ضد التيار ..أمينة النقاش تكتب :رسالة إلى الفريق البرهان

55

لن يكون انهيار سد “أربعات” بسبب الأمطار الغزيرة والسيول المفاجئة، شمال مدينة بورتسودان الواقعة على البحر الأحمر،التى باتت مقرا للحكومة السودانية والجيش، هو آخر الكوارث فى السودان. فالبلد يمتلك فى أنحائه 6 سدود مثله، بينها سدود الرصيروص ومروة وعطبرة وجبل الأولياء، شيدت جميعها لتخزين المياه وتوليد الطاقة دون تأكيدات لمدى كفاءتها الهندسية، فضلا عن أن معظمها يفتقد للخبرة الإدارية والإمكانيات المادية للمتابعة الدورية لعملها وصيانتها وتجديدها، بسبب ضعف البنية التحتية وتدهور الخدمات فى أنحاء البلاد طوال عقود، من عدم الاستقرار السياسى والأمنى. وكان من الطبيعى أن يزداد هذا الوضع سوءا بالحرب المشتعلة بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، التى ساهمت فى تدمير كلى للبنى التحتية، وانهيار شامل فى الخدمات، ومواجهة ملايين السودانيين لشبح المجاعة وانتشار الأوبئة.

دخلت الحرب الأهلية فى السودان التى اندلعت فى أبريل من العام الماضى، عامها الثانى، ولا يلوح فى الأفق أمل وقفها فى المدى القريب، بعد أن بات كل طرف يسيطر على عدد المدن والأقاليم، ومالت كفة الصراع، لصالح الدعم السريع . والسبب أن الأخير يخوض حرب عصابات تعتمد على الكر والفر، ويمتلك عتادا من الأسلحة الحديثة، وأعدادا هائلة من المرتزقة الأقارقة، وكميات لا حصر لها من المال، مما وفره له بقاؤه فى سلطة الإنقاذ سنوات حكمها الثلاثين، وما منحه له البشير من امتيازات مالية، وحصص من موارد السودان وثرواته الطبيعية بينها مناجم للذهب. بينما ظلت خبرة الجيش محصورة فى حروب تقليدية، لم تحرز نصرا فى أى منها، وانتهت معاركها مع الحركة الشعبية بإنفصال الجنوب عن شماله عام 2011 .
فشلت الجهود الإقليمية والدولية لحث الطرفين على وقف القتال، وكان للدعم الإقليمى والدولى لكل طرف على حساب الطرف الآخر، دور حاسم فى استمراره . الثابت الوحيد فى الحرب هو ارتفاع أعداد الضحايا إلى نحو 150ألف قتيل وفقا لأرقام الأمم المتحدة، و أكثر من عشرة ملايين نازح، ونحو ثلاثة ملايين لاجئ، تم نهب بيوتهم وممتلكاتهم الخاصة. ولا يتوقف الطرفان عن تبادل الاتهامات عن انتهاك إعلان جدة الذى رعته العام الماضى السعودية والولايات المتحدة، ويلزم الطرفين المتحاربين بمراعاة بنود إنسانية تحددها اتفاقات دولية أثناء الحروب. كما تتعثر مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة، ولم تسفر مفاوضات القاهرة بين رموز من أطراف الحراك السودانى الذى أسقط نظام البشير، ولا زيارة رئيس المخابرات العامة “عباس كامل” مؤخرا للبرهان، عما يبشر بفرص جديدة لوقف الحرب .
سقط حكم البشير، لكن جماعة الإخوان التى سيطرت على مفاصل الحكم ثلاثين عاما لاتزال ذات تأثير قوى داخل سلطة الجيش، بأمل لا يخبو، فى استعادة أمجاد الماضى الذى قاد السودان من خراب إلى خراب. وبسعى حثيث لدفع الجيش لإقامة تحالفات إقليمية ودولية تدعم قدرته على مواصلة الحرب، وتلوح بمنح قواعد عسكرية بحرية على شواطئ البحر الأحمر إن لإيران أو لروسيا الاتحادية، وهو ما تحذر من مخاطره الإدارة المصرية، وتبذل جهودا مخلصة لحل سياسى للنزاع بين الطرفين يضع حدا للخسائر اليومية الفادحة فى البشر والحجر، ويفتح بابا لحوار مستقبلى يحافظ على الدولة السودانية من شبح مخيف يهددها بمزيد من المتاهات والتشظى.
خلال 68 عاما من استقلال السودان فشلت أنظمة الحكم المتعاقبة للنخب الحزبية، فى قيادة مشروع سياسى حداثى، عابر للقبائل والطوائف والمذاهب والأيديلوجيات لبناء مؤسسات الدولة السودانية بالكفاءات البيروقراطية المدربة، بما يحفظ استقلال السودان بعيدا عن سياسة الاستقواء بالخارج، لتعزيز النفوذ بالداخل. كما عجزت عن تحقيق وحدته ببرنامج سلام شامل وعادل، فى بلد ذى مساحة شاسعة تجعله أكبر دولة إفريقية، وأخفقت فى الحفاظ على هويته الحافلة بالتعدد والثراء، وتشمل نحو570 قبيلة من أصول عربية وأفريقية، و57 مجموعة عرقية متعددة الثقافة واللغة، ونحو114 لغة شفهية ومكتوبة، وديانات سماوية وأخرى أرضية . وفى هذه الحرب، التى أقدم فيها الدعم السريع على إعدامات جماعية وقصف لمخيمات لاجئين وللمستشفيات، وارتكاب جرائم جنسية فاضحة، فقدت المؤسسة العسكرية ثقة المواطنين بها، لعجزها عن حمايتهم، وبات انخراطها فى القتال رمزا لصراع على السلطة والنفوذ، حتى لو كان الثمن ضياع الدولة. وليس ثمة أمل من الخروج من الأزمة الراهنة، سوى أن تتشكل حكومة أزمة انتقالية من كفاءات مستقلة، بعيدة عن الطرفين المتحاربين، تقود حوارا سياسيا يوقف الاقتتال، ويمهد للاتفاق حول خطوات المستقبل. فهل يفعلها “البرهان” ويستعيد صفحات الكفاح البطولى للجيش لنيل الاستقلال وحماية الدولة، ويخطو نحو تلك الخطوة لإنقاذ السودان أرضا وشعبا ؟!

التعليقات متوقفه