*بقلم إبراهيم نوار
يحتاج تطوير التعليم إلى كفاية كمية وكفاءة نوعية للمعلمين العاملين بعقود دائمة مجزية، وليس بالحصة مقابل أقل من الفتات. ويحتاج إلى كميات كافية من “السبورة الذكية” وليس إلى كاميرات المراقبة. ويحتاج إلى شبكة انترنت فائقة السرعة في المنشآت التعليمية وليس لأجهزة البصمة لتسجيل الحضور والانصراف. ويحتاج إلى جهاز حاسب آلي متطور لكل تلميذ، وشبكة داخلية للتفاعل بين التلاميذ والمدرسين. ويحتاج إلى يوم دراسي كامل ومستقر وليس “شحططة” من “دكان إلى دكان”. ويحتاج إلى وجبة غذائية ملائمة للتلاميذ، قبل الحديث عن زى مدرسي موحد يدفع ثمنه أولياء الأمور بلا مبرر. وفوق ذلك وقبل كل شيء يحتاج إلى إعداد المقررات الدراسية الجديدة في صورتها النهائية، والوسائل التعليمية المساعدة اللازمة، وتدريب المعلمين على التدريس طبقا لنظام جديد، خصوصا وأن النظام المقترح مبني على تجربة شخصية فاشلة. التعليم ليس “سبوبة” لتحصيل أموال وتحقيق أرباح، لكنه مركز وقلب عملية تنمية الثروة البشرية، التي هي عماد التقدم ونهضة الأمم.
يحتاج نظام التعليم المصري إلى تطوير حقيقي، لأنه تخلف كثيرا على مدى العقود الأخيرة، قياسا إلى تطور منظومة المعارف على مستوى العالم، وإلى احتياجات سوق العمل الذي ترتبط به قوة العمل المصرية محليا وإقليميا وعالميا، وقياسا إلى احتياجات تطوير القدرات على المنافسة الاقتصادية، وأخيرا قياسا إلى احتياجات تطوير مستويات ونوعية المعيشة والرفاهية لحياة المصريين. نظام التعليم الحالي لا يليق بتاريخ المصريين الحضاري، ولا بمكانتهم بين شعوب العالم. ومع ذلك فإن تطوير النظام التعليمي لا يجوز أن يتم عبر تغييرات مفاجئة غير مدروسة، خصوصا إذا كانت مبنية على خبرات شخصية محدودة، سواء كانت فاشلة أو ناجحة. السبب في ذلك أن العملية التعليمية في كليتها تمر عبر مراحل وقنوات مختلفة، تؤثر في بعضها البعض. كما أن النظام التعليمي يرتبط بأنظمة العمل والإنتاج والتجديد التكنولوجي والسوق المحلي. كما أنه يرتبط أيضا بالعلاقات مع أسواق العمل في الدول المجاورة والتي يعمل فيها المصريون مثل دول الخليج وأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا. ومن ثم فإنه من الهزل أن يتقرر تغيير النظام التعليمي في اجتماع روتيني بين وزير تنحصر خبرته في إدارة مدرسة خاصة، مع حفنة من المعاونين، الذين يتلون معظمهم غالبا حسب لون رئيسهم.
ويجب أن يبدأ تطوير التعليم من رؤية واضحة ذات محددات فلسفية وحضارية ثابتة ومستقرة، وأهداف محددة، ووسائل للتنفيذ، وأسلوب خلاق ومرن للإدارة، بما ييسر تحقيق الأهداف المبتغاة. أول وأهم محددات رؤية تطوير النظام التعليمي هو أن التعليم خدمة اجتماعية أساسية ذات نفع عام، وليس نشاطا رأسماليا لإنتاج سلعة خاصة بهدف تحقيق الربح الخاص. ويبدو أن الخطورة الشديدة التي تنطوي عليها المحاولة الأخيرة لتطوير النظام التعليمي، هي اعتبار التعليم سلعة خاصة لتحقيق الربح يحصل عليها القادرون على دفع ثمنها. وفي هذا سقوط تام لفلسفة التعليم. وللإنصاف فإن اعتبار التعليم نشاطا لتحقيق الربح الخاص، هو تحول سابق للوزير الجديد، يتحقق تدريجيا من خلال سياسة عامة رسمية، حيث يتراجع إنفاق الدولة على التعليم من عام لآخر. وطبقا لبيانات “نشرة عدسة” التي تصدرها الجامعة الأمريكية في القاهرة (عدد 12 أغسطس) فقد هبط الإنفاق على التعليم من 8.8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 1.9% فقط في العام 2023/2024.
ويرتبط تخفيض الإنفاق على التعليم بتخارج الدولة من النظام التعليمي، بدءا من رياض الأطفال حتى التعليم الجامعي، واستحداث أنظمة استثمارية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص مثل نظام “البناء والإدارة ثم التحويل”، الذي تمنح الدولة بمقتضاه امتيازات أو التزامات إدارة المنشآت التعليمية للقطاع الخاص لمدة تصل إلى 30 عاما، وبعدها تعود الملكية إلى الدولة، مع جواز تجديد فترة الامتياز. عملية التخارج هذه ذات وجهين: الأول هو تقليص دور الدولة، والثاني هو تكثيف دور القطاع الخاص. هذا لا يفسد النظام التعليمي فقط، لكنه يخلق تشوهات اجتماعية حادة، تعطل دور التعليم في الحراك الاقتصادي والاجتماعي لأبناء الطبقات المختلفة. وقد أكد التقرير الأخير للبنك الدولي عن التنمية في العالم أن فتح قنوات الحراك الاقتصادي والاجتماعي، من خلال النظام التعليمي هو محرك رئيسي من محركات التنمية المستدامة.
التعليقات متوقفه