الجزء الثالث روايــــــة .. التى رأت .. صفـــــاء عبد المنعم
يسر جريدة الأهالي أن تقدم لقرائها صفحة إبداعات تواكب الحركة الأدبية المعاصرة في مصر و العالم العربي و الترجمات العالمية ..وترحب بأعمال المبدعين و المفكرين لإثراء المشهد الأدبي و الانفتاح على تجاربهم الابداعية..يشرف على الصفحة الكاتبة و الشاعرة/ أمل جمال . تستقبل الجريدة الأعمال الابداعية على الايميل التالي: Ahalylitrature@Gmail.Com
الجزء الثالث
روايــــــة
التى رأت
صفـــــاء عبد المنعم
————————————-
لماذا كسرت قلب على ياهند ؟
أرادت هند أن تسير أكبر قدر من الوقت فى هذه الليلة الباردة أول ليلة من ليالى يناير . كانت الشوارع غارقة فى أوحالها ، بعد ساعات من المطر المتواصل . وهى تسير فى دوامة من الأفكار والوحدة والبرد. وتسأل نفسها ما جدوى العودة إلى البيت . بيت الملائكة الأموات . وكلما ضاق صدرها ، كلما سارت أكثر وأكثر كى تفتت الصخرة الراسخة على صدره ا، وتريد أن تنشر هذا الغضب والعنف الذى يقتلها . تعبت عيناها من البحث عن شىء تتعلق به ، تتأمله ولو لدقيقة واحدة . الهوة شاسعة بينها وبين الآخرين ، ومحاولة ناهد من منعها كتابة الميراث لعلى ونور. جعلت بعض الأحزان تسيطر عليها. المحلات مزدحمة بكثير من الألوان المبهجة والملصقات التى تهنئ بالعام الجديد. مرت عيناها سريعاً على محل ورد.
تريد أن تشترى ورداً ، فهى تحب الزهور، وتملأ بيتها بالخضرة والزرع . ولكن لمن تشترى الورد وتهديه له ؟ لم لا تشتريه لنفسها ، وتضعه فى آنية جميلة وتتأمله. عله يخرجها من عفونة الوحدة والأرق الذى لا ينتهى . ناهد ونور وعلى أسماء تملأ رأسها وتزدحم بهم . غداً وقفة العيد. واليوم عيد ميلادها.ضحكت وقالت : بأى شيء جئت يا عيد ؟!
جملة قديمة ! ولكنها مناسبة . أى عيد يخصها ؟
تركت الشوارع والأوحال ، والبرد ، ونزلت إلى محطة المترو، جلست تستمتع بالدفء، والورد، والناس.
مر قطار.
قطاران.
ثلاثة.
الساعات تمر.
والدفء يغمرها. أغمضت عينيها قليلاً. سمعت صوتاً يناديها بهمس : كل سنة وانتِ طيبة. مددت ساقيها ، وانتظرت الصوت يهمس . رأت حمزة ، يمتطى حصاناً أبيض يمد ذراعيه نحوها ، ويختطفها.فتحت عينيها ببطء . رأت رجلا يجلس جوارها مستكينا مثل قط عجوز.
قالت فى نفسها : هل يوجد آخرون مثلى يعانون من الوحدة والبرد. مدت يدها بوردة وأعطتها له. وقالت : وانت طيب . رأته يترك القطارات تمر، وهو يجلس متأملاً الناس ويشم فى الوردة
مسحت على ركبته قليلاً ، ثم قامت واقفة ، ونطت داخل القطار.
« أما إسماعيل فقد بدأ يتهيأ لمغادرة القاهرة فى القطار الخاص.. الذي سيحمله إلى الإسكندرية حيث يستقل اليخت المحروسة ولكن إلى أين..؟
كان إسماعيل يأمل أن يقضي بقية أيامه فى الاستانة ، إلا أن السلطان عبد الحميد غليظ القلب حرم عليه أن يقيم فى أي بلد من ممتلكات الدولة العثمانية. وشاء القدر أن يعيش إسماعيل طريدا شريدا فى العواصم الأوروبية التى طالما شهدت أيامه عزه ومجده..”
نزلت هند من المترو في محطة جمال عبد الناصر وأخذت تسير وسط شوارع بولاق الحبيبة التي شهدت طفولتها وصباها وحبها لحمزة ، الذي كان يجلس طوال الليل على مقهى علي بابا ينتظر خروجها لأي سبب حتى يسير وراءها في الحواري والأذقة يتطلعان بعيونهما إلى المشربيات والبيوت القديمة ثم يقفا أمام السلطان يقرأ الفاتحة في صمت ، هي تدخل البيت وهو يظل واقفا حتى آخر الليل..
تنهدت هند كثيرا وبكت عينيها من كثرة الحزن والألم والصمت، وهي ما زالت تسير في الحارات.
عند بيتنا وراء القسم.
الشمس تلف دورة كاملة.
كنت أراها واضحة ،
فوارة فى عنفوان شبابها ،
تتشابك مع سكان الحى بخيوطها الذهبية ،
وتربطهم من أطراف شعورهم .
كانوا أناسا طيبين .
لا يسرقون الوقت ،
كل ما يعرفونه هو ؛
أن الله خالق كل شىء، ويعرف كل شىء.
وراء القسم..
كان المجرمون طيبين بسطاء .
فى سرقاتهم ، نكاتهم ، عذابهم .
كان حلمهم بسيطا مثل طيبتهم .
فهم لا يأكلون اللحم ولا الفاكهة .
فقط يعرفون أن الشمس تشرق كل صباح ،
وتغرب كل مساء .
وأن الله يراهم، ويعرف ضمائرهم .
وراء القسم..
النساء الصغيرات يتكدسن داخل حجرات رديئة، سيئة ،
ولكن الشمس تمحو العطب .
النساء تدهشك بساطتهن ، طيبتهن .
ثيابهن الخفيفة، خفة روحهن.
وأفخاذهن العارية على طشوت الغسيل الزنك ،
وماء الطرمبة .
والحرارة لا ترتفع إلا فى الليل .
والهزر لا يعلو إلا فى المساءات .
ورائحة العدس تفوح من الأطباق الصاج القديمة .
وتدور الأحاديث حول..
الجيش ،
والبلد ،
والبت اللى فارت ،
وهزيمة سبعة وستين وجمال ،
والغلا والكوا.
وراء القسم..
كان لى بيت كلما مررت به ،
شممت رائحة الهدوم وصابون الغسيل ،
وماء الحموم على الأبواب .
وقفت هند طويلا أمام الباب تتأمل البيت وتتسمع الأصوات القديمة تأتي من العمق من الداخل ، من خلف الأبواب ، صعدت السلم وهى تردد فى داخلها : وتلك الأيام دول ، نداولها بين الناس ، تصعد في هدوء تنير درجات السلم المظلم بضوء الموبايل ، وصعدت إلى حجرة حمزة وفتحت الباب ، وجلست طويلا تسمع صوته أو لعله يأتي إليها فاردا ذراعيه ليخلصها من هذا العذاب ، وأخذت ترنو إلى الحوائط والأبواب تستنطقها من صمتها القديم ثم هبطت السلم بعد ذلك في صمت وخشوع .
*************************************
كداب ياخيشة كداب قوى ..
أنا كنت فكرك فهلوى !
