجنة السود الأمريكان بالكونجرس الأمريكي، يطالبها فيه بأن تدفع الكونجرس إلى إصدار قرار برفض المذكرة المصرية، المقدمة لمجلس الأمن فى شأن سد النهضة للعديد من الأسباب التي ساقها، إلا أننا يجب أن نوجه له الشكر، لأن اللجنة لم تستجب لطلبه في بيانها الصادر يوم ٢٣ يونيه الجاري، بل دعمت كلاً من الطلب المصري والسوداني المقدمين لمجلس الأمن، بصدد ضرورة التفاوض للوصول إلى نتائج مرضية للأطراف الثلاثة، وفي إطار من المنفعة المشتركة وحسن النوايا، وفي إطار قواعد ومبادئ القانون الدولي، فماذا قال بيان لجنة السود الأمريكان في الكونجرس؟
قراءة في بيان لجنة السود الأمريكان:
وضعت لجنة السود الأمريكان تحريض السيد چيسي جاكسون ضد مصر لصالح إثيوبيا جانباً، وأصدرت بيانها الذي جاء فيه: تعطلت المفاوضات في الأشهر الأخيرة، وحدث تصعيد حول آثار سد النهضة الأثيوبي العظيم على كل من إثيوبيا ومصر والسودان، لكن لجنة السود بالكونجرس الأمريكي تشجع على التعاون المستمر، والمفاوضات السلمية بين جميع الأطراف، المشاركة في قضية سد النهضة، وتلك المفاوضات يجب أن تكون مبنية على المنفعة المشتركة وحسن النوايا ومبادئ القانون الدولى.
وتتحدث اللجنة عن سد النهضة باعتباره مشروع مليارات الدولارات، وتقول أن مشروع سد النهضة الإثيوبي العظيم، والذي تم الإعلان عنه في عام ٢٠١١ ، ستكون له آثار إيجابية على المنطقة، بتزويدها أفريقيا بأكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية، الذي سيولد طاقة تقريبية بقدرة ٦٠٠٠ ميجاوات، والتي ستسمح بتصدير الطاقة للدول المجاورة.
وتدعو لجنة السود الأمريكان، كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكل اللاعبين الدوليين، أن يحترموا اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة بين مصر والسودان وإثيوبيا، وأن يستمروا في لعب الدور النزيه فقط، للبحث من خلال الاتحاد الأفريقى والدبلوماسيين على أرض الواقع بالمنطقة، وعلى وجه الخصوص الاتحاد الأفريقى الذي عليه دور محوري ليلعبه، للتعبير لكل الأطراف بأن صفقة التفاوض السلمية منفعة للجميع، لا للبعض فقط في القارة الإفريقية.
ويضيف بيان اللجنة أن مشروع سد النهضة الإثيوبي العظيم يؤثر مباشرة على تدفق المياه، وعلى التغذية من الطاقة الكهرومائية والأمن الغذائي بمصر وإثيوبيا والسودان، وأنه حديثًا، إذا كان قطاع الزراعة قد عانى من الجفاف الناتج من ضعف مياه الأمطار غير الطبيعية، مع الزيادة السكانية المتزايدة بمصر، التي قاربت ١٠٠ مليون نسمة، فإن السد يساعد على إمدادات المياه وتقليل الضغط على نهر النيل، الذي يمد الغالبية العظمى من السكان بالمياه العذبة.
كذلك فإن الجفاف الذي يواجه إثيوبيا الآن، والذي من المتوقع أن يؤثر على ٢٠ ٪ من السكان مع هجوم وغزو الجراد الأشبه بالوباء، والذي التهم حوالي ٨٠ ألف فدان من المحاصيل فى الشهور الحالية، سيؤثر سلباً على الأمن الغذائي .
كما يساعد السد دولة السودان في تنظيم المياه وتقليل إطماء السدود، وكذا التوسع في الأراضي الزراعية، وزيادة إنتاج الكهرباء، والتحكم في الفيضانات.
وحيث ترى لجنة السود الأمريكان في الكونجرس أن مشروع سد النهضة الإثيوبي، ستكون له آثار إيجابية على كل الدول ذات الصلة، ويساعد على دعم الأمن الغذائي، ونقص إمدادات الكهرباء والطاقة، وزيادة إمدادات المياه العذبة لعدد أكبر من السكان، وضبط وتنمية الاقتصادات في المنطقة، فإن لجنة السود الأمريكان بالكونجرس، تدعم المفاوضات السلمية لتحقيق تنفيذ سد النهضة، وستقف اللجنة جاهزة لدعم الاتحاد الأفريقى وكل الشركاء لأجل تحقيق اتفاقية للفائدة المشتركة.
