يوم الجمعة الماضى، مرت الذكرى الثامنة عشرة لرحيل نجيب محفوظ . تلك ذكرى عطرة لا تجلب أبدا أى رغبة لذرف الدموع، بل هى ذكرى للفرح والبهجة، تستدعى الوقوف والتعلم من ظاهرته الأدبية والشخصية التى ملأت الحياة بالأفكار والرؤى الخلاقة، عن الفن والأدب والحياة، وقدمت نموذجا للكاتب والمثقف الذى تتماثل فيه بشكل مبهر أفكاره، مع سلوكه وشخصيته الإنسانية، والمواقف التى اتخذها فى الحياة .
وكانت الطبقة الوسطى الصغيرة، الذى كان هو أحد أبنائها، هى محور روايته منذ بداية ونهاية والثلاثية، مرورا بالسمان والخريف، والطريق واللص والكلاب وميرامار وثرثرة فوق النيل، وليس انتهاء بأولاد حارتنا والشحاذ والحرافيش، وغيرها من الروايات التى أنتقل فيها نجيب محفوظ من مرحلته الواقعية التى تتابع بدقة مجريات ما يحدث فى الواقع الاجتماعى، إلى مرحلة جديدة تتسم بالشاعرية الصوفية إن جاز التعبير، ويلجأ فيها إلى الرموز، ويحيل إلى الروايات التراثية والسير الشعبية، ويزاوج بين اللغة العامية والفصحى، أو بمعنى أدق يقرب بينهما ليخلق لنا لغة فريدة لا شبيه لمثلها، يسوق من خلالها أفكاره الفلسفية العميقة التى تطرح أسئلة الموت والحياة والروح والجسد والله والوجود .
ومثل من يمسك مشرح الجراح ومجهر عالم الفلك، قدمت روايات محفوظ بدقة ووعى بالنشأة والمسار، أوضاع الطبقة المتوسطة منذ صعودها مع ثورة 1919، والمراحل القلقة والمتأرجحة والمتراجعة التى مرت بها ، فى مجرى التاريخ المصرى المعاصر . ووصًفت بتعاطف الأمراض الاجتماعية والنفسية التى لازمتها ونشأت معها، وتحصرت بصوت المحب المجروح ، على الضربات المتوالية التى ظلت تلك الطبقة تتلقاها لإضعافها وتهميشها، منذ ثورة 1919 التى فتحت الأبواب الواسعة لتطورها وصعودها، وحتى أيامنا تلك، التى تكاد تلك الطبقة أن تختفى وتزوى من التصنيف الاجتماعى .
ولنجيب محفوظ قصة غير سعيدة مع جريدة “الأهالى” .فقد غضب من الصحيفة، لنشرها النص الكامل لرواية أولاد حارتنا، فى ملحق خاص بها، وكان الكاتب الصحفى الراحل عبد العال الباقورى رئيسا لتحريرها . وكان الشاعر حلمى سالم المشرف على القسم الثقافى فى الأهالى ، هو من اقترح نشرها، بعد حصوله على النسخة الكاملة منها التى نشرتها دار الآداب اللبنانية .
لم يكن غضب محفوظ من الأهالى كما زعم البعض، يرجع إلى أنه كان يخشى مواجهة التيارات الدينية المتشددة أو يتجنب الصدام معها، بل هو موقف متسق مع شخصيته الهادئة الحكيمة التى تحسب لقدمه قبل الخطو موضعها، وتدرك موطن القوة فى جبهة الخصوم، وتتحاشى إهدار الجهد فى معارك خاسرة .
فحين تم نشر الرواية مسلسلة فى جريدة الأهرام عام 1955، تقدم عدد من رجال الدين بمذكرة إلى الرئيس عبد الناصر يطلبون مصادرتها، بعد أن التبس عليهم الأمر فى فهمها باعتبارها كتابا فى التاريخ، وليس بصفتها رواية، وعجزهم عن التفرقة بين ماهو رمزى فى العمل الروائى، وبين ماهو واقعى فى حوادث التاريخ، لكن الرواية لم تصادر واكتفت الأهرام بحذف بعض أجزائها .
رفض محفوظ طبع الرواية فى كتاب، ليس خوفا من أحد، بل انتظارا لأن يزول اللبس فى فهم الرواية، بما يدفع الجهات الدينية التى اعترضت عليها إلى تعديل موقفها، التى اتهمته بالكفر و الهجوم على الأديان والإساءة إلى سير الأنبياء، والخروج على الدين .وكانت الطبعة التى تم تداولها خارج مصر، قد صدرت دون علمه ودون إذن منه .
وحين تعرض نجيب محفوظ لمحاولة جبانة لاغتياله فى اكتوبر عام 1994 اتلفت أوتار يده وعنقه، وافقدته القدرة على الكتابة بيسر، نشرت “الأهالى” أولاد حارتنا فى عدد خاص من أعدادها، نفد فور صدوره، انطلاقا من رؤية تستند إلى أن الذين كفروا الرواية وكاتبها وطالبوا بمصادرتها، أفتوا بغير علم، واستندوا لفهم خاطئ فى قراءتها، وأن من حاولوا قتل نجيب محفوظ ، لم يقرأوا الرواية أصلا، وإن نشر الرواية فى جريدة يمنح الفرصة لقطاع عريض من القراء للتأكد من التفسير الخاطئ الذى تم ترويجه للرواية، لكى يتحول فيما بعد إلى فتوى بالقتل .
وأعترض نجيب محفوظ على النشر الذى تم فى “الأهالى “دون استئذانه وعلى عكس رغبته ، لاسيما أنه قد شجع عددا من دور النشر الحكومية والخاصة على الإعلان عن قرب طرحها فى الأسواق . وأمام تجاهل رغبته فى عدم نشر الرواية فى كتاب، قام نجيب محفوظ، بمنح صحيفة الأهرام الحق فى نشرها فى كتاب، وتفويضها فى اتخاذ الاجراءات القانونية لمن يخالف ذلك . كما تم نشر الرواية فى دار الشروق بعدما كتب لها مقدمة أحمد كمال أبو المجد . وصارت الرواية تنتشر فى معظم المكتبات، وتباع حتى على الأرصفة لدى باعة الكتب، وهى نتيجة منطقية لحكمة ووعى وبصيرة، حضرة المحترم نجيب محفوظ طيب الله ثراه.
التعليقات متوقفه