وقفت هند مندهشة ترنو بعينيها القططية وهى تشير للبائع بأصبعها إلى الشرائط المصفوفة فوق الأرفف : عايزه ده ، وده ، وده . يضع البائع أمامها الشرائط مبتسماً لذوقها وسعيداً بالمبلغ الذى ستدفعه . فلأول مرة تدخل امرأة بهذا الشكل الأنيق ، وتطلب منه شرائط قديمة راكدة. عبد الغنى السيد ، محمد عبد المطلب ، عبد العزيز محمود .. وأخرين .. انتشى البائع ، وهرش فى رأسه . وقال لها : عندى مجموعه شرائط نادره . هل ترينها ؟
قالت : أراها.
قال البائع فى نفسه : ياسلام على الذوق الراقى ، وهو يحاول أن يتذكر أين رأى هذا الوجه من قبل ، إنه لا يدرك الآن . أفرغ الأرفف جميعها ، ووقف أمامها يختار لها الشرائط ويقرأ الأسماء والأغانى والمغنين .
– ها ما رأيك فى صوت صباح فخرى ووديع الصافى .
– الله جميل .
– طب ما رأيك فى صوت نازك ونور الهدى . ونجاة على .
– رائع .
البائع يرص الشرائط ويضعها إلى جوار بعضها .
– ما رأيك فى شرائط فيروز التى لحنها زياد الرحباني .
– مذهل .
كان كلما يذكر لها اسم شريط تنبهر به وتأخذه . أخذت الفرحة تنط من عينيها غير مصدقة هذا الكم الهائل من الشرائط النادرة والأصوات الرائعة. والبائع مازال يدعبس بيديه ويبحث بعينيه هنا وهناك، فوق الأرفف عن شريط نسى أن يعرضه ، أو مغنى نسى اسمه .
– ها ما رأيك فى صوت ليلى مراد.
– فى فيلم غزل البنات.
– نعم.. وأفلام كثيرة.
– رائع . أنتَ حقاً بائع رائع . يالها من صدفه أن رأيتك .
البائع يضيف ويرص ويبحث.
– ها ما رأيك فى أغنية العيون السود لوردة؟
– أوه. صوت وردة جميل . وأنا أحب أغانيها القديمة . خصوصا فيلم فى ألمظ وعبده الحامولى.
– تقصدين الفيلم.
– نعم.
– ولكنك جميلة. وأغنية العيون السود رائعة. وعيناك جميلتان.
أخذت تكح بصوت مسموع ومنتش.
– هيه .. وبعدين.
– والله بكلم جد، العيون السود جميلة.
– وبعدين معاك.
وضع البائع الشرائط جميعها. وأخذت تقرأ ما يقرب من ساعتين أسماء الأغانى. ووقف هو بعيداً يتطلع إلى عينيها، ثم يردد بينه وبين نفسه: مالها العيون السود. ثم انتهز فرصة اختيارها الشريط ، وفتح حواراً معها، وأخذ يرص أمامها بعض الشرائط الحديثة.
– ما رأيك فى أليسا، ونانسى عجرم وكارول سماحة؟
– لأ.
– طب عمرو دياب وعاصى الحلانى؟
– وبعدين.. أنا بحب القديم.
– الشباب يا مدام الشباب.
كان يتكئ على كلمة الشباب بأكثر من طريقة، وأكثر من دلالة، وعندما ابتسمت. قال لها : أظن هذا الشريط رائع. أغانى عبده السروجى ،غريب الدار.
توترت هند قليلاً، وعادت بظهرها للخلف. تتأمل الشرائط وهى صامتة. ثم قالت له : عايزه شريط وديع الصافي يا عيني ع الصبر، ودار يا دار. والحساب كام .
أمسك البائع الآلة الحاسبة ، وأخذ يضغط على الأرقام ويعد الشرائط ويحسب. ثم قال منتشياً : ألف وثلاثمائة جنيه.
ثبتت عينيها فى عينيه.
– نعم.
قال مداعباً : مدام أكتب البون وألف الشرائط . صمتت قليلاً. ثم غادرت المحل فى وقار ودهشة. أخذ البائع يناديها.
– يا مدام. يا مدام. أنا شفت حضرتك فين قبل كدا؟
التفتت له بدلال ، وأشارت بأصبعها .
– مش مهم.. مش مهم.
هرش البائع فى رأسه مغتاظاً وهو يحاول أن يتذكر أين رآها.
قالت له وهى تتوارى مبتعدة .
– انسى .
عاد البائع يرص الشرائط على الأرفف من جديد، وهو يحاول التذكر، ووجهه يزداد حنقاً وغيظاً، أين رأى هذا الوجه من قبل .
« في صباح يوم 30 يونيه 1879 نهض الخديو إسماعيل من نومه بعد آخر ليلة قضاها فى قصر عابدين ، القصر الذي بناه وجعل منه تحفه معمارية ومقر للحكم بعد أن ظلت القلعة المقر الرسمى لحكام مصر منذ صلاح الدين الأيوبي . هبط إسماعيل إلى الطابق الأرضي فوجد فى انتظاره جمع غفير من الأمراء والوزراء والكبراء والتجار والأعيان.. جاءوا لتوديع أميرهم الوداع الأخير بعد أن عاشوا فى كنفه سبعة عشر عاما كانت أشبه بزلزال هز مصر من أعماقها ونقلها إلى مشارف المدينة الحديثة ، ثم هبط بها إلى هاوية الدمار والوقوع فى براثن النفوذ الأجنبي ، وها هو إسماعيل يطوي صفحته الأخيرة بخيرها وشرها، ويستعد لمغادرة البلد الذى أراد أن يجعله قطعة من أوروبا. فإذا بأوروبا تتأمر عليه، وتجمع كلمتها على إقصائه ونفيه من مصر، بعد أن استشعرت الخطر من تصاعد النزعة الوطنية والتفافها حول إسماعيل.. عندما حانت الساعة الحادية عشرة جاء الخديو الجديد توفيق ليصحب أباه إلى مثواه الأخير.”
كانت هند تجلس في جروبى تستمتع بدفء المكان وهى تدنو بعينيها إلى الخارج وتتابع سير المارة والعربات في شارع 26 يوليو، وأمامها يتجلى التاريخ واضحا حريق القاهرة في 51 ، حريق القاهرة في 77 ، والحرائق القادمة. رشفت آخر رشفة من الفنجان وتركت الحساب على المنضدة منصرفة وهي ما زالت تعيد التاريخ والأحداث في رأسها.
ما أن دخلت هند من الباب. حتى صرخت ناهد فيها زاعقة.
– كده يا هند. تسيبينى لوحدى. مع الوليه اللى بتموت جوه. وتخرجى.
أخذت هند رأس ناهد بين أحضانها وقبلتها، وكانت الدموع تنزل من عينيهما ساقطة. وأفاقتا على صوت نداء.
– يا ست هند. يا ست هند.
ضحكت هند، وأبعدت رأس ناهد عن صدرها.
– ما هى صاحيه زى القرد. ماماتتش.
ثم دخلتا الحجرة فى سرعة. جلست كل منهما على طرف من السرير، وأم جابر نائمة.
أم جابر: صلوا على النبى.
هند وناهد : عليه الصلاه والسلام يا نبى.
أم جابر : أنا شفت اللهم أجعله خير. عيال صغيرين قد نور وعلى، أتلفوا حوليا وخدوا إيدى، وفضلوا يلفوا بيا المشايخ..شيخ.. شيخ. نطلع من السيدة زينب للسيدة نفيسة ، نروح الحسين ، ومن الحسين للدسوقى ، للسيد البدوى. لسيدى أبو الحجاج بالأقصر . وآخر المتامه ، رجعت عند حبيبى السلطان أبو العلا.سحبت هند يدها من يد أم جابر، وهى تحاول أن تدارى دموعها.
