” فـزاعة بوجه الريح .. كاكاشي”.. الرقص مع الوجع           

450

قراءة : أمـــــل جمــــال

الفرق بين رواية جيدة يمكن أن تحقق انتشار جيد حسب كاتبها و حراك اسمه في الساحة و بين رواية فوق مستوى الجيدة وكاتبها قطع شوطـا في فنه و يعرف بالخبرة إلى أين يمضي و ماذا يريد ؟ هو ما يجعلني أتوقف وأفتش رواية الكاتب البحريني أحمد المؤذن ( فزاعة بوجه الريح .. كاكاشـي ) 372 صفحة / الطبعة الأولى 2019 – دار الكتب و الدراسات العربية – الإسكندرية ، هذا العمل لا يعطي القارىء اجابات جاهزة عن مسارات قصصية عابرة من الحياة أصبحت في حكم المكرر حسب الروتين اليومي الذي أعرفه أنا و أنت ، الرواية التي نسلط عليها الضوء ، غوص حُـر في عمق الشخصية المسحوقة ، تظهر بكل تجليها المتواضع و المهمش في نموذج ” عارف ” حيث لا ينتظـر منا نحن القراء التصفيق له ولا تقديم الاحترام أو المجاملة ، لكونه يتحرك في فضاء الحدث مثل أي مشرد يمكن أن تصادفه في طريقك نحو عملك في الصباح أو جامعتك ، ستجده يفتش في حاويات الزبالة عن أي شيء يصلح للأستعمال ، فقط حتى يحتال على العيش و سط عاصمة عربية صغيرة مثل المنامة .

الاحداث في ( فزاعة بوجه الريح .. كاكاشي ) تأخذ شكلا تصاعديا بهدوء دونما أن تشعر ، ” عارف ” يجلس عند ” زكية ” التي تبيع الذرة المسلوقة قرب حديقة عامة ، يقرأ عليها قصيدة من تأليفه ثم يتحدث معها . من الخيط الأول نعرف بأن شخصية ” عارف ” ليست كما كنا نعتقد بأنها ترزح في الجهل أو حتى متخلفة ، بل هي شخصية فارقة تمتلك الدهشة في مفرداتها اليومي ، بؤسها الظاهري ربما كان قناعاً وحسب ، لكن تتمتع بجوهر و حضور مختلف كليا .

إن صعوبة الظروف الحياتية هي التي تصنع معدن الإنسان ، ربما تصقله كي يكون لامعا أو دون ذلك ، ” عارف ” لم يكترث لما يمكن أن يصيبـه عندما أختار التشرد و الهرب من بيت والده ، نوبات غضبـه المفاجئة هي التي حتمت هذا المصير . صار ” عارف ” يلاصق حياة الشارع و النوم أو الأكل و التسكع حتى كبر في السن كأنما هو ضائع بلا عنوان ! الأحداث بعدها تتجـه إلى كشف قاع المجتمع البحريني ، فهناك من يعيش الثراء و يلهو بصفقات ناجحة مع الشيطان و هناك من يقتات من جيب الشقاء و الفقر و هناك .. ” منصورة ” شخصية امرأة تلاحق رغباتها و تستثمـر في جسدها ، تنتقل من رجل إلى آخـر ، حيث يرسم لها قدرها اللقاء بـ.. عارف .

أما ” هاني ” و هو شقيق عارف ، شخصية أخذت على عاتقها اقتناص الفرصة حتى لو كانت جمرا يحرق الكف ، المهم ان لا تضيع اللحظة المناسبة و هذا ما جعل وجود هذه الشخصية إشكاليا من منطلق الروح الانتهازية التي نراها في بعض الوجوه حولنا .

