أشرف بيدس يكتب:«فتاة من فلسطين»

10

عرض فيلم «فتاة من فلسطين» أول مرة في نوفمبر 1948 بسينما رويال، وهو أول فيلم يتناول القضية الفلسطينية في تاريخ السينما المصرية، وقد أنتج عقب حرب 1948 مباشرة. بمبادرة من صندوق التنمية الثقافية، قام بتصوير الفيلم في بادرة للحفاظ علي التراث السينمائي.

يعتبر الفيلم إطلالة سينمائية للمطربة سعاد محمد. الفيلم يحكى عن سلمي التي تنزح من فلسطين إلي مصر لتقيم في بيت خالتها, وهناك تلتقي مع عادل الذي يعمل طيارًا في الجيش المصري والمكلف بالقيام بغارات جوية علي الصهاينة, وأثناء ذلك يصاب في قدمه وتحدث له عاهة مستديمة, وعندما يعود يخفي حبه لسلمي, ظنا منه أنها تحب صديقه الدكتور صفوت, حتي يكتشف حقيقة حبها.

كتب أغاني الفيلم بيرم التونسي وعبد العزيز سلام ولحنها رياض السنباطي ومحمد القصبجي ومدحت عاصم وعبد الغني الشيخ. الفيلم من إنتاج عزيزة أمير, ورغم عدم نجاح الفيلم جماهيريا, أقدمت عزيزة أمير علي إنتاج فيلمها الثاني حول القضية الفلسطينية فيلم “نادية” 1949 وقامت ببطولته وتدور أحداثه حول الأخت الكبري التي ترعي أخواتها بعد وفاة الأب والأم، ويكبر الأخ ويدخل الكلية الحربية ثم يشارك في حرب فلسطين ويستشهد على أرضها.

في 15 مايو 1948 أنهت القوات البريطانية انتدابها علي فلسطين, وقاموا بتسليم اليهود مقاليد الأمور وقد أعدوا أنفسهم جيدا لهذا اليوم, وقامت بإعلان استقلالها, بالمقابل تخاذلت البلاد العربية في إفشال هذه المؤامرة بمد المجاهدين بالسلاح فحدث ما حدث, من عمليات تهجير وطرد للسكان الأصليين وحل محلهم العصابات الصهيونية, وكان المؤرِّخ والمفكر السوري قسطنطين زريق أول من استخدم مصطلح النكبة على كارثة تهجير الفلسطينيين.

دشن الفيلم سينما أطلق عليها أفلام القضية الفلسطينية أو أفلام المقاومة, كونه أول عمل سينمائي يحاكي النكبة, وأطلق الفيلم الشرارة الأولي لبداية تناول السينما العربية لصراع الفلسطيني الإسرائيلي, أو الصراع العربي الإسرائيلي, وحاولت السينما العربية ان تسير مع الأحداث التي كانت تجري داخل الأرض المحتلة راصدة الممارسات القمعية التي كانت تمارس العصابات الصهيونية, وحاولت أن تواكب الأحداث الجارية. وكان الفيلم إيذانا لظهور أعمال سينمائية كثيرة في سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب ومصر أيضا بصفتها رائدة في الصناعة, ونجحت كثير من الأفلام في التعبير عن مأساة الشعب الفلسطيني وما يعانيه من كافة الاتجاهات, إضافة لإبراز الدور القتالي للفدائيين والمجاهدين الفلسطينية في مقاومة هذا الاحتلال الغاشم.

حرص الفيلم على نقل وحشية العدو الصهيوني، وتأكيد روح المقاومة والتضحية والاستشهاد من أجل فلسطين، كما حرص المؤلف يوسف جوهر على تأكيد الدعم المصري لفلسطين، من خلال  ضابط مصري يدافع عن الأراضي الفلسطينية. أعقب هذا الفيلم ظهور أفلام أخري مثلت الشرارة الأولي لاتجاه جديد في السينما العربية ومن هذه الأفلام “ارض الأبطال” 1953 للمخرج نيازي مصطفي, و”أرض السلام” 1957، للمخرج كمال الشيخ, والعديد من الأعمال السينمائية التي حاولت ترجمة ما حدث من عدون وبطش  ومذابح, وللأسف كانت المعالجات السينمائية متواضعة افتقرت للتأني والإمكانات.

