عبدالناصر قنديل يكتب :البرلمان من ( التشريع ) إلي ( التسريع )

77

*بقلم /عبدالناصر قنديل

تمثل العملية السياسية في المجتمعات الديمقراطية حالة مستدامة من التفاعل والصراع بين كافة القوي والتيارات المجتمعية بما يضمن كفاءة الفعل السياسي بصوره المتنوعة فضلا عن إعادة فرز واكتشاف الكوادر الجماهيرية التي تصلح لتمثيل المواطنين في الهيئات ذات الطبيعة النيابية .

لذا كان من الغريب واللافت حالة الامتعاض والتوتر التي أصيب بها البعض من أعضاء البرلمان مع توالي الانتقادات الشعبية والنقابية ضد مشروع قانون تعديلات قانون الإجراءات الجنائية الذي تقدمت به الحكومة قبل أن تتم إحالته للجنة خاصة مهمتها ( صياغة ومراجعة مشروع قانون الإجراءات الجنائية المقدم من الحكومة ) وهي المهمة التي استمرت لمدة جاوزت ( 14 ) شهر عقدت خلالها اللجنة ( 28 ) اجتماع بداية من 28 ديسمبر 2022 وحتى 6 مارس 2024 .
فما أن أصدرت نقابة المحامين بيانها التحليلي ( والانتقادي ) لمشروع القانون ـ والذي تضامنت نقابة الصحفيين مع محتواه ـ حتى توالت الرسائل البرلمانية القلقة والمتوترة التي كان من أبرزها الفقرة التي تضمنها بيان لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ( من جانبهم أكد عدد من أعضاء اللجنة على أن سلطة التشريع من اختصاص مجلس النواب وحده ) بينما كان أغربها البيان الذي أصدره رئيس إحدى اللجان النوعية بمجلس النواب وعضو اللجنة الخاصة وضمنه قوله ( نرى البعض يتباري في إصدار بيانات دون علم وإذا كان بعلم فهذا ابتلاء فنحن مشرعين منتخبين من الشعب وإذا لم نمنح الفرصة للقيام بدورنا فملوش لازمة بقي )
الغريب في الأمر أن تلك المواقف العصبية تعكس قناعة كارثية لدي مجلس النواب ( مؤسسة وأفراد ) بأن الشعب عندما صوت لانتخاب تلك المجالس النيابية فأنه بذلك قد وقع لأعضائها صكا ( على بياض ) لا يسمح للمواطنين أو للقوي الحزبية والمجتمعية بالحق في التعليق أو إبداء الرأي فيما يتم من ممارسات تتعلق بالأساس بحياتهم ومستقبلهم وهو سلوك غريب ومستهجن فضلا عن كونه يتناقض مع فلسفة النصوص التشريعية .
فواقع الممارسة يكشف أن أعضاء المجلس النيابي يخلطون بين سلطة ( التشريع ) وبين سلطة ( إقرار التشريع ) فإذا كانت ( الثانية ) هي اختصاص أصيل لمجلس النواب فإن ( الأولى ) هي مهمة تشاركية يمثل النواب أحد عناصرها وليس كل عناصرها .
فالمادة رقم ( 122 ) من دستور 2014 تضع النواب في المرتبة ( الثالثة ) من حيث تراتبية ممارسة سلطة التشريع واقتراح النصوص البديلة أو المستحدثة حيث نصت على أنه ( لرئيس الجمهورية ولمجلس الوزراء ولكل عضو في مجلس النواب اقتراح القوانين ) بل إن المشرع الدستوري استمر في تأكيد فلسفته التراتبية فجعل مشروعات القوانين المقدمة من الحكومة تحال مباشرة إلى اللجان النوعية المختصة وهي ميزة لا يحصل عليها المشروع المقدم من عضو المجلس إلا إذا وقع عليه ( عشر ) أعضاء المجلس فإن لم يتمكن من جمع تلك التوقيعات أحيل مقترحه للجنة الاقتراحات والشكاوى لإبداء الرأي .
ولم تتوقف الميزة التفضيلية لمشروعات القوانين المقدمة من الحكومة قياسا بالنواب عند هذا الحد حيث نجد أن اللائحة الداخلية لمجلس النواب ذاته تنص في المادة ( 186 ) على أنه ( يعتبر مشروع القانون المقدم من الحكومة أساسا لدراسة اللجنة إذا تعددت مشروعات القوانين والاقتراحات بقوانين المحالة إليها إذا كانت متفقة من حيث المبدأ )