هند : يا وليه يا خرفانه. يا بتاعة الموالد عايزه تفهمينا إنك لفيتى مصر بحالها ، وزرتى جميع الأولياء والمشايخ .. وأنتِ قاعدة هنا. ضحكت أم جابر وقالت : دى بركة ربنا و الأوليا. الروح هى اللى لفت. ضحكت ناهد بدورها وهى تمسح دموعها: يا وليه يا مجذوبه. يا عرة الدراويش عايزه تفهمينا إنك واصله. ضحكت هند وقامت واقفة : دا إنتِ عمرك ماركعتيها.
أشارت لها أم جابر أن تصمت ، ثم قالت : اسكتوا أنا سامعة صوت حد بينادى. اطلعوا بره.. اخرجوا. تركتا هند وناهد أم جابر لأصواتها وخرافاتها. ووقفتا عند الباب صامتتين. أشارت لهما أن تغلقا الباب عليها. ففعلتا وخرجتا بسرعة. جلست هند أمام النافذة، ليلة بكاملها، وناهد تجلس أمامها تقرأ قصارالسور من المصحف الصغير الذى فى يدها، «إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ثم صدقت وقالت: هانعمل إيه يا هند لو أم جابر ماتت.
– أبداً هادفنها مع جابر وسمرة فى ترب الصدقة.
مسحت هند دموعها وهى تتذكر جميع الصور التى تمر على ذاكرتها الآن فى تتال مرعب. كأنه شريط يعيد نفسه من جديد. إلا صورة واحدة تظل تتردد على ذهنها ولا تنساها أبدا.ً
صبت كوباً كبيراً من الشاى ، وأخذته بين يديها ، وأخذت تحكى لناهد هذا المشهد الذى لا يبتعد عن ذاكرتها مهما حاولت.
كانت أمى لا تعرف عنى شيئاً.
سوى أنها تعد لى الطعام ، وتغسل لى الملابس . ويوم الجمعة. ساعة صلاة الظهر. جاء أبى فرحاً، حاملاً ملابس جديدة لى اشتراها من عمر أفندى أوكازيون.. وشنطة جلد طبيعى من خان خليلى وأخذ يحكى لأمى ما صنعه مع صديقه الذى كان يريد الشنطة لابنته. وكيف ظفر بها أبى. كنت أذاكر دروسى وأتابع حوارهما ، وأنا صامتة . وعندما نظرت إلى الشنطة وأمى تمسكها بين يديها فرحة .
قلت ببرود : هى دى؟
غضب أبى .
نهرتنى أمى : سدك كدا كسفه الرجل.
ثم أمسكت فى يدها الجلباب الجديد. ونادتنى : طب قومى ، وقيسى الجلبية الحلوة دى.
لأول مرة أذكر.أننى منذ بلغت الثانية عشرة ، لم أخلع ملابسى أمامها . رأيت وجهها يحمر، وتضمنى ضاحكة ، دامعة : إيه دا؟
تصنعت الغباء وادعيت أنى لا أعرف ماذا تقصد، رفعتُ ذيل قميصى الأبيض، وجدت بقعتين من الدم: مش عارفه ، إيه دا؟
قالت وهى تمسح دموعها : طب اجرى بسرعة. حطى إيدك فى شق الباب. وقولى يا باب يابو خرمين،ماتجنيش إلا يومين، اتنين. بسرعة الحقى. ومن يومها يا ناهد وماعدت أرى أبى.
قامت ناهد من مكانها وأخذت رأس هند بين أحضانها وهي تقرأ الفاتحة : والنبي يا بنت خالي ما تعيطي لحسن أنا خلاص أتهريت بكاء على الولية اللى جوه.
« وحانت لحظة الرحيل، فصعد إسماعيل إلى عربته الخاصة، وترك القطار ليشق الطريق وسط المزارع المترامية فى دلتا النيل وأخذ يتطلع إلى الأرض الخضراء تتخللها المساقي والطرق والقرى ويملأ عينيه من مناظر عساها تخفف عنه لوعة الفراق.. القطار ينهب الأرض قد جاشت على خاطره ذكريات الأيام الخوالي عندما كان يهبط العواصم الأوروبية، فترتج المجتمعات وتلبس المدن أحسن حللها وتبدي أجمل زينتها، وتتهيأ لاستقبال العاهل الشرقي الذي يذكرهم بملوك ألف ليلة وليلة حيث ينثر عليهم القناطر المقنطرة من الذهب والفضة “.
********************************
وياجبل مايهزك ريح
“ الغجر.
هم صنف مزيف من المتشردين ، يخفون حقيقتهم باتخاذهم عادات غير مألوفة ، ويلطخون وجوههم وأبدانهم ، ويتخذون لأنفسهم لغة خاصة بهم ، ويرتحلون هنا وهناك ، يدعون معرفة الطالع وعلاج الأدواء ويصيبون العامة بأذاهم ، ويحتالون عليهم بسلبهم أموالهم ، ويسرقون ما خف حمله وغلا ثمنه. فى ذلك الوقت فإن جيلا من اللصوص ينتمون إلى حثالة من شعوب، تعيش على التخوم بين القرى والمدن “.
ما إن أغلقت هند الكتاب حتى دخلت ناهد صارخة مستغيثة بها.
ناهد : يالهوى دوول يكلوا بقره بخراها.
ضحكت هند ووضعت الكتاب أمامها على المنضدة ، ثم خلعت النظارة عن عينيها.
– مين يا بنت عمتي اللى يكلوا بقره.
ناهد : التتار. التتار يا حبيبتى ، اللى جم يعزوا فى المفحوره أم جابر اللى ماتت من شهر، وبلطوا فى الخط.
ضحكت هند وهى تمسح عينيها.
هند : دوول غلابه.
ناهد : غلابه مين؟ دوول لقوا متوا ، ونومه . وأكل ومرعى وقلة صنعه.
أشعلت هند وابور السبرتو، ووضعت البراد على النار ثم قالت : تعالى نشرب شاى تعالى.
جلست ناهد أمامها وهى تعدل الإيشارب على رأسها.
ناهد : يابنت خاالي مش كدا. يرحلوا بقى. حبة دم.
أمسكت هند الكتاب فى يديها وأخذت تواصل قراءتها بصوت مرتفع وقالت: كفاية ظلم مهما كان دوول بشر، وأهل على ونور.
” شرعوا ينزحون عبر الولايات بزعامة ملك لهم، يبحثون عما يقيم أودهم بالسرقة والتلصص والانتهاب، وقراءة الطالع، ويلوكون حكايات مزيفة عن انتمائهم إلى مصر وأن آلهتهم أكرهتهم على النفى. ويدعون بوقاحة أنهم أمروا بالتكفير عن خطايا أسلافهم”.
ناهد : أهل على وبس . وياريت يخدوه معاهم .إنما نور أنتِ عارفه وأنا عارفه مين أهلها ؟
يا زارع الوداد إياك الوداد شجرة قل
ولا سواقي الوداد نضحت ولا مياها قل
أيام ننام ع الفراش وأيام ننام ع التل
وأيام بنلبس حرير
وأيام بنلبس فل
أنا رحت لشيخ عالم نشكي له
رمي الكتاب من يمينه والتفت وقال
الغندره بعد الدندره تنزل.
ما إن دخلت هند الحجرة التى بها الحريم ورأتهم جالسات متراصات يتحدثن . والرجال يدخنون الجوزة فى الحجرة المجاورة والصوت يرتفع بالضجيج .حتى تحرك الجميع وجاءوا لاستقبالها فرحين . ثم جلست بين النسوة تتسامر معهن. واقتربت منها امرأة شابة جميلة جداً وقالت : والنبى تحضرينا يا ست.
هند: خير.
