اختفاء الهرم الأكبر

129

كتب محمد كرم 

 

 

يرى البعض أنه إذا أراد باحث اجتماعي أن يتبين صورة أكثر صدقاً عن الوضع السياسي والاجتماعي في بلدٍ ما من خلال السينما والأدب؛ فليس عليه أن يتوجه إلى الأعمال الفنية الراقية في هذا البلد؛ حيث إن الأعمال الراقية يهذب صناعُها المادةَ الواقعية ويصقلونها ويصفَّون شوائبها بشكل قد يحجب ظهورها عن المتلقي؛ أما الأعمال الفنية من الدرجة الثانية والثالثة؛ فدرجة الاشتغال فيها على المادة الواقعية تكون أقل؛ فتصبح عاكسة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدرجة تتراوح بين الفنية والتسجيلية صعوداُ وهبوطاً.

يُعتبَر فيلم “وقيدت ضد مجهول”، إنتاج 1981، تأليف وإخراج “مدحت السباعي”، وهو الفيلم الأول له في عالم السينما – من أفلام الدرجة الثانية؛ فقد تناول قضية واقعية من الأهمية في غاية مستخدماً أدوات الواقعية السحرية والكوميديا السوداء؛ لكن بشكلٍ منقوص، نتبين هذا النقص من المقارنة بين “مدحت السباعي” والمخرج والسيناريست “رأفت الميهي”؛ فالثاني كان أكثر قدرة من الأول في توظيف الواقعية السحرية والكوميديا السوداء. لكن رغم ذلك يؤدي الفيلم رسالته بنجاح.

يحكي الفيلم قصة شاب ريفي بسيط “صابر” (محمود ياسين) ينتقل إلى المدينة مجنداً في الشرطة، ومنذ توليه للخدمة تحدث سرقات في كل مكان يحرسه، وتلك إشارة ذكية من المخرج لسياسات الدولة بعد عصر الانفتاح التي تُهيءُ مناخاً عاماً يسمح بالسرقة لا تجدي معه المجهودات الأمنية. يبحث قادته الأمر ويراقبونه لشكٍ في نزاهته؛ فقد يكون على صلة بالسارقين، لكنهم يكتشفون أن شكهم في غير محله وكذلك يعجزون عن تبين هوية السارقين رغم المراقبة. ينقلونه إلى مكان ليست به ممتلكات خاصة تمكن سرقتها: منطقة الأهرامات الثلاثة؛ لكن يحدث ما هو غير متوقَّع ويختفي الهرم الأكبر من مكانه.

تنتقل الكاميرا إلى أتوبيس نقل عام يناقش فيه المواطنون اختفاء الهرم، فنجد شخصاً غاضباً من سرقة هرم أجداده وهو يتحرش بامرأة أمامه، وآخر بلحية وجلباب يصرح بسعادته من اختفاء الهرم بسبب ما كان يحدث حوله من “فسق وفجور” وهو يتحرش بامرأة جانبه، وسط تجاهل الركاب. تستنكر امرأة من الركاب اهتمام الناس الزائف باختفاء الهرم وكل شيء يستخدمونه من سلعٍ أساسية يختفي.

تزداد درجة الكوميديا السوداء؛ فليس هناك أحدٌ ليُسأَل عن اختفاء الهرم إلا “صابر” وفي الوقت نفسه لا يقبل عقل الضابط “رشدي” (عزت العلايلي) الذي يحقق معه هذا الأمر؛ فينفجر الاثنان في نوبة ضحك عبثية، وتزداد درجة العبثية عندما يتوقف الضابط عن الضحك فجأة محاولاً التحقيق بجدية مع “صابر” الذي يقترح أن يُخصم ثمن الهرم من مرتبه، ويقول للضابط إن أشياء كثيرة تُسرَق من البلد فلِمَ يهتمون بالهرم بشكل خاص؟

يتصل القائد “محسن سرحان” بالضابط “رشدي” ليستعجله في الوصول لسارق الهرم ومكان اختفائه قائلاً إنه لا يهمه الهرم يختفي أو يحترق؛ لكن المهم أن تستوفى الشروط القانونية للقضية؛ هناك سرقة، إذن لا بد من وجود سارق! لا يجد الضابط رشدي إلا أن يستدعي مخزنجي منطقة الأهرامات ليستجوبه باعتبار الهرم كان في عهدته، ولينجو المخزنجي بنفسه لا يجد إلا أعداء نظام السادات (الشيوعيين) ليلقي عليهم بالتهمة مطمئناً أن اتهامه سيلقى قبولاً عند المسؤولين، وقد كان.