ما زلنا في مرحلة الكشف ” البانورامي ” عن مجمل الشخصيات التي وردت في الرواية ، نلتقي بشخصية ” سائق النقل المشترك حاج مرزوق ” كرجل من عامة الشعب ، يحوم حول زكية المحتاجة إلى خدماته ، فيعرض عليها الزواج لكنها لا تريد الاقتران برجل في عمر جدها الراحل ، كما أنه متزوج.

إن أكثر شيء يُلفت الانتباه في الرواية التي نستعرضها ، انسيابية تناول مزيج متفاوت من الشخصيات ، رصدها الكاتب من عمق المجتمع ولم يرسمها ورقياً بـلا وعي لمجرد الانطلاق في الكتابة و التجريب ، يكفي أن لهذا الكاتب ” المؤذن ” رصيد رائع من عالم القصة القصيرة ، أنجز خمس مجموعات قصصية برهن فيها قدرته على رصد الشخصية و التماهي مع ارتحالاتها في الألم و الفرح ، حيث نتعرف على طيف متنوع من البشر في مختلف حالاته يتحرك على خشبة مسرح الحياة .

لذا أعتقد أن تجربة قراءة نتاج ” المؤذن ” في جانبها القصصي أو الروائي ، بلا  أدنى شك ، تجربة لذيذة في بعدها الموضوعي و الدلالـي التي تستلـزم من النقاد فهمها و التعرض لها بالدرس النقدي ، لإضهار جمالياتها للقارىء العربي ، نراه اليوم واقعا تحت ضجة تكدس مـدعيّ ( الإبداع ) ممن يحترفون سرقة تعب غيرهم أو هؤلاء الذين يسوقون كل ما ليس لهُ صلةٌ بالأدب ،ثم ترتفع راياتهم في النهاية بدون رصيد فعلي !

طبعاً الرواية تضم أحداث كثيرة من المستحسن عدم حرق مفاجآتها على القارىء ، و بما أنها صدرت في الإسكندرية فهي على ذلك متوفرة في سوقنا المحلي ، من الجميل قراءتها و معرفة عالم ” أحمد المؤذن ” و الذي قال مصرحا عن توجهه في الكتابة في واحدة من لقاءاته الصحفية : ” انا أنحاز لرجل الشارع العادي فيما أكتب و لا تهمني النخبة ” .

اعتقد بأن هذا ما يجعل هذا الكاتب متميز في العطاء و التجربة و يستحق المتابعة ، لأنه ببساطـة سوف تأسرك بساطته و تواضعه و التي أنعكست في مجمل نتاجه الأدبي ، يبحث عن هؤلاء ” الغــلابه ” كي يفتش مكامن أوجاعهم و احلامهم ، حتى خيباتهم ، يكتب حتى يميط اللثام عن كل ما هو مألوف في حياتنا و مسكوت عنه ! عندما تقرر عزيزي القارىء معرفة هذا الكاتب بقراءة ( فزاعة بوجه الريح .. كاكاشي ) أو أي عمل آخر مثل روايته المنشورة هنا في القاهرة ( وقت للخراب القادم ) دار دون للطباعة و النشر 2014 ، ستعرف تماماً ما أعنيه ، ستتضح لك الصورة في معرفة الفرق ، حيث سبقني إلى هذا المضمون الكاتب اليمني ” محمد الغربي عمران ” كتب على الغلاف الخلفي لهذه الرواية قائلا :

( فزاعة بوجه الريح .. كاكاشي ) رواية تصطحب القارىء إلى مجتمع البحرين و بالذات قاعه .. تجول به أزقة و أحياء المنامة لنراها بعينيّ عارف .. تلك الشخصية التي أختارت الهامش لتعيشـه بوعي .. لقد أجـــاد  “المؤذن” تقديم كجتمع يقع بين مطرقة الطائفية و تسلط  الساسة .. بين طبقة المنتفعين و عموم الشعب المستلب . رواية هامة ضمن عقد أعمال الكاتب التي ينضدها بتقنيات و دراية دهشة عقد اللـؤلؤ ) . 

التعليقات متوقفه