أمسكت امرأة أكبر سناً من ذراع الفتاة وواصلت حديثها الذى انقطع بدخول هند.
الأم : عارفه أبوكى اللى عامل فيها غضنفر وع.. ع. وياما هنا وياما هناك. من عمرك. مجاش يمتى.
البنت : يا قلبى.
الأم : كسر قلبك على قلبه. ريش على مافيش. نكدى وينكش على الشر بمنكاش.
البنت : يام رومنى ماله زى الفل. ليش ماتكونى انتى العايبه. ماكدب جدك حين قال: كيف بنت ابنى تناسب البرمكى.
البنت : وى.. وى شنوب هذا الكلام. ما احنا نور ولا حلب. إحنا غجر. ما احنا غوازى.
الأم : كيف بنت بطنى تطمع فى اللى فى يد غيرها.
البنت : بدى أعيش.
الأم : بدك يقولوا بنت الشيخ طه كبير الغجر.. نوريه.. غازيه.
البنت : إيش.. إيش يارومنيه ما هذا.بدك أطج أطج. ما أنى بدى اللى فى يد غيرى.أني بدى أسأل ليش إحنا هيك. وليش هما هيك.
الأم : بيانو يا بنت الغجر. مورش كيف كان معك.
البنت : يام مايكفينا الشحاته والكافيه وجرى السكك.. والخيش.
الأم : بده يصنع منك غازيه.
البنت : آه يا روميه.
الأم : بده يرجصك فى الموالد. هو يصير زمار. وانت تصيرى غازيه رجاصه. بنت الشيخ طه تصير برمكيه. يا ويلى. يا ويلى..
وأخذت المرأة تلطم خديها وتنكش شعرها. أشارت هند إلى البنت أن تأتى إلى جوارها.
هند: يا..
البنت : نعم يا ست.
هند : ما اسمك.
البنت : اسمى الجازيه.
هند : منين؟
البنت : من طهواج.
هند : ومن هذه ؟ تشير نحو المرأة الباكية.
البنت : دى أمى.
ما إن سمعت المرأة حديث ابنتها مع هند حتى قامت عليها ضرباً وسباً ، وأخذت تجرجرها من شعرها على الأرض.
الأم : يا جلابة العار للغجر كلاتهم .
البنت : يام. مابدى أحاكى معاك. أنا بدى أجولك ع اللى واجعنى ومطهجنى .
الأم : اللى وجعك واجعنى. بنت الأنجاس تصير من غير لباس.
البنت : أنا ما بدى أشوفك ولا أسمعك ، مابدى أنظر وجهك ..
يا روميه. بدى أجيب الجاز وأدلجه ع الأنجاس ولد الأنجاس.
وهنا تجرى البنت إلى الخارج ، وأمها وراءها وجميع من بالمنزل يصرخون ويولولون ، صغار وكبار. وخرج الرجال خلفهم جميعاً.
اليوم تحققت ناهد من مشاعرها تجاه أبى الحجاج. ثلاثة أيام كاملة. أغلقت الباب عليها. لا نوم. لا طعام. لا أطفال. ولاالمدرسة. حتى أولادها محمد ومحمود ذهبا عند هند. وكان أبو الحجاج يمضى لها فى دفتر الحضور والانصراف. دون تعليق. دون سؤال. وبعد ثلاثة أيام عادت وقبلت الزواج منه. وكانت هند تتندر بهذا الموقف وتضحك: من أول قرصة ودن يا ناهد تتجوزى. ثم غضبت منها وتركتها ولم تذهب معهم إلى الأقصر لأتمام مراسم الزواج هناك . فقط أرسلت برقية تهنئة للعروسين. والدعاء لهما بحياة سعيدة. فهى تعرف ناهد جيداً. شخصية متقلبة رغم طيبتها، فهى أقرب للإثارة والمزاجية من الهدوء والاعتدال. وتتأثر بسرعة إذاً ضغط عليها أحد بقوة. كانت هند تضحك عليها وتتهامها بالتسرع وخفة العقل. وأحياناً تناديها : يا أمعه. فتغضب ناهد وتثور : بكره نشوف يا هند. مين اللى خفيف ومالوش رأى.
« وعندما جلس الخديو عباس الثاني ابن توفيق على عرش مصر ، ذهب لزيارة جده في منفاه. وجدد طلب إسماعيل للعودة إلى مصر.ولكن تصرف عباس لم يكن أفضل من تصرف أبيه وتجاهل مطلب جده.. وبينما كان الخديو عباس يشهد حفلا بدار الأوبرا، تلقى برقية تنذر بسوء حال جده إسماعيل. استدعي أعمامه واستشارهم، واستقر الرأي على أن يسافر الأمير فؤاد والأمير حلمي ليكونا بجانب والدهما، ريثما يسعى الخديو عباس العودة إلى مصر. وأجمع مجلس الوزراء على رفض عودة إسماعيل خشية أن يجر ذلك أزمة سياسية. فى البداية عارضهم الخديو عباس بشدة، ولكنه اضطر إلى النزول على رأيهم”.
مسحت هند دمعة أخيرة نزلت على خدها حين قرأت هذا المقطع وعن حالة الخديوإسماعيل الذي كانت تحبه مثلما تحب جده محمد على صانع النهضة الحديثة فى مصر رغم ما أحدثه وجلبه لمصر من آمال وآلام وحزن.
ساعة كاملة فى الليل البارد..
من ليالى يناير الطويلة. وقفها أبو الحجاج أم باب حجرة أم عسلية فى شارع وابور الطحين. وابنتها فاطمة تغلق الباب من الداخل. وهو يهبد بقبضتيه على الباب كى تفتح ويأخذ ملابسه ويرحل. كانت لديه لوثة ، أوهوس جنسى .معتقداً أنه سيصل فى يوم ما إلى بعض التجليات مثل شيخه الشعرانى واقتنع بقراءات للشيخ عن الجنس. هدأت الخبطات. وصار يناديها بصوت خفيض.
– يا فاطنه.. يا أم عسليه. الهدوم يا جماعة.. الدنيا برد. والنهار قرب يطلع.
أخذ يتوسل. إلى أن مدت له أم عسلية يدها من فتحة الباب. وأخرجت له الفانلة بالعافية.
وصوت ابنتها بالداخل تهددها : والله أصوت. وأعمل زى ما عملت مع رجب وهانم.
عندما سمع هذا التهديد. لبس الفانلة وصار يجرى مبتعداً، وهو بين لحظة وأخرى يلتقط أنفاسه وينظر وراءه . وظن أو اعتقد أن رأه بعض المصلين فى الجامع ، وبائع اللبن ، وبائع الجرائد صرخ منادياً : يا شيخى سامحنى واحمينى .
ما هى إلا لحظات حتى قامت عاصفة خلعت تنده من أحد المحال وبسطتها مثل البساط وحملته فوقها. وعندما وصل إلى بيته قاطعاً المسافة الطويلة من شارع وابور الطحين إلى شارع السكة الجديدة. دخل ملقيا نفسه على الأرض باكياً. ثم أخضر الشبشب الملقى إلى جواره وأخذ يضرب نفسه ضرباً مبرحاً. ومقرراً عدم العودة إلى ذلك شرط أن تقبل ناهد الزواج منه. وسوف يحاول مهما كلفه الأمر.. لو طلبت منه كتابة البيت ومصنع الحلاوة الذى يملكه. ثم قام ودخل الحمام ، وأخذ يتقئ ما فى جوفه من الكبدة المحمرة بالبصل والثوم الذى جهزته له أم عسلية وشراب الجن الذى أحضره. ثم ألقى بالفانلة وأحضر لترا من الجاز وسكبه عليها وأشعل فيها النار.