خطوة للأمام ولكن:
على الرغم من وجود العديد من النقاط الإيجابية الواردة فى بيان لجنة السود بالكونجرس الأمريكي، والتي تعتبر خطوة للأمام مقارنة بخطاب القس چاكسون، إلا أننى لاحظت بعض الأشياء كالتالي:
⁃ طلبت اللجنة من الإدارة الأمريكية وغيرها أن يكونوا نزيهين عند التفاوض، ولا أعتقد أن أمريكا كانت غير نزيهة عند مشاركتها والبنك الدولى كمراقبين بهدف الوصول لاتفاق عادل ومنصف بين مصر والسودان وإثيوبيا.
⁃ الحديث عن الفائدة لمصر من مشروع سد النهضة غير واضحة في بيان لجنة السود الأمريكان، مقارنة بالفائدة الواضحة لكل من السودان و إثيوبيا.
⁃ الحديث عن آلية الاتحاد الأفريقى لم تذكر إلا في الخطابين الإثيوبيين لمجلس الأمن الدولي، ولا غبار في ذلك، ولا اعتراض لدى مصر، و لكن يجب ألا ننسى الجهد الذي بذل من الادارة الأمريكية والبنك الدولي، والنتائج التي ترتبت على هذا الجهد.
⁃ الأجندة الخفية لإثيوبيا من إشراك الاتحاد الأفريقي تنطوي على محاولة العودة بالمفاوضات لنقطة صفر جديدة.
⁃ آلية فض المنازعات وأمان السد، لم يذكر بيان لجنة السود في الكونجرس الأمريكي شيئاً عنهما.
و بناء عليه:
أعتقد أن الموقف المصري الآن، وحتى لا تأخذنا إثيوبيا إلى نقطة صفر جديدة، يجب أن يكون كالتالي :
⁃نهاية مفاوضات واشنطن، هي البداية عند العودة لطاولة المفاوضات.
⁃تحديد سقف زمني لأي مفاوضات جديدة
⁃ضرورة الاعتذار الواضح من الخارجية الإثيوبية، والتراجع عن تصريحاتها العنترية.
⁃أهلاً وسهلاً بالاتحاد الأفريقي مع الخبرات الدولية للبنك الدولي، و أية خبرات دولية أخرى.
⁃الفائدة الوحيدة لمصر من العودة للتفاوض، هى الوصول لاتفاق له سقف زمني ملزم للأطراف، وفي إطار قواعد ومبادئ القانون الدولى لمجاري الأنهار الدولية المشتركة .
تقديرنا للوضع الإثيوبي الراهن:
مما لا شك فيه، أن مسار وسيناريوهات التفاوض الجارية حالياً حول سد النهضة، قد وضعت إثيوبيا فى موقف ضعيف نسبياً ولا تحسد عليه، وذلك للأسباب التالية:
⁃ عدم ذهاب إثيوبيا لواشنطن دى سى سواء للحضور فقط، أو للتوقيع في شهر فبراير ٢٠٢٠، خلق حالة من الشك وعدم الثقة، بين جانب كبير من الإدارة الأمريكية وإثيوبيا.
⁃ وضع سقف زمني للتفاوض، يجعل المفاوض الأثيوبي في وضع حرج جداً وضعيف جداً، لأنه تعود على مدى عقد من الزمان، على عملية استهلاك الوقت، وأنه بطريقة التفاوض من أجل التفاوض يكون دائماً فى الموقف الأقوى عند العودة للتفاوض
⁃ فشل لجوء إثيوبيا أو من يدعمها في شراء تأييد أطراف أو شخصيات دولية، مثل ما حدث مع القس چيسى چاكسون، بطلبه دعم مجموعة السود الأمريكان بالكونجرس، بالوقوف ضد مصر، والذي لم تعره المجموعة الاهتمام، وإصدارها البيان المتوازن يوم ٢٣ يونيه الجاري بضرورة العودة للتفاوض، من خلال الاتحاد الأفريقى، ودعم الولايات المتحدة الأمريكية ومن لهم علاقة بالملف، أضعف موقف إثيوبيا أيضاً.
كذلك فإن إثيوبيا قد أضعفت موقفها بنفسها، عندما استهلكت وقتاً كبيراً في مفاوضات دون اتفاق، حيث لو كانت جادة وجاهزة – كما تقول – للبدء في الملء في يوليو القادم، فهي التي قد ضيقت على نفسها، ولم يعد عندها وقت للمراوغة، وأصبح الوقت عنصراً ضاغطاً عليها، حيث لزاماً عليها الوصول لاتفاق عاجل قبل البدء في الملء الأول إن كانت جادة في هذا الشأن.
وتقديرنا للموقف المصري الراهن:
في المقابل فإن موقفنا في مصر، غير الرافض لحق إثيوبيا في التنمية، بشرط التشاور وعدم الإضرار بدولتي المصب، يكتسب قوته الراهنة من الالتزام بمبادئ وقواعد القانون الدولي، واتفاق المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا عام ٢٠١٥، وظهور نوايانا الحسنة والمرونة في كل مراحل التفاوض، وخاصة في مفاوضات واشنطن دي سي في فبراير الماضي، وتوقيعنا على اتفاق واشنطن، ومفاوضات الفيديو كونفرنس بدعوة من السودان الشقيق، ثم مفاوضات الاتحاد الإفريقي في يونيه الجاري، كذلك فإن مصر الراغبة في الوصول لاتفاق عادل ومنصف للجميع، وعدم اتخاذ إثيوبيا لأي خطوة أحادية، تملك الكثير من أوراق الضغط السلمية القانونية والإجرائية التي تمكنها من الاحتفاظ بحقوقها المائية، والتي تمكنها من دفع الضرر.