وربما كان الأخطر من كل ما سبق قيام المشرع الدستوري بسحب سلطة ( إقرار التشريع ) من البرلمان وإعادتها للشعب ذاته فيما يتعلق بتعديل مواد ونصوص الدستور حيث منحت المادة ( 226 ) من الدستور ( لرئيس الجمهورية أو لخمس أعضاء مجلس النواب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور ) حيث أوجبت المادة بعد الانتهاء من مناقشة وصياغة مواد التعديل ( عرض على الشعب لاستفتائه عليه خلال ثلاثين يوما من تاريخ صدور هذه الموافقة ويكون التعديل نافذا من تاريخ إعلان النتيجة وموافقة أغلبية عدد الأصوات الصحيحة للمشاركين في الاستفتاء )
لذا تعكس الممارسة الفعلية لمجلس النواب طوال أدوار الانعقاد الأربعة المنقضية من عمر هذا المجلس غياب الدور التشريعي الواضح والمؤثر من جانب نواب يرون في أنفسهم ( مشرعين منتخبين ) فضلا عن اتهام معلق ومستدام بالتعجل في الموافقة على القوانين المقترحة وتدني مستويات النقاش حول نصوصها وارتفاع نسب الغياب خلال الجلسات المخصصة لها فمن بين ( 693 ) قانون أصدرها مجلس النواب خلال الفصل التشريعي الحالي بلغت نسبة مساهمات النواب ( 17 ٪ ) من جملة التشريعات بينها ( 6 ٪ ) فقط تشريعات منفردة للنواب مقابل ( 83 ٪ ) تشريعات حكومية خالصة .
بل إن المدقق في الأداء التشريعي لمجلس النواب من حيث تطبيق معايير الكفاءة والفعالية في مناقشات وإقرار القوانين يجد نفسه أمام تردي شديد في أداء الدور التشريعي قياسا بباقي أدوار البرلمان وفق ما تكشفه دلالات التقييم الرقمي للممارسات النيابية .
فلو اعتبرنا أن مجلس النواب قد تفرغ ( تماما ) لمهمة التشريع ومناقشة وإقرار القوانين وخصص لتلك المهمة كافة جلساته دون انتخابات للجانه النوعية أو مناقشة لباقي الأدوات الرقابية أو إقرار الموازنة والسياسة العامة للدولة ومساءلة الحكومة ( وهي فرضية مستحيلة ) فإن هذا معناه أن المجلس خلال ( 212 ) جلسة قد وافق على ( 693 ) قانون بمتوسط ( 3،27 ) قانون بكل جلسة .
وتتجلي فداحة المشهد بشكل أوضح بالنظر لمتوسط الزمن في مناقشة المواد المقترحة ضمن تلك القوانين بحيث أننا اذا وزعنا زمن الجلسات ( 841 ) ساعة على عدد المواد الإجمالي للقوانين السابقة ( 7007 ) مادة فإن هذا معناه أن نصيب كل مادة من المناقشة هو ( 7 ) دقائق فقط تمارس خلالها ( 4 ) إجراءات تشريعية على الأقل ليكون هذا المجلس هو أحد أسرع البرلمانات في الإقرار الميكانيزمي للقوانين عبر التاريخ النيابي الحديث .
العجيب في الأمر أن لجنة الشئون الدستورية والتشريعية وهي تنتفض غضبا من التدخل في شئونها ودفاعا عن تخوم ما تراه صلاحية مطلقة لها بالنسبة لمشروع تعديلات قانون الإجراءات الجنائية مارست ما يشبه التأكيد على تهمة خالدة للبرلمانات المصرية بكونها تمارس ( سلق القوانين ) ولا تعطيها ما تستحقه من نقاشات وتداول ضامن لكفاءة الصياغة وممكنات التطبيق المعزز للمواطنة وحقوق المواطن فتناست اللجنة إن المشروع المنظور أمامها قد استغرق عمل اللجنة عليه ( 14 ) شهر وأن عدد مواده ( 540 ) مادة فإذا باللجنة وخلال ( 10 ) أيام فقط من 17 وحتى 27 أغسطس تنتهي من مناقشة ( 335 ) مادة من مشروع القانون دون الالتفات للمشكلات التي أثارتها نقابتي المحامين والصحفيين أو للمطالبات بضرورة عقد عدد من جلسات الاستماع البرلماني مع الحقوقيين والمشاركين في الحوار الوطني والذين كانت لهم ملاحظات وتوصيات تتعلق بقضية الحبس الاحتياطي التي تأتي موادها القانونية في صلب هذا القانون .
في النهاية فإن الخبرة وسوابق الممارسة تقول بأن هذا القانون سيصدر ليفتح صفحة جديدة من الجدل والنضال المجتمعي الراغب في ضبط إيقاع الممارسة بما يتفق والحقوق الدستورية والالتزامات الأممية إلا أنها من جانب أخر تكشف عن تطور وترسخ في خبرات ومهارات الصراع الديمقراطي ووجود نوافذ للنفاذ إلى عقل السلطة وممكنات للرهان على مواقفها الحاسمة والتصويبية في اللحظات الفارقة .
وما قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي ببعيد .

التعليقات متوقفه