وفى الصباح ذهب إلى المدرسة.. وكانت العيون تتفحصه فى صمت. وسمع بعض ضحكات التلاميذ وهم ينادونه : الورور وصل.
نادى بصوت مرتفع : أفتح يا كركر.
جاء يجرى وجحظت عينا كركر الفراش وهو يفتح له الباب دون أن يرى حزمتى الفجل فى يديه كالعادة. وترك باب المدرسة مفتوحا وكعادته فى التاسعة تماماً. دخل عبده عسلية حاملاً صينية الشاى باللبن ، ووضع الكوب على المكتب ، وقبل أن ينصرف ، وضع لفة كبيرة كانت فى يده وقال : الأمانة. ثم انصرف مسرعاً.
أغلق أبو الحجاج الباب ، وفتح اللفة وجد بها ملابسه والبطاقة وسلسلة المفاتيح . دسها فى درج المكتب . ورأى صورة شيخه تظهر وتختفى أمام عينيه. فأقسم فى سره ألا يعود ثانية. وأخذ يستغفر الله العظيم. ثم قال : اللهم أخزيك يا شيطان.
« عاني الخديو إسماعيل من عنت وقسوه وهو يعاني سكرات الموت حتى أن الخديو عباس ساءه موقف مجلس الوزراء. فبعث بسر دار الجيش محمد راتب باشا إلى الإستانة، ليكررالرجاء فى عودة إسماعيل إلى مصر رفقا بصحته. فلم يظفر بالقبول. وفى 17 يناير 1885 تنبه إسماعيل من إغماء طويل.. واستعدى نجليه فؤاد وحلمي وقال : إذ مت فأدفنوني فى مصر، مقر جدي وأبي، وموطن آلامي وأحلامي، الذى عشت له ، وتمنيت سعادته، وحرم على العودة إليه “.
فرغت الحياة من حولك يا هند!
أسبوعاً كاملاً مر على زواج ناهد وأبى الحجاج، شهراً كاملاً مر على فراق على ونور، شهوراً عديدة مرت على وفاة أم جابر وحلول أم عسلية مكانها.
كانت هند تقف فى أول القصر عند الباب تشعر أن الأرض تميد بها. تقف وسط الصالة الكبيرة، تشعر أن الأرض تتمرجح تحت قدميها، وهى تقب وتغطس، كأنها وسط أمواج هادرة، وتكاد أن تغرق. تصرخ، لا يخرج صوتها. تبكى لا تنزل الدموع. يملأها حزناً كبيراً وعميقاً، تدخل حجرة رباب مسرعة تحيط نفسها بصور الموتى والماضى والزكريات. إنها لا تصدق أن الحياة قد فرغت من حولها تماماً الأصوات الضحكات – الحركة – المعارك الحياة خاوية تماماً، وتافهة لدرجة لا تصدق. ولأول مرة أشعلت هند علبة سجائر، وطلبت من أم عسلية شراء علبة أخرى وعندما اعترضت: صحتك ياست هند. نهرتها هند بعنف شديد وغضب.
– وأنتى مالك يا أم العجل. هى النصيحة نقصاكى، غورى.شوفى ابنك الزفت فين يجيب علبة زفت خلينى أشربها. شربت العلبة الأخرى ، وأخذت ترنو من النافذة التى كانت رباب تنزل منها شعرها الطويل ليتسلق عليه العشاق.
احبه قلبي والمحبة شافعي لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل
عسى عطفه منكم على بنظرة فقد تعبت بينى وبينكم الرسل
مسحت دموعها وأخذت تدنو للصور التي تظهر أمامها.
ورأت كأن ضباباً كثيفاً يحيط بالنافذة ، وعن بعد يقف حصنان جميلان الأول أبيض والثانى أحمر والصور تتابع رباب وجعفر ثم هند وحمزة ثم على ونور، هكذا على التوالى يركبون الأحصنة التى تتكاثر أمام عينيها ويطيرون. قامت من مكانها فزعة ، حاولت مد يديها نحوهم ولكنهم تركوها وحيدة حزينة. وعندما أطلت من النافذة بجسدها كاملاً، رأت عبده العجل أسفل النافذة ، يحاول تسلقها ، وكأنه ينتظر خروجها وهو ممتطياً العجل وفى يده السكين ليذبحه ، كما حكى جابر بعد حفلة الزار . وقالت أم جابر أنها رأت عبده عسلية أسفل التعريشة الكبيرة التى خلف حجرة رباب ممتطياً عجلاً كبيراً ويجز رأسه بالسكين ويفصلها عن جسده، وخرج به إلى الشارع. ومن يومها لقب بعبده العجل بدلاً من عبده عسلية. وكان يصيح بعلو صوته : هذه رقبة التيس أبى الحجاج ، هذه رقبته. الآن هذه الصيحات والخرافات والحكايات تتوالى على رأسك بعد أن فرغت الحياة من حولك يا هند. استعاذة هند بالله من الشيطان، ووقفت ترنو إلى الشمس وهى تشق السحاب وتخرج مشرقة عفية. نادت على أم عسلية وقالت : انتى يا أم الزفت. فين الشاى يا أم الخرفان.
أسرعت أم عسلية ووقفت بين يديها : ياست صحتك ، شاى على ريق النوم .
غضبت هند فهى لا تحب من يعارضها . ياام العجل هاتى الشاى . وكفياكى نصايح .
وأشعلت السيجارة من العلبة . وأخذت تنظر إلى الشمس وهى تنهض من غفوتها الطويلة.
” يا سيدي أريد أن أدرس علم المنطق على يديك. ياابنتي قد صار الفقه ثقيلا على قلبي.
فكيف يعلم.. وقد أفتى بعض العلماء بتحريم الاشتغال به؟ يا مولانا إن العلم عبادة.
صحيح، ولكن ما وجدنا فى العلم رقة قلب بخلاف الذكر والاستغفار.. مع أن فضل العلم على غيره مشروط بحصول الإخلاص فيه. وما أظنه أن عندي إخلاصا “!!
ما إن تركت هند عملها.. بتقديم أستقالتها. والتفرغ لمشروعها، بتحويل الدور الأرضى من القصر مع جزء من الحديقة إلى بيت للمسنين والعجزة وأطفال الشوارع.. وكانت أول النزلاء أم عبده عسلية، وأولاد ابنتها فاطمة الشرشوحة ، وفى يوم دخلت عليها ناهد.. بعد غياب دام أكثر من ثلاثة شهور وثلاث سنين ، بعد زواجها من أبى الحجاج . والمقاطعة النهائية بينهما. دخلت عليها ناهد غير مصدقة.
– معقول يابنت خالي اللى سمعته.
– خير يا ناهد.
جلست ناهد تلتقط أنفاسها المتلاحقة.
– سمعت إن أم عسلية عندك.
– نعم.
– بعد اللى حصل.