ونستطيع أن نقول أن المفاوضات التي أجراها الاتحاد الإفريقي، عبر ألية الفيديو كونفرنس، تضيف للموقف المصري عدة نقاط قوة عند عرض مشكلة سد النهضة على مجلس الأمن الاثنين القادم في ٢٩ يونيو الجاري.
حيث تم الاتفاق على عدة نقاط هامة جديدة، في القمة المصغرة – عبر الفيديو كونفرانس – بشأن سد النهضة للدول أعضاء هيئة مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي، بمشاركة الرئيس السيسي رئيس مصر وحضور رئيسي وزراء أثيوبيا والسودان، وذلك برئاسة الرئيس سيريل سامافوزا رئيس جمهورية جنوب أفريقيا والرئيس الحالي للاتحاد، وبحضور كلٍ من أعضاء المكتب الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، والرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، والرئيس فيلكس تشيسيكيدي رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى مشاركة السيد عبد الله حمدوك رئيس وزراء السودان، والسيد آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، وجاءت نتائج هذه القمة في النقاط الثلاث التالية:
– الاتفاق على امتناع أثيوبيا عن ملء سد النهضة قبل الاتفاق مع القاهرة والخرطوم.
– تشكيل لجنة من الخبراء القانونيين والفنيين بالبلاد الثلاث والجهات الدولية المراقبة، لبلورة اتفاق نهائي وملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل السد.
– إرسال خطاب بهذا المعنى إلى مجلس الأمن لأخذه في الاعتبار بجلسته الاثنين المقبل بشأن سد النهضة.
موقفنا من سد النهضة:
وجاء موقف مصر من المفاوضات الراهنة حول سد النهضة واضحاً في كلمة السيد الرئيس في هذه القمة المصغرة كالتالي :
١- حيث أعرب رئيس مصر خلال القمة، عن الشكر لرئيس جنوب أفريقيا على مبادرته بالدعوة لعقد هذه القمة الهامة لتناول قضية سد النهضة بحضور الدول المعنية الثلاث، باعتبارها قضية حيوية تمس بشكل مباشر حياة الملايين من مواطني مصر والسودان وإثيوبيا، مؤكداً عن تقدير مصر لحكمة وجهود جنوب أفريقيا الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، في التعامل مع التحديات الاستثنائية التي تواجه القارة الأفريقية في هذه المرحلة.
٢- كما أكد السيد الرئيس أن مصر منفتحة برغبة صادقة في التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن بشأن سد النهضة، على نحو يمكن إثيوبيا من تحقيق التنمية الاقتصادية التي تصبو إليها وزيادة قدراتها على توليد الكهرباء التي تحتاجها، أخذاً في الاعتبار مصالح دولتي المصب مصر والسودان وعدم إحداث ضرر لحقوقهما المائية، ومن ثم يتعين العمل بكل عزيمة مشتركة على التوصل إلى اتفاق بشأن المسائل العالقة، وأهمها القواعد الحاكمة لملء وتشغيل السد، وذلك على النحو الذي يؤمن لمصر والسودان مصالحهما المائية ويتيح المجال لإثيوبيا لبدء الملء بعد إبرام الاتفاق.
٣- كما شدد السيد الرئيس على أن مصر دائماً لديها الاستعداد الكامل للتفاوض من أجل بلوغ الهدف النبيل بضمان مصالح جميع الأطراف من خلال التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، ومن هذا المنطلق فإن مصر تؤكد أن نجاح تلك العملية يتطلب تعهد كافة الأطراف وإعلانهم بوضوح عن عدم اتخاذ أية إجراءات أحادية، بما في ذلك عدم بدء ملء السد بدون بلورة اتفاق، والعودة الفورية إلى مائدة المفاوضات من أجل التوصل إلى الاتفاق العادل الذي نصبو إليه.
كان هذا هو موقف مصر، وكانت هذه هي نتائج القمة المصغرة لهيئة مكتب الاتحاد الإفريقي، ونحن ذاهبون إلى مجلس الأمن الدولي، فهل تلتزم إثيوبيا؟.. أم مازال أمامها وقت للمراوغة؟ والتصريحات العنترية؟ والتصرفات الأحادية؟ وضرب عرض الحائط بالقوانين والاتفاقات الدولية والمؤسسات الإقليمية والدولية؟.
*بقلم د. عبد الفتاح مطاوع خبير المياه
التعليقات متوقفه