نسمة تليمة تكتب:حين يعلو النهار
في يوم ما قالت لي إحداهن إن الأمور لا تسير على ما يرام دائما، لذا من الأفضل لك ألا تنتبهي لما يأتي به الزمن، استقبلي الأشياء وأنتِ في كامل إهمالك لها، علّها تغير معادلاتها، اعتمدي على الوقت، هو كفيل بالكثير من الشفاء.
أنظر إلى نوافذ البيوت أثناء عودتي إلى المنزل، وأنا أستقل وسيلة مواصلات غير آدمية لكنها تمنحني وصولا سريعا إلى البيت، يجلس إلى جواري أحدهم، يرفض أن يجمع أجرة الميكروباص، وفى ضيق يرمي على الرجل الذى يسأله هذا كلمات لا تليق بطلب مساعدة، جميعها تعني أنه يكره حياته، ومنشغل بما يفكر فيه، فلماذا يرهق عقله في جمع وحساب نقود لا تغني ولا تسمن من جوع، أمامه سيدة أربعينية ظلت تبتعد عن الرجل الذى يجلس إلى جوارها حتى أنها كادت ترمي بنفسها من النافذة، لا أحد يحتمل الآخر هنا، ولكننا جميعا ننتظر النزول.
حين أرقب نوافذ البيوت وقت غياب الشمس أتذكر بيتنا الصغير بعيدا حين كانت أمي تلح على أحدنا بفتح أنوار الشقة قائلة “الدنيا ضلمت”، فأجدني أقف أمام تعبيرها البديع، وأضعه إلى جوار تعبيرها الآخر في الصباح “النهار علي- بكسر الياء-“، كما لو كنت أكون “بازل”، فتمنحني أمي دون قصد منها معادلات حياة لائقة بسنين جديدة تغيب داخلها الأحلام، النهار يصعد حقا يا أمي ليولد يوم جديد، الشروق يظل يأتي من الأسفل بالفعل حتي تستقر الشمس في كبد السماء، وحين تغرب الشمس تظلم الدنيا، الدنيا الصغيرة التي نعيش داخلها، ودنيا أمي الصغيرة تعلو وتظلم لتمنح الحياة إشارات خاصة بها فقط، أتخيل حين سافرت يوما إلى ألمانيا وغربت الشمس في التاسعة والنصف ليلا، ماذا كانت ستفعل أمي؟ إذا وجدت معادلاتها التي ألفتها تتغير؟ من المؤكد أنها كانت ستعتبره يوم الحساب.
أظل أنظر إلى النوافذ التي مازالت لم تضء الأنوار في وقت الغروب، هل هناك إحداهن تنادي هي الأخرى مثل أمي؟ أم أن هناك طفلة تجلس وتستمتع بآخر شعاع من الشمس في صالة البيت وترفض أن يغيبه نور الأباجورة مثلي؟ النوافذ عوالم تمنحني تأمل كل شيء خلفها، أختبر ألوان الستائر إذا ما استطعت لمحها، وأبحث عن براويز للصور على الحائط المقابل للنافذة، أظن ظن الحب فيمن يسكنون خلفها إذا ما وجدت قساري زرع معلقة، أختبر روحي في النفور منها أو الانجذاب لها، وبناءً عليه أضفى على أصحابها ملامح وشغفا، أو أبعد عينيّ فورا عنها، نوافذ منطقة الزمالك مميزة، بشبابيك دائرية جانبية، ورسم هندسي مميز للبلكونات وألوان قرمزية رائقة، وخشب يزين الحائط للحفاظ على المبرد، تخبرنا عن زمن ماضٍ لا يعود، أما نوافذ منطقة المهندسين فأجدها جافة بعض الشيء، علبا صغيرة تجاور بعضها البعض، لا تلتقط منها سوي أنها مكان معمور بالسكان، وأصوات السيارات تقطع عنك التأمل فتريد أن يسرع السائق لتجاوز المكان فورا.
كان أبي يمنحني دائما سراجا لإنارة الطريق، لا أعتقد أنه كان يقصد، فهو يري أنني يجب أن أنير الطريق بنفسي، رغم أنه كان يستيقظ ليلا في الشتاء حين يسمع خدش الأوراق على مائدة الطعام وأنا أكتب، فيأتي بالمدفأة ويشعل زر الإشغال لتدفئني وأنا أٌراهن على الأيام رهانا غير مؤكد، أبي الوحيد الذى كان يجيد الانتظار، فيشغل المدفأة ويسألني أن أردت أن يصنع لي كوبا من الشاي لمزيد من الدفء؟.
أبى منحني كل الثقة، والدفء، وفى المرة الأخيرة أخبرته أن بعض الرهانات فزت بها، فابتسم كما لو كان يعرف مسبقا، لكن بعض الأسلاك الطبية منعته من سؤالي عن الشاي.
كانت لي مُعلمة تحب الأشجار، كانت تطلب مني حين أمر من الشارع أن أنظر إلى الأشجار وأبحث عن أكثرها تميزا، وحين أجدها أسحب منها كل الجمال لأدخره داخل عينيّ، وبهذا الجمال أعيش، ظللت طيلة عشرين عاما أفعل ذلك، ولا أعرف ماذا أفعل الآن، فعيناي مزدحمتان وتؤلماني.
أود لو أخبر بائع الورود الذى أمر من أمامه كل شهر في شارع شريف بوسط البلد أن أوراق الورود التي يلقيها على بوابة المكان في الأرض أحبها أكثر من الورود التي يضعها في الفاترينة، الرجل يترك ما تبقي من البيع على الأرض، لا أعتقد أنه طقس لا إرادي، فأحيانا أجدها مرتبة بعناية ورقة بجوار ورقة، في هذا الأسبوع كان اللون الروز هو السائد لا أوراق حمراء أو بيضاء، كما لو كانت لوحة فنية، لماذا إذن يلقيها على الأرض؟
Sign in
Sign in
Recover your password.
A password will be e-mailed to you.
التعليقات متوقفه