يتصل مسؤول مجهول لا نرى وجهه بالقائد “محسن سرحان” ليعفيه هو و”الضابط رشدي” من البحث عن الهرم موضحاً أن تلك مهمة القيادات العليا، ويوجههما إلى التحقيق مع المشتبه بهم فحسب، ويقول له إن المشتبه بهم هم الشيوعيون و”الناس بتوع زمان” – يقصد “الناصريين” – وسبب الاشتباه هو أنهم يريدون أن يحرجوا الدولة أمام الطبقة التي صارت تمثل مصالحها في عهد السادات: طبقة أصحاب الأملاك الخاصة، ويوضحوا لأولئك الملاك أن الدولة لا تستطيع أن تحمي الهرم فكيف يعتمدون عليها في حماية أملاكهم؟

يتوجه “رشدي” إلى مقر تجمعات الشيوعيين ليستمع إلى محاضرة لهم يقول فيها المحاضر بشكل كاريكاتوري إن الاهتمام باختفاء الهرم مبالغ فيه ولا داع لذلك، فالهرم هو رمز لاستغلال الطبقة العاملة المصرية من الملك “خوفو”، فيهتف أحد الحاضرين “يسقط الملك خوفو” ويردد الجمهور وراءه. إنَّ إدانة الشيوعيين هنا مزدوجة؛ فهي من الحكومة والمخرج في الوقت نفسه، رغم أنهم بعيدون في الفيلم عن التهمة؛ فالمخرج قد قدم الشيوعيين غير مبالين باختفاء رمز حضاري مهيب كالهرم لأنه رمز للاستغلال؛ في حين أنه من المنطقي أن يستغلوا هذا الاختفاء ضمن معارضتهم للحكومة التي يعادونها باعتبارها غير أمينة على الممتلكات الأثرية العامة. كما أن مقولة “الهرم رمز للاستغلال” ليست حكراً على الشيوعيين؛ فقد تكررت تلك المقولة في فيلم “عروس النيل” في مقارنة بين جدوى مشروع بناء الهرم ومشروع بناء مصانع منتجة، ولم يكن بطل الفيلم الذي قال ذلك شيوعياً! ويتضح عداء الشيوعية أكثر في أحداث الفيلم عندما يذاع في نشرة الأخبار أنَّ وكالات أنباء الاتحاد السوفيتي لم تهتم باختفاء الهرم وذكرت الحادث في سطور قليلة، وكأن الشيوعية لا تبالي بالحضارة!

يتم القبض على الشيوعيين، وتطلب وكالات الأنباء العالمية مقابلة الجندي “صابر”؛ فتخفيه الحكومة في مستشفى الأمراض العقلية.

تنتقل الكاميرا إلى برنامج تليفزيوني يستضيف مفكر وصحفي اسمه “عويس مندور” – المقصود به “أنيس منصور” – يقول إنه قد قال في كتاباته إن الهرم قد بناه سكان كواكب أخرى وهم سبب اختفائه!

يلتقي “صابر” في المصحة بالدكتور “شهدي” (نبيل الحلفاوي) الذي يحكي له قصص المرضى الذين قادهم الفقر والفساد إلى المستشفى، ويخبره بسر اختفاء الهرم؛ لكن ينقطع الصوت من نسخة الفيلم الموجودة على الإنترنت في ذلك المشهد.

وأخيراً؛ يظهر الهرم في “المكسيك”!

تُقيَّد القضية ضد مجهول ويطلق سراح “صابر” ليعود إلى بلدته مكتئباً مما عاناه وعَرِفه.

وينتهي الفيلم بخبر سرقة مياه النيل ويكتب على الشاشة “وقيدت أيضاً ضد مجهول”.

إن هذا الفيلم هو انعكاس فني نبوئي لمخاوف من مستقبل سياسات أنور السادات، التي تجسدت في معاهدة كامب ديفيد التي على أساسها أعلن السادات عن مشروع بيع مياه النيل لإسرائيل “زمزم الجديدة” لري صحراء النقب، انعكس ذلك في الفيلم اختفاءً لمياه النيل، كما كان اختفاء الهرم انعكاساً لإعلان السادات عام 1977 عن مشروع تحويل هضبة الهرم لمنطقة سياحية بها ملاعب جولف وحمامات سباحة. ورغم تراجُع السادات بعد 11 شهر (بعد ضغط المثقفين والصحفيين والسياسيين) عن هذا المشروع، كما تراجع عن رفع دعم الخبز، إلا أن المخاوف لم تخمد!

التعليقات متوقفه