ناقش الفيلم الأحداث التي تجري في فلسطين, ولم يتطرق للأسباب التي أدت إلي حدوث النكبة وهو حال كثير من الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية, ويري البعض أن السينما المصرية خذلت القضية الفلسطينية, ولم تقدم إنتاجا مميزا يناصرها ويدعم حقوق الشعب الفلسطينية, وكذلك عرضها كونها قضية عربية في الأساس وتخص الوطن العربي وتنعكس تأثيراتها علي جميع الشعوب العربية وليس الفلسطينيين فقط,  وما يدلل علي هذا الطرح أن الأعمال التي ناقشت القضية الفلسطينية علي المستويين الاجتماعي والسياسي كانت قليلة ومحدودة, وكثير منها لم يتعمق في أسبابها ونتائجها.

تأثر حوار الفيلم بالمبالغة نتيجة سخونة الأحداث حيث أنتج الفيلم في أعقاب النكبة مباشرة, ووضح ذلك في الأغنية التي غنتها سعاد محمد في أولي مشاهد الفيلم بالقطار أثناء نزوحها من فلسطين إلي مصر, وجاء ببعض كلماتها: (فارقنا الأرض الخضرة نشغل فيها نار حمرة/ حسرة عليكي يا حسرة ويا ويل الصهيونية/ يا مصر يا حنونة يا منزل أهالينا/ وحدي جيتك حزينة في التربة ابي وامي مالي غير ابن عمي), لم يدرك صناع الفيلم أبعاد خطورة ما حدث, ففي أحد حوارات الفيلم أثناء استعداد “عادل” للسفر إلي فلسطين, تقول له مربيته “وصيتك بقي تل أبيب, فيرد عليها : متخفيش هخليهالهم تل زينهم”. بالغ السيناريو فيما كان يتوقعه, وليس ما كان يحدث علي أرض المعركة, (ضربت قاذفتنا الثقيلة تل ابيب ضربا مميتا, وعادت إلي قواعدها سالمة, واكتسحت المدفعية الثقيلة الطريق الي دير ياسين واستولت عليها بعد مقاومة عنيفة) ربما كانت السينما تأمل في إحداث تغيرات حتي تقوم برصدها, ولكن للأسف لم يحدث.

اتهم البعض الفيلم بسبب الميلودراما التي سيطرت عليه، مع المبالغة في الأغاني، في غير مناسبة، والتي أفقدته أية دلالة إيجابية، إذ كان يفترض أن ينتهي الفيلم بالتأكيد على أن مصير مصر وفلسطين هو مصير مشترك، غير أن النتيجة جاءت على نحو ساذج، بما يخدم أغراض السوق التجاري للسينما المصرية، آنذاك.

كانت خطوط السكك الحديدية تعمل بين مصر وفلسطين حتي عم 1948, وكانت وسيلة السفر المتاحة حينذاك, وبين كثير من الدول العربية, وكان الخط الرئيسي للقطار  يمتد من القنطرة في مصر إلى حيفا في فلسطين، ومنها إلى بيروت، وكان هناك فروع تخدم يافا والقدس وعكا ومرج بن عامر, لكن تم ايقافها بعد النكبة, ويقال أن الشيخ أبوالعينين شعيشع كان يسافر من مدينة  بيلا بكفر الشيخ إلي المسجد الأقصى في القدس ليقرأ القرآن هناك، وكان سعر الرحلة وقتها وتحديدًا في 19-2-1942، الدرجة الثانية من القاهرة إلى القدس 2,555، بما يعني جنيهين ونصف. في الضفة الغربية توجد محطة طولكرم للسكك الحديدية والتي افتتحت في إثناء فترة الحكم العثماني عام 1915, وكانت تصل بين فلسطين ومصر والحجاز والأردن وسوريا ولبنان وتركيا، وقد استخدمها آلاف المسافرين من الجنسيات المختلفة.

