ونستمر مع هذه السلسلة من المقالات عن “الدعم بين العينى والنقدى”. والمناسبة هي إعلان الحكومة عزمها التحول من الأول إلى الثانى. في المقال السابق طرحت السؤال المحورى: لماذا تريد الحكومة التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى؟ وقلت: إن الحكومة في تقديرى المتواضع تُظهِر للشعب، هنا على الأقل، غيرَ ما تُبطِن. فهى تدعى أن الدعم يمثل عبئا ثقيلا على الموازنة. وقد أثبتنا بالأرقام من واقع بيانات وزارة المالية نفسها أن هذا الادعاء غير صحيح. فالدعم برىء من عجز الموازنة براءة الذئب من دم ابن يعقوب. والمسئول الأول هو خدمة الدين وفشخرة الحكومة! نعم، فحكومتنا السنية “بتبرطع” في العلمين الجديدة والشعب مسحول بين الغلاء وحرارة الجو وانقطاع الكهرباء، والحكومة تطلب منه إنه “يحاسب ع المشاريب”. ثم تقول لنا الحكومة لا بديل عن رفع الأسعار. والحكومة طلبت رسميا من الحوار الوطنى أن يفتيها بالرأى السديد قبل التحول من الدعم العينى الى الدعم النقدى. وأعلنت ذلك في كل أبواقها الإعلامية. والحوار الوطنى طلب من الحكومة بيانات ومعلومات موجودة عندها. لكنها لم تقدم أي شىء من المطلوب حتى الآن.
لكن الحكومة بدأت فعليا ومع سبق الإصرار والترصد انصياعا لتعليمات صندوق النقد الدولى بإجراءات للقضاء على الدعم دون انتظارٍ لما سينتهى إليه الحوار الوطنى رغم أنها طلبت رأيه. فوزارة الكهرباء رفعت الأسعار بنسبة كبيرة جدا بحجة تخفيض الدعم، وتعلن أن هناك زيادات أخرى في الطريق لأن التكلفة زادت. ووزارة البترول تفعل نفس الشىء وترفع أسعار المنتجات البترولية كل ثلاثة شهور لأن التكلفة زادت. وكل هذا الرفع في الأسعار بحجة أن التكلفة زادت، وهى حجة باطلة ومضللة. ورفع أسعار الطاقة يرفع أسعار كل شيء. ثم يقوم البنك المركزى برفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم، لكن رفع سعر الفائدة يرفع تكلفة كل شيء ويربك ساحة الإنتاج والاستثمار. يعنى طاحونة تطحن المواطن بين ارتفاع التكلفة وارتفاع التضخم وارتفاع التكلفة… إلخ. كان الله في عون الناس! لذلك قلت في أكثر من مناسبة، وأؤكد ذلك الآن. أنه إذا دققنا النظر وأعملنا الفكر سنكتشف أن المواطن في بلدنا هو الذى يدعم الحكومة وليس العكس. ولنأخذ مثالا على ذلك دعم المنتجات البترولية.
في مقال نُشِر مؤخرا في إحدى الصحف واسعة الانتشار لأحد كبار مسئولي قطاع البترول السابقين نكتشف جوانب مقلقة لهذا القطاع. خذ عندك:
(1) تستورد مصر لاستكمال احتياج السوق المحلية من البنزين والسولار والبوتاجاز بتكلفة ٧٠٠- ٨٠٠ مليون دولار شهريًا.
(2) نستورد للكهرباء من الغاز الطبيعى والغاز المسال والمازوت بتكلفة ٥٠٠ مليون دولار شهريًا فى الشتاء، و٧٠٠ مليون فى الصيف.
(3) مستحقات الشريك الأجنبى مقابل استرداد تكاليف الاستكشاف والإنتاج والتشغيل ومقابل مخاطرة البحث ٨٠٠ مليون إلى مليار دولار شهريًا.
(4) تنتج مصر محليًا حوالى ٦٠٠ ألف برميل فى اليوم من البترول السائل والمتكثفات.
(5) تضخم عدد العاملين بالقطاع الى٢٢٠ ألف عامل بعد أن كان أقل من ٥٠ ألف عامل. (6) تقدر المصروفات المطلوبة لإدارة هذا القطاع وإتاحة الطاقة محليًا ٢٥ مليار دولار، بينما الدخل من بيع المنتجات المدعمة والحصول على موازنة من الدولة ما قيمته حوالى ٣ مليارات من الدولارات، والفارق يذهب دعمًا مستترًا للمستهلك. ويقترح الخبير روشتة للحل تتضمن رفع دعم الوقود تمامًا خلال فترة محددة وقصيرة بنسب محددة ربع سنوية حتى نصل إلى الأسعار العالمية من أجل استخدام هذا المورد الطبيعى بالعدل والقسطاس لكل الشعب، بدلًا من استفادة شرائح بعينها.
كلام المسئول السابق، الذى أقدره شخصيا، يحتاج الى مناقشة جادة. فالأرقام والمعلومات هنا هي “من عِندِيِّات” وزارة البترول وهيئة البترول والشركات التابعة لها وما أكثرها. وأعتقد أنها تحتاج الى تدقيق من جهة مستقلة. ولضيق المساحة المتاحة، سأكتفى بطرح عدة أسئلة.
أولا، هل تضخُّم عدد العاملين بالقطاع من 50 ألفًا الى 220 ألفا أمر طبيعى في ظل التطور التكنولوجى السريع في مجال البترول والغاز؟ أم أنه تضخُّم سرطانى يعكس مظاهر الفساد كما نعلم جميعا، باعتبار أن الرواتب والحوافز هنا أعلى كثيرا منها في أي قطاع آخر؟.
وهل نعتبر إجمالى الرواتب والحوافز هنا من التكلفة و”المصروفات المطلوبة”؟ وما معنى “الأسعار العالمية” المشار اليها في البند (6)؟ .
ثانيا، هل كل العاملين في مصر يحصلون على “أجور عالمية” لنطلب منهم دفع أسعار عالمية؟
ثالثا، معلوم أن صندوق النقد الدولى هو الذى يطالب بإلغاء الدعم، ويحدد الأسعار العالمية بأنها أسعار مزيج خام برينت محولة الى الجنيه المصرى باستخدام سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. فكيف نعتبر ارتفاع سعر البترول نتيجة تدهور قيمة الجنيه بمفعول سياسات الحكومة زيادة في التكلفة؟.
رابعا، أين كروت البنزين التي ألزمتنا الحكومة بشرائها منذ فترة ثم لم نسمع عنها شيئا؟
حكمة اليوم:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ الإسراء، الآية
Sign in
Sign in
Recover your password.
A password will be e-mailed to you.
الموضوع السابق
الموضوع التالي
التعليقات متوقفه