العجوز والعجوزة ..هبــــه البدهلي
يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com
العجوز والعجوزة
هبــــه البدهلي
يفتح عينيه بعد تردد إثر هزة من يدٍ صغيرة…
سقف الغرفة ملئ بأشكال سماوية صناعية، السقف بكامله سماء زرقاء تتخلله سحب بيضاء متفرقة… ليست هذه سماؤه التي يعرفها.
هزة أخرى من نفس اليد، وصوت طفولي (قوم بقى تعبتني)، أنزل ناظريه من السماء إلى الأرض، صاحب الصوت والهزة طفلٌ جميلٌ يأكل الشيكولاتة مستخدماً في ذلك يده الأخرى، شعره طويل يغطي شيئاً من وجهه، فيزيده ذلك بهاءً(من أنت؟ ) قالها بعد تفحص شديد لملامحه، (يوووه هو كل يوم؟!) قالها الطفل، ثم جرى إثر نداء أنثوي من خارج الغرفة (مصطفى.. صحيت جدك؟).
(جدك) ؟!.. هل أنا جده؟.. هل انا جد من الأصل؟ مؤكد لا تقصدني فابني وبنتي صغيرين في عمر هذا الولد الذي يشبه ابني كثيراً، لكن ابني قصير الشعر، وهل هناك من يطول شعره إلا هؤلاء الشباب الذين يقلدون (علي حميدة)، وأمثاله من هذا الجيل العجيب؟!
لمن هذا البيت إذاً؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟!
مكتب أطفال وستائر منسوج بهاً صوراً طفولية وسريرٌ صغير لا أعلم كيف نمت به!، صورة كبيرة على أحد الحوائط لذات الولد، ورجل يشبهه وامرأة لا أعرفها.
اعتدل وأنزل قدميه من على السرير، ولبس نعليه، واستند على عكاز بجانب السرير لاإراديا مصدقاً في أنه عكازه.نظر إلى خارج الغرفة،إمرأة تروح وتجئ لتضع جميع أطباقها المملؤة بالطعام على السفرة، والولد يروح ويجئ معها إلى أن قالت له (روح صحي بابا عشان الغدا)، يذهب لغرفة ما، وتذهب إلى المطبخ، ويتسلل هو ليصل اباب الشقة المقابل لباب الغرفة، فيفتحه في هدوءٍ، ويغلقه في هدوء ٍ أيضاً، ولكن بعد مروره (الحمد لله محدش شافني كان هيبقى موقفي محرج جداً)،.
أسرع في هبوط الدرج ومنه للبوابة، ثم إلى الشارع الذي تفاجأ بأنه لا يعرفه ولم يره من قبل.
سيارات كثيرة بيضاء تضع كلمة أجرة شعر بأنه رأى من قبل تلك السيارات البيضاء لكن أين ومتى لايدري، (تاكسي.. تاكسي) ركب تاكسي أبيض وأسود كما اعتاد، للأمان.
على فين يا حاج؟
العجوزة.
فين في العجوزة؟
اطلع بس وبعين اقولك
إحنا في العجوزة شارع النيل، أروح فين؟
مش عارف أنا ساكن هنا
ساكن فين ياحاج؟
بص أنا بتمشى هنا انا ومراتي وولادي معظم ليالي الصيف، وبندخل النادي هنا ع النيل
أي نادي ياحاج؟
انت اسمك ايه يا حاج؟
انا؟… مش فاكر.
انت ناسي اسمك كمان؟!
نزلني هنا وأنا هروح لوحدي
متأكد؟
طبعاً ده بيتي أنا عارفه كويس
يقلب في جيوب الترينج فلا يجد إلا جنيهاً ورقياً مهروساً، قدمه للسائق المنتظر فنظر إليه في غيظ (روح ياعم الله يسهلك جنية إيه اللي بتديهولي، انزل وخد بالك من نفسك).