عادل : العيب فيا أنا.. انتي نسيتي, أنا أعرج, أنا رجل مشوه

سعاد: لا يا عادل أنت مش مشوه, أنت بطل

عادل: البطل انهزم, وأتسحب بعاهة

سعاد: العاهة دي أإكبر وسام, عاهات الحروب يا عادل زينة الأبطال

-قطع-

بينما الجراح مثخنة, أصابت امة بكاملها بالعجز والحيرة, ولم تبرد بعد الدماء الساخنة التي جرت غدرا وبطشا, تفرق الحماس هنا وهناك  حتي فَتَرَ, وتعالت النعراث العالية التي ما زال صداها يصدح في سماوات ممتدة من المحيط حتي الخليج, راح من راح, وقتل من قتل, واغتصب من اغتصب, ولم يتغير خطاب التنديد والشجب والاحتقان.. ومارس الزبانية طقوسهم الدموية, وشاهد الجميع العرض الذي استمر عقودا كثيرة, وكانت الفرجة مجانية.

كتب وليد سيف:  فيلم “فتاة من فلسطين” كان استجابة للحالة الشعبية التي كانت متعاطفة مع الشعب الفلسطيني، وهو فيلم لا نستطيع أن نقول إنه مهم فنيًا لكنه مهم في ريادته، بطولة سعاد محمد ومحمود ذوالفقار، مضيفًا أن قضية الأسلحة الفاسدة ظهرت أيضًا في فيلم «نادية» و«الله معنا»، والأفلام التي تناولت حرب 1948 تناولتها من ناحية قصة الأسلحة الفاسدة رغم عدم دقة تلك الرواية.

اما الناقد نبيل محمد كتب: يسير الفيلم بسيناريو كلاسيكي مطابق للرائج في السينما المصرية في تلك الفترة، لكنه حاكى القضية الفلسطينية مباشرة، من خلال علاقة حب بين طيار مصري أصيب بعاهة وبين ابنة خالته. وكتب ياقوت الديب: “أن الفيلم أكد من خلال قصته البسيطة على عدة معان غاية في الأهمية، منها وحدة المصير بين مصر وفلسطين، وحقارة العدو الصهيوني وغدره الذي لا حدود له، وقد امتلأ الفيلم بالأناشيد الحماسية والأغاني الوطنية، وهو أمر شديد الإيجابية في وقت سادت فيه أدوار الخلاعة والمجون”.

أما الناقد أحمد حافظ كتب: بدا في الفيلم الارتباك الذي سيصنع خلطة السينما المصرية في تناول القضية الفلسطينية في الأعوام التالية، فمركز الفيلم هو ضابط مصري وفتاة فلسطينية (أو مصرية تركها وراءه في مصر وذهب إلى الحرب) وقصة الحب بينهما، وفي الخلفية كل شيء آخر. طبعاً لم يتم تصوير الفيلم في فلسطين ولم يستعن الفيلم بأية مشاهد سواء من يوميات الجيش المصري والجيوش العربية في فلسطين التي كانت بعض دقائقها محفوظة في “جريدة مصر السينمائية وقتها” – فقدت الآن أو غيرها من مشاهد أخرى أقدم قبل الاحتلال التقطتها الكاميرات المصرية وغيرها في فلسطين ومدنها وقراها، ليفشل الفيلم ومن بعده السينما المصرية في لعب أي دور في حفظ ذاكرة فلسطين وأماكنها.  أفلام تلك الفترة لم تكن منتبهة إلى فكرة الهوية وتتطرق إليها بسطحية وخطابية، ليس لها قضية واضحة ومحددة سواء على مستوى المضمون أو مستوى الطرح.

أشرف بيدس

التعليقات متوقفه