نظرت إليها هند نظرة ثاقبة. جعلت ناهد تخفض عينيها. وتصمت. كانت تقوم هند، بصرف رواتب شهرية لبعض الأسر الفقيرة. وتقديم الوجبات السريعة والجاهزة لأطفال الشوارع وبعض عمال الورش. وإمعاناً فى رسم الصورة الجديدة لها. كانت تقدم الفائض من الطعام للكلاب والقطط الضالة ليلاً. سمعت ناهد من البعض وهذا قليل، ولم يراها سوى واحداً مشكوك فى رأيه وربما يكون أختلط عليه الأمر أنه رأها كل يوم فى الثامنة مساءً تطوف حول جامع السلطان أبى العلاء. وواحدة أخرى رأتها تأيداً للرأى السابق ومشكوك أيضاً فى صحة هذا القول: أنها رأتها فى السادسة صباحاً تخرج من شارع الشيخ على وتطوف حول مبنى وزارة الخارجية فجامع السلطان أبى العلاء ، ثم تقوم بتوزيع الحلوى التى تشتريها من مصنع أبى الحجاج وتعطيها للأطفال مع علب ألبان من العلب الجاهزة. وإمعاناً فى رسم الصورة.. قالت : أنها كانت ترتدى عمة خضراء، وتعلق فى رقبتها بعض السبح الكبيرة، وفى يدها مبخرة تقوم بتبخير مقام السلطان بعد تقبيله عدة مرات. وأحياناً يكون فى صحبتها الشيخ عليش وهذا مشكوك فيه. لأن الشيخ عليش يختفى ولا يظهر إلا فى الليلة الكبيرة لمولد السلطان ولكنه قيل أيضاً أنها شوهدت مع بعض الغجر المتبقين من أقرباء أم جابر والذين بقوا ولم يرحلوا وقامت بتنظيف الإسطبل لهم وإيواءهم فيه. انزعجت ناهد من تلك الصورة التى رسمها أبو الحجاج لها. وساهم معه بعض الناس. ثم فتحت ناهد فمها بعد صمت طويل وقالت: مبقاش إلا المجاذيب اللى تدورى معاهم ياهند. نظرت هند إليها ، بدون اهتمام ،ثم أشارت لها أن تصمت.
لكن ناهد ظلت تنظر إليها مندهشة للصورة الجديدة . هند تمسك فى يدها مسبحة كبيرة وتسبح عليها. وانتبهت أن هناك صوت لشيخ يقرأ بعض الأدعية والتواشيح الدينية. ورائحة بخور تملأ المكان. مدت ناهد يدها ، وأغلقت الكاسيت غير مصدقة. ثم مدت يدها وربتت على يد هند..
– مالك يابنت خالى؟ إيه اللى عمل فيكى كدا؟
أنتهت هند من تسبيحتها. ثم مدت يدها ووضعت بعض البخور فى المبخرة .
ونادت : القرفه يا أم عسلية.
ثم اعتدلت فى جلستها ، ونظرت تجاه ناهد المنزعجة لوجود أم عسلية أيضاً.
– مالى.. يابنت عمتى هما المجاذيب سبه.
فتحت ناهد فمها لتصرخ . ولكنها تماسكت قليلاً وقالت بهدوء.
– ست زيك ربنا أعطاها الجاه والمال والجمال . تعمل كدا.
تركت هند المسبحة من يدها وقالت : العمل الصالح باق وأفضل . الباقيات الصالحات ماذا يريد الإنسان من الدنيا؟ اللقمة التي تسد الرمق، والرقعة التى تستر العورة.
نزلت دموع قليلة من عين ناهد. ثم مسحتها بسرعة : الاستغلال يا هند.الناس بتستغل قلبك الطيب. ويدك الممدودة بالخير.
– الله أمرنا بذلك.
– الله لم يأمرنا بالسفه.
– سامحك الله يا ابنته عمتى.
مالت ناهد على يد هند تقبلها : والله ياهند ماقصدى .
ولكن عبده عسلية قالب الدنيا على أمه .وأبو الحجاج لمح لى أنه هايقتلها هى واللى يتشدد لها.
– خليها على الله.
قامت هند واقفة وهى تسير بعض الخطوات تجاه الباب. وفتحت حجرة رباب، وقبل أن تدخل نظرت تجاه ناهد وقالت: خليها على الله. ثم دخلت الحجرة وأغلقت الباب خلفها.
« إن لله عبادا اختارهم من خلقه واصطفاهم لنفسه، وانتخبهم لسره، وأطلعهم على لطيف حكمته ومخزون علمه، أفتاهم عن أوصى فهم الناشئة عن طبائعهم، ولم يردهم إلى علومهم المستخرجة بحكم عقولهم، ولم يحوجهم إلى المرسوم من حكمة الحكماء، بل كان هو لسانهم الذي ينطقون به، وبصرهم الذي به يبصرون، وأسماعهم التي بها يسمعون، وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يتفكرون .»
وقفت ناهد قليلاً مندهشة ، مما رأته حولها وما سمعته من أخبار عن ذهول هند ، وانجذابها للمجاذيب ، وأنها تصبحهم في الموالد وزيارة أولياء الله الصالحين. فتحت الباب وخرجت مندفعة. ثم نزلت السلم فى تراخى وهى ترى أم عسلية قادمة تحمل كوباً كبيراً من القرفة وتنادى.
– القرفة ياست.
” أعد الخديو عباس قبرا فخما لجده إسماعيل فى مسجد الرفاعي . وفى يوم 5 مارس 1895 لفظ النفس الأخير، فصعدت روحه إلى السماء تشكو عالم الأحياء الذى لا يرحم شيخا فى شيخوخته، ولا مريضا فى مرضه.. مات إسماعيل بعد ما قضى ستة عشر عاما فى منفاه.. وحلت المشكلات، وكذلك الصعاب التى تخاذلت أمامها مساعي العظماء. فما كان يذيع نعيه فى بلاد حتى سمح السلطان بنقل جثمانه إلى مصر.عاد فى موكب حافل، أشد إيلاما من موكب خروجه من وطنه. هذا الخروج الذى طوى أخر صفحة من حكمه، كما طوى الموت آخر صفحة من حياته “.
الأيام تذوب وسط الأحباء. والسعادة لا تقدر إلا حين فقدها. هكذا شعرت هند بفقد الأحباء والأشياء والسعادة. سافرت ناهد مع أبى الحجاج وتركتها. ورحلت أم جابر وفرغ البيت بعد موتها. كانت تملأه بالضحكات والنكات والأغانى والمشاغبات الصغيرة. وأخذ الشيخ طه شيخ الغجر نور وعلى معه ورحل. ووعد هند بأن يزورها الأولاد كلما شاء المولى. ولم تستطع هند أن تقنعه بترك نور لأنها سوف تكتب ميراثها مناصفة بين على ونور.
كل هذه الأطماع لم تثنى الشيخ العجوزعن موقفه وقال لها : جحا أولى بلحم توره ياست.
وتاهت هند وسط القصر الفسيح البارد ، الخالى من الدفء والأنفاس. وخرجت تتمشى خوفاً من أن ينهار القصر على رأسها لأنه قديم. وكما كانت تقول لها أم جابر: دا من أيام الخديو إسماعيل ياست. الخديو اللى حفرالقنال.
تضحك هند: يا وليه يا خرفانه انتى توعى على فحت البحر.
ضعفت هند، وبدأ نظرها فى الذهاب ببطء وهدوء ينساب من عينيها مثل الماء من بين أصابعها. كانت عندما تقف فى الصالة الكبيرة تشعر أن جميع الحجرات تسقط لأسفل، والحوائط تكاد تنهار عليها. فتجرى مسرعة، تملأ القصر بالصرخات والنداءات ولكن..؟! الكتب هي الباقية لها في لحظات الضيق والأزمات وتستعيد الماضي من خلالها، وصوت حمزة يرن في أذنيها. التاريخ يا هند التاريخ هو الباقي دائما.
« اجتمع الشيوخ، العظماء فى الأزهر. ما قولكم هل يجوز تعلم المسلمين العلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والطبيعيات. يجوز تعلم هذه العلوم. وضرورة العلم بما تتوقف عليه مصلحة دينية، أو دنيوية. .ولكن تحريم الاشتغال ببعضها إذا كان على طريقة الفلاسفة. موافقون.. ولكن يحرم التأويل والتفكير وإيثار الظاهر على الباطن لغير أولياء الله .. أدى ذلك إلى ركود الحياة العقلية، تحريم تأويل الآيات والأحاديث. لقد انتصر الحزب السنى وقضى بتعصبه على حرية العقل، وعمل جادا على خنق الحرية الفكرية “.