مشي كثيراً بشارع النيل طولاً حتى وصل إلى مقابل مسرح البالون،هو يذكره جيداً رغم تغيره إلى حد ما فكان يأخذ (منى) وصغيريه إليه كثيراً، المكان من حوله تغير تغيراً كبيراً، الشارع كله تغير، ما اسم الشارع، وما رقم العمارة يا تُرى؟ ليتك تمرين يا مني!
جلس على الرصيف أمام إحدى بوابات أحد النوادي..أخذ يبكي، أعطاه أحد المارة عملة معدنية، فأعطته واحدة عملة أخرى ثم ثالثةً ثم رابع، وكان رده على جميعهم (لماذا؟)، فمنهم من رد بابتسامة ومنهم من مشي دون انتباه. نهره حارس النادي حينما انتبه لوجوده، عبٓرالشارع ذاهباً إلى حيث لا يدري.
حمل أحدهم الصورة التي كان واضعها بين صدره وملابسه حينما سقطت دون انتباهه، أعطاه إياها، فشكره لذلك وحدق بالصورة قائلاً له (دي منى مراتي.. انت تعرفها؟) فهز الرجل رأسه نافياً معرفتها
طب جبت الصورة دي منين؟
وقعت منك يا حاج
انت أكيد تعرفها وديني عندها
انا معرفش حد.. روح يا عم الله يسهلك
ذهب وتركه حاملاً الصوره ناظراً إليها لا يبال أثناء سيره السيارات ولا غضب سائقيها ولا سبابهم.
يشم رائحة الطعام فيبكي (لا حول ولا قوة الا بالله) قالها أحدهم أمام المطعم مربتاً على كتفه، وضع في يده النقود التي اعطاها إياهه المارة أمام النادي فيضعها الرجل له في جيبه ويجلسه على إحدى طاولات المطعم ويطلب له فول وطعمية ويحضر له علبة عصير، ينتبه له صاحب المطعم العائد من مشواره ( يوووه هو أنت تاني؟!.. خليك ياعم هنا يمكن حد من عيالك يجي ياخدك).
أكل بنهم وشرب العصير وكوبين من الماء، وبقي في سكون.
رائحة كريهة تملأ المكان، يشمئز المشترون والأكلون داخل المطعم (ياعم شكلك عملتها على نفسك،اطلع بره، هتطفشلنا الزباين).
يجلس على الرصيف المقابل للمطعم باكياً، يتابعه الرجل مغتاظاً من لحظة لأخرى، تاركاً إياه في سكونه.
يسند رأسه إلى جذع الشجرة بجانبه.. يبكي (أنا عاوز منى.. أنا تعبت وعاوز أنام).
يسترقه من غفوته قلب أن يأسره النوم صوت قريب (بابا) يحتضن ذو الصوت رأسه في حنو(إيه اللي خرجك لوحدك بس يا بابا، أنا دايخ عليك من الصبح! حقك عليا انا نسيت اقفل الباب بالمفتاح).
( الحمد لله يا باشا إنك جيت أنا واخد بالي منه من ساعة ما جه).
يشكره ويخرج له شيئا من المال فيرفض (عيب عليك يا باشا ده زي والدي، ربنا يشفيه، بس ابقي خد بالك منه واقفل عليه بالمفتاح)،ثم يتطوع بإحضار كرتونة فارغة له، فيأخذها الآخر ويطبقها ويضعها على مقعد السيارة الأمامي ثم يشير لوالده بالجلوس فوقها فيفعل.
يجلس على مقعد القائد وينطلق بالسيارة مؤكداً إغلاق الأبواب فاتحأ النوافذ جميعها.
يطيل أبوه النظر إليه ثم يقول (أنت مين؟.. أنا حاسس إني اعرفك، أنا مطمنلك.. بس انت مش ابني… أنا ابني صغير عنده سبع سنين، وديني عند( منى).
صرخ الاخر صائحاً (منى ماتت من عشرين سنه… أمي ماتت).
التعليقات متوقفه