ضد التيار
أفراح البرازيل وأحزانها
أمينة النقاش
الصدفة وحدها هى ما جعلت حدثين كبيرين يجتمعان فى وقت واحد بدايات العام الجديد، لكى يضعا البرازيل فى بؤرة الاهتمام العالمى.الوداع الرسمى والشعبى الحزين لأسطورة كرة القدم ” بيليه”بعد أن فارق الحياة عن عمر ناهز 82عاما، وأدمى رحيله قلوب الكون .وحفل تنصيب الزعيم اليسارى “لولا دا سلفا” لتسلم مسئوليته للمرة الثالثة، بعد ولايته عامى 2003 و 2005 المنتهيتنين عام 2010، رئيسا للجمهورية، بعد فوزه نهاية أكتوبر الماضى على منافسه اليمينى المتطرف “جابير بولسونارو”.
كثيرة هى المشتركات التى تجمع بين “بيليه” الذى لقب بالملك والجوهرة السوداء، وبين الرئيس دا سلفا”.فالملك والرئيس كلاهما خرج من براثن فقر مدقع من ريف ومدن البرازيل، فتحديا ظروفهما القاسية غير الرحيمة، وتقدما من طفولة تعيسة، ومن مقاعد عمال النظافة، ليتصدرا المشهد الدولى، ويغيرا القواعد العالمية السائدة فى اللعب والحكم، ويضعا بلديهما فى صدارة المشهد العالمى.
صبى فى سن السابعة عشر بدأ نجم بيليه فى الصعود حين تمكن مع فريقه من الفوز عام 1958 بكأس العالم لبلاده . صبى أسمر وسيم الوجه، ذو ابتسامة آسرة، قادم من تركيبة سكانية تحفل بالعنصرية ضد الأفارقة السود من سكان البرازيل . وبرغم أن المباراة كانت تذاع عبر الراديو، فقد اضفى وصف المعلقين أبعادا خيالية لها، قدمت “بيليه” بوصفه بطلها الفعلى ونجمها القادم فى ملاعب الكرة العالمية .وهو ما تحقق بالفعل، بجلبه كأس العالم للبرازيل مرتين أخريين، وتسجيله الهدف ألف فى تاريخه، وإحيائه للعبة كرة القدم فى الولايات المتحدة الأمريكية .وبرغم إعتزاله فى العام 1977 للملاعب، فقد بقى فى الذاكرة الرياضية أيقونة لفن لعبة كرة القدم وأخلاقياتها، التى أرسى بأدائه كمهاجم، مبادئها الرفيعة، وأبهج مشجعيها فى أنحاء العالم، وحق عليه لقب “الأعظم رياضى القرن “الذى منحه له الاتحاد الدولى لكرة القدم، وأعتبره من بين مائة شخصية آثرت فى مجريات أحداث القرن العشرين . وها هو الاتحاد الدولى يدعو فى يوم وداعه، دول العالم لإطلاق اسم “بيليه “على أحد ملاعبها المحلية .
بدأ الرئيس “لولا دى سلفا “حفل تنصيبه بدقيقة حدادا على رحيل بيليه، وجاب بسيارته المكشوفة الطرقات المؤدية إلى قصر الرئاسة لتحية مئات الآلاف من مؤيديه برفقة زوجته عالمة الاجتماع “روزانجيلادا سلفا جانجا” ونائبه ” جيرالدو ألكمين “من يمين الوسط وزوجته، كإعلان واضح، لكل من يهمه الأمر، عن واجهة النظام الجديد المتحالف بين الطرفين: يمين الوسط واليسار .وتعهد فى خطاب تنصيبه الذى أنطوى على لغة توافقية مع الداخل والخارج ودول الجوار، بإعادة بناء الأمة المنقسمة، وجعل البرازيل وطنا للجميع، وتشكيل حكومة غير مدفوعة بروح الانتقام، من سلفه “بولسونارو”الذى غاب عن حفل التنصيب، ورفض الاعتراف بهزيمته الانتخابية وفوز منافسه.
معركة بلا هوادة ضد الفوارق الاجتماعية، التى جعلت 5%من البرازيليين يملكون 95%من ثروات البلاد، ذلك هو تعهد “دا سلفا ” لناخبيه، وسعيه لتشكيل جبهة عريضة من كل الأطياف الاجتماعية لخوض تلك المعركة، ومن أجل ” أن تكون البرازيل أكثر ديمقراطية وانصافا ” كما قال.
“أتعهد بالعناية بكل البرازيليين، وبالقضاء على الجوع، وإنهاء الطوابير التى يصطف فيها الفقراء أمام مخازن اللحوم يطلبون عظاما لسد جوعهم، وسيكون الإرث الذى سنتركه، مرآة تعكس المستقبل الذى نبنيه للبرازيل ” ذلك كان تعهدا آخر من “لولا دا سلفا ” أمام الكونجرس الذى تحتفظ أغلبيته بأنصار سلفه، ليتبين حجم التحديات الكبرى التى تواجهه، لتنفيذ برنامجه الرئاسى، الذى يسعى لمكافحة الفقر، فى بلد يتجاوز سكانه مائتى مليون نسمة، متعدد الأعراق الأوروبية والهندية والأفريقية، وتطحنه فوراق اجتماعية ظالمة، وفى ظروف دولية مغايرة لفترتيه الرئاسيتين السابقتين . لكن تلك التحديات لم تمنعه من أن تكون أولى قراراته بعد حفل تنصيبه، هى إلغاء المراسيم التى أصدرها سلفه بتسهيل الحصول على الأسلحة والذخائر، وتجريم إزالة الغابات وحماية غابات الأمازون المطيرة من هجمات استثمارية لتعريتها، ومضاعفة ميزانيات التعليم العام الإلزامى والفنى والجامعى، وتعميم خدمات الأنترنت، وإطلاق برنامج شامل لمساعدة الأسر وانتشال الملايين من الفقر والجوع، و إجراء حوار بين الحكومة والنقابات العمالية وأصحاب العمل، لوضع تشريعات تضمن حرية الريادة والحماية الاجتماعية .
أحلام عظيمة وتحديات جسيمة حملها “لولا دا سلفا “على أكتافه، وهو يودع مع ملايين من شعبه، الجوهرة السمراء بيليه الوداع الأخير، متعهدا لأحد أبرز صناع مجد بلاده بمواصلة طريق الكفاح والبناء.. والمجد.
التعليقات متوقفه