أغلقت هند آخر صفحة في الكتاب.
اشترت هند فرسة وأسمتها رباب ، وفرس اسمته حمزة ، وكانت تدللهما كثيراً وتظل بالساعات تنظر إليهما. وحاولت مراراً وتكراراً أقناع الشيخ طه بإرسال على ونور، ولكنه أرسل لها صبياً لرعاية الأحصنة لأنها بدأت تشترى المزيد.فأشترت الفرسة نور، والفرس على. وقالت وهى تضحك وتوصى المراسيل ربما تشترى حصاناً قوياً وتسميه جابر وفرسه وتسميها سمرة. ولكن كل هذه الأفكار ذهبت هباءً فى الخطابات المتبادلة بينها وبين ناهد.
كانت تحدثها عن ضياع الماضى بكل أمجاده. وناهد تضحك داخل شريط الكاست وتقول : يا هند يا بنت جعفر.الماضى مضى بخيره وشره. ولن تعيده الخيول. أبحثى عن شىء يخصك ياهند. يشغلك بدلاً من الأحصنة. لم تكذب هند تخمين ناهد. وقررت عمل القصر دار للمسنين والأيتام. وامتلأت الحجرات، ونظفت الحديقة، وانتشرت فيها الزهور والرياحين. وأرسل لها الشيخ طه بنتاً جميلة للعمل. ووعدها بزيارة قريبة ومعه على ونور.
واحتلت هند حجرة رباب. حجرة الأموات كما كانت تسميها، وطلبت من صانع البراويز عمل صورة كبيرة لها كى تضعها جوار صور الملائكة. وكذلك أحضرت صورة كبيرة لأمها من البيت القديم ووضعتها إلى جوارهم. وكل يوم تقف أمام الصور، تقرأ الفاتحة وقصار السور على روح الملائكة. ورسمت على الحائط رسم تخطيطى لمكان صورة نور فى المستقبل. وفى يوم أحضر لها المصوراتى صورة أم جابر صورة كبيرة بالألوان، قبلتها ووضعتها فى نهاية الصف. ووقفت طويلاً تسرد حكايات الراحلين، ثم تبسمت عندما سمعت مشاغبات العجائز وهن يتحلقن حول أحواض الورد والياسمين. كل منهن تريد أن تسقى الورد. وصعدت أم عسلية وهى تلهث : ألحقى ياست هند. العواجيز هايكلو بعض. وضعت هند الشال حول كتفيها، ونزلت معها، ثم أمسكت الخرطوم بيديها المرتعشتين وقالت : كل واحدة تسقى يوم .
«.. ولو أن الحياة العقلية فى مصر كانت ناضجة ! ما استطاع هؤلاء الأدعياء العيش فى رحابها، والتنفس من نسيمها على أن ذلك لا يمنع من القول بأن المتصوفة قد استغلوا الركود الجاثم على صدر الأمة. وعملوا على تقويته بتعاليهم، فساهموا بنصيب وافر من الانحلال الذى اصاب العقل المصرى.. إبان العصر العثمانى.ولا سيما إذا عرفنا أن مصر كانت زعيمة العالم الإسلامى كله أيام سلاطين المماليك “.
أغلقت هند الكتاب الذى فى يدها.
ثم جلست على كرسى بعيداً عن الضوضاء، وراحت تتطلع إلى الأفق وهى غير مصدقة أن هذه نهايتها. وحيدة على كرسى من القش أمام الأسطبل تتأمل الخيول فى صمت.وعندما أتى السائس المكلف برعياتهم وحدثها بود: ياست.. هو فيه حد بيربى خيول فى الزمن ده؟.
إحبكت الشال حول كتفيها جيداً، ثم أخذت قطع السكر، وراحت تطعمهم فى صمت وهى تملس عليهم بحنو ودفء، وهى تردد: للتاريخ يا ابنى.. للتاريخ.
« ليت شعرى هل دروا
أى قلب ملكوا
وفؤادى هل درى
أى شعب سلكوا
أتداهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
فى الهوىح وارتبكوا »
– ابن عربى –
******************************************
ياست هند سات
خرجت هند من خلوتها بعد غياب دام أيام طويلة، وبعد زيارة ناهد انطلقت بمفردها إلى الشارع وهي تحاول السيطرة على دموعها المنهمرة والمسبحة في يدها. وأم عسلية تجري وراءها وهي تناديها: يا ست هند، على فين يا ست. أخذت هند تجري كالمجذوبة، أو كأن هاتف يناديها، الشوارع تغيرت، والزحام يحيطها من كل جانب، وكانت كلما تسير خطوة تتعثر خطوات، وأصرت أن تصل إلى السيدة زينب مشيا على قدميها، ودخلت إلى الضريح منهارة، وفي خشوع وصمت، صلت ركعتين تحية المسجد، ثم جلست بجوار العمود صامتة تستعيد الذكريات الماضية، وتسرح بخيالها حيث السنوات البعيدة، عندما جاءت مع حمزة وهي ما زالت طفلة في الثانية عشرة، ليشتري لها حذءا جديدا. دخلت أم عسلية وهي تلتقط أنفاسها، ثم ألقت بنفسها على الأرض وأخذت تبكي بحرقة وألم : كده يا ست هند، تجريني المسافة دي كلها وراكي، وأنا مش ملاحقة ، وأنت طايرة طيران. كأنك مركبه جناحات وطايره.
تبسمت هند، ومدت يدها على رأس أم عسلية، وأخذت تملس عليها بحنان وود. وهي تقرأ الفاتحة، ثم قالت لها بصوت هامس ورقيق : قومي يا أم عسليه أتوضي وصلي ركعتين. قومي بارك الله فيكٍي.
ألقت أم عسليه بنفسها على يد هند وأخذت تقبلها وهي تبكي بكاء مريرا وأنفاسها تتقطع : تفتكري يا ستنا اللي زي ربنا يسامحها.
إن الله غفور رحيم. ويقول سبحانه: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني ماشينا أتيت إليه هرولا.
قامت أم عسلية وتوضأت، ثم أخذت تصلي وهي تبكي وتمسح دموعها. وهند مازالت مكانها تسبح على المسبحة الكبيرة التي في يدها. وبعد قليل نادتها أم عسلية : يا ست هند يا ست. أنا جعانة ، هو إحنا هانفضل كدا. خرجت هند من المسجد ، وأم عسلية في يدها، ثم دخلتا محلا للأكل. تشاغلت عينا هند بمتابعة النقش البارز في اللوحة المعلقة عاليا. وطنين الأغاني يأتي إليها من الشارع، وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجها من غفوتها المتشاغلة بالنظر إلى السقف.
كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة في زمن القاهرة القديمة. ربما يكون في العهد الفاطمي أو المملوكي، لم يتم تحديد هوية اللوحة بعد. فقط تشاغلت عينايها بمتابعة الهدوء والسكينة والبضائع المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق، وقليل من المارة يتوافدون. وحدها تشق طرفي الثوب إلى نصفين، وتنتابها حالة من اليأس لم تعتادها من قبل، ولكنها رأت طرفي الثوب تتباعدان، تتصاعدان، إلى أعلى أعلى ترفان صوب اللوحة، صوب الفارس، صوب الشارع، كل ما تخيلته هو أنها تجول في اللوحة مزهوة. زوجان من الأحصنة المجنحة ترتديان شقي الثوب وترفان.
