ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :أمة فى بنك

110

أمضيت الأسبوع الماضى يومين فى رحاب كلية الآداب جامعة القاهرة، كانا على غير عادة هذه الأيام الكالحة السواد، مصدرا لسعادة غامرة ، ولزخات هائلة من التفاؤل، غابت أجواؤهما عن نفسى وروحى فى الأشهر الأخيرة .أما المناسبة فكانت حضور مناقشة رسالتين لمعيدين شابين لنيل شهادة الماجستير من قسم تاريخ فى كلية الآداب .حملت الرسالة الأولى عنوان : أروقة الأزهر والحياة العلمية فى مصر فى القرن الثامن عشر، للباحث يوسف حمزة ، الذى أشادت لجنة المناقشة بجهده العلمى، وتمكنه من الوصول إلى وثائق ومخطوطات جديدة لم يسبق لغيره أن يصل إليها .أما الرسالة الثانية فكانت بعنوان: بنك مصر وصناعة المنسوجات فى الفترة ما بين عامى 1920 و 1960 للباحثة هبة حسن .

الرسالتان كانتا تحت إشراف العالم الجليل الأستاذ الدكتور “أحمد الشربينى “أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة القاهرة. أما دفقة السعادة والتفاؤل، فتعود لرؤيتى لجيل جديد من الباحثين والمؤرخين الشبان، ينهض بدعم علمى ورعاية شخصية أبوية ممن سبقوه، ليتقدم الصفوف، يأخذ العلم والعمل الشاق مأخذ الجد، ويتباهى بهما، كقيمة من قيم الحياة العليا والسامية، وتلك فضيلة فى حد ذاتها، أوشكت على التراجع وربما دنت من الاختفاء من حياتنا العامة .ولعل الفضل فى ذلك يعود إلى الأستاذ الدكتور “أحمد الشربينى”الذى يرعى بمسئولية علمية ووطنية وأخلاقية هذا الجيل، ولا يضن عليه بخبرته وعلمه ومعارفه، وبعواطف أبوته الجارفة، ليصبح لهم بمثابة القدوة التى تنير له طريقه، وتلهمه، وتصقل مواهبه ومعارفه ، وتقف وراءه مساندة ومعلمة، وترشده إلى أفضل الوسائل للبحث والابتكار والتفوق، وتدفع به إلى الأمام، وهو دور يرتقى دون مبالغة، إلى مصاف مهام الرسل والأنبياء .
أكاديميان شابان يوصلان الليل بالنهار، يقرآن ويفتشان عن مراجع بحثيهما، فى أضابير الكتب والمخطوطات النادرة والوثائق غير المطروقة، وفى المصادر والمراجع الحية والغائبة، ويجمعان كل ذلك من مظانها المتفرقة، ويقارنان فيما بينها، ويدققان وقائعها، لكى يقدما للميدان الأكاديمى والدراسات التاريخية إضافة جديدة ، تغرى بمواصلة البحث والقراءة فى مجالى دراستيهما ، والاستفادة المجتمعية، مما توصلت إليه الرسالتان من معلومات ونتائج .
ومع النهضة التى باتت تشهدها صناعة النسيج المصرية فى الآونة الأخيرة ، التى تسعى مصر خلالها لإقامة أكبر مصنع غزل فى العالم، بشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، جاءت دراسة “هبة حسن ” لتلقى مزيدا من الضوء على الدور الرائد لبنك مصر فى مجال تمصير صناعة المنسوجات المصرية وتحرير سوق القطن من سيطرة الرأسمالية الأجنبية الاحتكارية ، وفرض الحماية الجمركية على منتجاته، وتأسيس شركات صناعية وتجارية عن طريق مساهمات المصريين بالاكتتاب وشراء الأسهم، والمشاركة فى الأرباح فى كل الصناعات الأخرى المرتبطة به . من حلج القطن وغزل النسيج، إلى الزيوت وجمع الأعلاف وصناعة الصابون، وتأسيس شركات لتصدير منتجاته للخارج ، وتحديث طرق صناعته، وتدريب العاملين بها داخل البلاد وبالبعثات التدربية فى الخارج، لكى تدنو مصر من فكرة “طلعت حرب ” من وراء إنشاء بنك مصر، وهى تمصير الصناعة المصرية وتوطينها، ودحض الكذبة الأستعمارية التى نشرها الاحتلال البريطانى، بأن مصر بلد زراعى لاتصلح للصناعة ، فضلا عن دعم القرار الاقتصادى المستقل للبلاد .
فى كتابه “طلعت حرب:بحث فى العظمة” قال فتحى رضوان إن مكانة بنك مصر تزيد كثيرا عن كونها مجرد مصرف وطنى، إنها “أمة فى بنك “ودولة غير رسمية أقامها البناء العظيم ” طلعت حرب”، تكمل ماتقوم به الدولة الرسمية، وتقوم عنها بما لا تقوم به . وهو تجربة روحية مصرية بعيدة الأهداف . وبنظرة خاطفة على الشركات التى أسسها البنك ندرك بسهولة صحة تلك الأوصاف وبعد نظر تلك الأهداف: شركات مطبعة مصر ومصر لحلج الأقطان ومصر للنقل والملاحة ومصر للتمثيل والسينما، وشركات للحرير وللكتان ولتصدير الأقطان، ولمصايد الأسماك ولبيع المصنوعات والدباغة والجلود وصناعة وتجارة الزيوت وللمناجم والمحاجر وللملاحة البحرية والسياحة .وشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى ومصر للغزل والنسيج الرفيع بكفر الدوار. وشركة مصر للطيران .
لم يسلم البنك وطلعت حرب من حملات النقد والتشكيك فى أهلية شركات بنك مصر وجدواها ،لكنه كصاحب كل رسالة تصدى لها بحكمة وعقلانية، وأوضح لمن يقودها أنه لا توجد أمة فى العالم تترك للصدفة حبلها على الغارب فى شئونها الاقتصادية، ولا يكون لها رأى فى الذود عن مصالحها، وتترك تلك المصالح طعمة للآكلين ، ومضغة للماضغين .وقال لهم عليكم بالاقتناع أن “استمرار تطفل أمة على موائد غيرها، يعرض كرامتها للتجريح “.
ويوم كان الحفاظ على كرامة الأمة هدفا، زادت شركات طلعت حرب بعد رحيله وارتفعت بجانبها مصانع الصناعات الإستراتيجية، وحين بهت ذلك الهدف، باتت قلوبنا ترتجف خوفا وهلعا على المصير المجهول لبنك مصر وشركة المحلة للغزل !

التعليقات متوقفه