أخذت هند تصرخ خارجة من اللوحة.
كانت الخلفية غير الواضحة لمسجد كبير ومشربيات جميلة مشغولة بحنكة صانع دقيق. الخشب يحمل رائحة الأيام الماضية، فتطير سعادة لزمن سابق،؟؟؟ تخرج منها حكايات المارة، الصانع ، الدراويش، تحكي الأفاريز تاريخا كان يتحرك ويتلون ويصبغ الأيام بصبغته. مملوك فوق جواده يمر من بين مقتنيات اللوحة، وأمامه يجري رجلان يفسحان له الطريق سقطت رأس المملوك. تدحرجت تحت أقدام الجميلة الخارجة من حمام قديم، فبان وجهها جميلا صافيا. حياها الفارس، وتمهل مليا، وهي تلتقط اليشمك والخبرة وتعيد وضعهما من جديد. الأيام والأزقة والمارة ورأس المملوك وتحية الفارس وبسمة الجميلة. كل هذا لم يبعد صوت المارة. والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملها للوحة. تبدلت الموسيقى بأخرى. دارت عينا هند المتأملة اللوحة تجاه الفارس ومدت يدها تمسك المهماز. تركها وسار عبر الأزقة.
هنا كانت ترتكز فتاة على حافة السور خارجة من زمنها، ومن أيامها. والآن تمر محملة بعطر رخيص وسنوات بعيدة إنها اللحظة. وتمر. تاركة السور والشارع، ونهداها عالقان على الحافة.
ومرت. هي من المحل ، والأخرى من اللوحة .
هي من الشارع ، والأخرى من زمن بعيد .
هي من حافة السور ، والأخرى من الحمام .
هي من الزمن الآني ، والأخرى من العصر الفاطمي أو المملوكي.
إنها القاهرة القديمة .
مبانيها ، ضواحيها ، أفاريز الجامع ، خشب المشربيات .
المملوك والفارس والفتاة .
ورائحة بخور المر في يد الدرويش يثير في اللوحة دخانه، طاقاته، خرفاته ، خرقه البالية..وتذوب اللحظات البطيئة في ثلجية مفرطة بين عين الواقفة المتأملة ،وعين الجميلة الباسمة في اللوحة العالية المعلقة من زمن بعيد، بعيد وقديم. إنها الآن ترتبك. تريد أن تحدد ملامحها. بعد أن زهقت من الفوضى والارتجال، تريد أن توضح ما هية الأشياء تريد أن تقبض على اللذة الهاربة، والمتعة الأبدية.
إنها الآن.
أصبحت تقرأ مثل تلميذات المدارس، تضع خطوطا تحت الكلمات، والجمل المهمة المدهشة والمثيرة بين قوسين، ولكن ما يجرحها الآن هو المرأة الجميلة الباسمة للفارس، هل ما زالت تتحرك؟ ترفع اليشمك ؟؟؟؟؟
تبتسم ، تلملم طرفي الثوب من قاذورات الطريق.
ماذا لو قابلت هند هذه المرأة مرة أخرى؟
هل لها نفس الملامح؟
أخذت هند تتمعن في اللوحة. وأم عسلية ما زالت تأكل بشراهة واستمتاع طبق الكوارع الذي أمامها. سألت هند نفسها : الجمال! البسمة !
الحب !
الحياة !
أشياء أريد معرفتها أكثر من ذلك.
أتمنى أن أرى ما خلف المشربيات ، اسمع صوت المغنيات منبعثا من الحريم ، ورائحة البخور المر المتطاير عبر اللوحة ، وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعه ، كيف رآها الفارس عندما رأته؟ رغم أنها محملة بأنثي خارج اللوحة. وموسيقى خارج السياق، وصوت الباعة الجائلين. إلا أنها تبحث بشكل واسع وعميق ومفرط الدهشة عن صاحبة الثوب . ستظل هند محملة بعبء ؛
البحث ،
والمعرفة ،
وإلحاح الذاكرة،
وتاريخ اللوحة.
ولكن كيف ترى إنسانية البسمة؟
والوقفة وارتباك اللحظة ، والتباس البوح ؟
وقفت مشدود : في حوار مفعم بالقلق.
يا صاحبة الطقوس.
والمفجر الأساسي للمشهد، أذكر لطمة أمي على وجهي لحظة قررنا أنا وحامد النوبي أن نعيش الليلة الأولى عادي دون اشتعال.
يا سيدة : الطقوس.
افتحي ذاتك.
اللوحة ملء عيني ، ما هي رغبات اللحظة؟ الفارس كان لطيفا متفهما ، حاول تدريب رغابته، ترك لحظة العشق البدائي دون اشتعال!
يا سيدة الزمن البعيد.
إني أصغى إليك ، فتحدثي، واذكري لي مبعث ألمك وسعادتك؟.
أخذت هند تغلق سوستة الجاكت ، وتستعد للخروج ، وأم عسلية تمسح يديها : ياه الدنيا برد قوي يا ست. على باب المحل ، فردت هند أصابع يديها تستدفئ بأشعة الشمس.الصمت مازال يحيط بالمارة ، باللوحة ، بالجالسين في هدوء المكان. لم تجئ إلى هنا منذ أعوام طويلة، منذ جاءت مع حمزة وهي طفلة صغير ة كي يشتري لها حذاء جميلا للعيد .كم كان مريحا بالنسبة لها الخروج ببطء من الماضي. والإتيان إلى محل مسمط الركيب، لأكل السمين والكوارع كما طلبت أم عسلية منها : والنبي يا ست نفسي فيها.ونفسى امشي في شوارع مصر لقديمة .
إنها الدهشة الأولى.
أخذت أم عسلية كطفلة صغيرة لكل ما هو جديد ومثير.
التقطت سريعا كلمات المارة ، حواراتهم ، ضحكاتهم طريقة ملابسهم ، وسيرهم في الطريق .
وكلما رأت شيئا غريبا أخذت تعلق عليه بصوت مرتفع. كم كان مريحا لهند الخروج من اللوحة القديمة ومشاهدة النيل والشمس الغاربة. كل ذلك يثير فيها أحداث الماضي وحواديته.
تحدثت في همسِ : أريد صورة، كبيرة لي الآن ، كي أضعها بجوار صور الملائكة ، وأعلقها عاليا. صورة كبيرة لى ،
دون فارس،
دون مملوك،
دون الجميلة،
واليشمك والخبرة،
دون الدرويش ودخانه ومبخرته،
ورائحة بخور المر.
صورة للقاهرة القديمة وأنا بداخلها.
ولكن كيف؟
تركت هند وطارت تجري في الشوارع ، وأم عسلية وراءها تناديها : يا ست هند ، يا ست.
كانت الفوضى تملأ الشوارع وهند مازالت تجري بعيدا، بعيدا دون توقف.
– تمت –
23 يوليو سنة 2005
هامش
****
– كتاب البناء الاجتماعى والثقافة فى مجتمع الغجر. دار المعارف ، د. نبيل صبحى حنا.
– كتاب الغجر: تأليف: سير أنجوس فريزر ترجمة: عُبادة كُحيلة 258 المشروع القومى للترجمة.
– كتاب الموالد فى مصر – تأليف: ج. و. مكفرسون ترجمة وتحقيق : د. عبد الوهاب بكر – مكتبة الأسرة سنة 1999 .
– كتاب الغجر: تأليف : جان بول كليبير ترجمة: لطفى الخورى – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد سنة 1986 .
– كتب عن الصوفية – الحلاج – سمنون المحب .
*******************************
التعليقات متوقفه