«إميلى نـصر الله» تتحدث عن نفـسها.. نشأتى الريفية أثرت فى تكوينى الإبداعى

309

فى حوار اجراه “سلمان نور الدين” لصحيفة النهار فى شهر مايو 2015 مع الروائية اميلي نصر الله، التي رحلت الاسبوع الماضي وفى هذا الحوار تتحدث إميلي نصر الله، عن رحلتها فى الابداع وفى الحياة، ولدت نصر الله عام 1931 فى جنوب شرق لبنان، ودرست الصحافة بالجامعة الامريكية ببيروت وعملت بدار الصياد وكل مطبوعاتها حتي عام 2000.
نشرت نصر الله، اولي رواياتها التي تشكل عملا رائدا فى كتابة الرواية العربية وهي “طيور أيلول” عام 1962، والتي تحدثت عن الموضوع الاثير لدي كتاب الرواية اللبنانيين على وجه الخصوص، الذي يركز على الهجرة والنشأة فى وعى القرية، وقد كرست هذه الرواية الرائدة مكانتها كروائية، ثم توالت اصدارتها الصحفية والروائية بعد ذلك، ومن بينها روايات الرهينة وتلك الذكريات، وقصص قصيرة منها روت حي الايام والينبوع، فضلا عن قصصها لكتب الاطفال ومنها شادي الصغير وعلي بساط البلح.
منحت رئاسة الجمهورية وساما لاميلي نصر الله، كما احتفت بها الاوساط الثقافية اللبنانية قبل وفاتها عن عمر يناهز 87 عاما يوم الاربعاء الماضي. وفيما يلي نص الحوار..

فى 28/ 4/ 2015، أطلقت الهيئة الوطنية للأونيسكو رواية “طيور أيلول” للروائية اللبنانية إميلي نصرالله مطبوعة بصيغة “البرايل” للمكفوفين، فأتاحت لهذه الشريحة الاجتماعية فرصة الاطلاع على هذه الرواية الجميلة والتمتع بها حكايةً وخطابًا. “طيور أيلول” هي رواية نصرالله الأولى التي شكّلت جواز سفرها إلى عالم الأدب، وحظيت منذ صدورها فى العام 1962 باهتمام الأوساط الأدبية، فنالت جائزة أصدقاء الكتاب، وجائزة الشاعر سعيد عقل، وطُبِعت حتى تاريخه أربع عشرة مرة، وتُرجِمت إلى اللغة الألمانية، وجرى الاحتفال منذ ثلاثة أعوام بمرور خمسين عامًا على صدورها، وها هي تصدر فى طبعة “البرايل”.. هذه الواقعة شكّلت فرصة للجلوس إلى الكاتبة، والاصطلاء بجمر الذكريات خلل رماد السنين. هناك فى شقّتها البيروتية المطلة على البحر والجامعة الأميركية، بما يحيل الأول على الهجرة التي تُعتبر فضاءً محوريًّا فى عالمها الروائي، وتحيل الثانية على أيام الدراسة الجامعية التي فى البال، كان ثمة لقاء مع الكاتبة، هبّت فيه ريح الذكريات، فراحت تُزيل الرماد، على رسلها، عن النشأة، والأسرة، والضيعة، والدراسة، والعمل الصحفي، والمسيرة الأدبية. وكان لي متعة الإصغاء والتدوين، والتدخّل أحيانًا لردم بعض الفجوات الزمنية. لم أكن لأفاجأ بالحضور الذهني الساطع، وبالذاكرة الحادّة، وبالتسلسل المنهجي لهذه السيدة الكبيرة التي لم يتمكّن رماد الأيام من جمر ذكرياتها. أليست الرواية تذكّرًا وتخيّلاً وهندسةً وبناءً فنيًّا وتقنيات تمارسها إميلي نصرالله بامتياز؟
النشأة والدراسة
تتذكّر إميلي نصرالله نشأتها الريفية والشخصيات الأولى، التي تركت تأثيرها فى حياتها وأدبها. تقول: “نشأتي لا تختلف كثيرًا عن نشأة أية فتاة فى القرية. والدتي من الكفير، وأبي من كوكبا، لكنّه كان “صهر بيت” إذ انتقل للإقامة فى بلدة أمّي، وأنا وُلِدت فى كوكبا قبل الانتقال المذكور. أهلي ملاّكو أراضٍ مزروعة بالزيتون والكرمة، وكان أبي يسوس هذه الأرزاق بعد وفاة جدّي لأمّي، وكان يعيش معنا فى العائلة رجل آخر هو الخال أيوب أحد أبطال روايتي الجديدة التي أكتبها حاليًّا. هذا الخال نشأتُ على ساعديه مذ كان عمري سنتين اثنتين، وهو متعلم بعكس الوالد الذي كان أميًّا. لعل السبب فى ذلك يعود إلى التعليم المبكر فى الكفير على يد البعثة الروسية التي أقامت مدارس ابتدائية فى القرى الأرثوذكسية، الأمر الذي لم يكن متاحًا فى كوكبا، قرية الأب. أشهر من تخرّج من هذه المدارس المفكّر الكبير ميخائيل نعيمة. وكان المتخرّج المتفوّق من هذه المدارس يُرسَل إلى معهد الناصرة لمتابعة الدراسة الثانوية فيما كانت المتخرّجة المتفوّقة تُرسَل إلى شفا عمرو فى فلسطين”.
الخال أيوب
تمضي نصرالله، متذكّرةً الشخصيات الأولى التي أثّرت فى حياتها وخياراتها، فتُفرد للخال أيوب حيّزًا فى تذكّرها: “الخال أيوب هو الوحيد من مدرسة القرية أُرسِل إلى الناصرة شرط أن يعود للتدريس فى قريته ومدرسته، لكنه حين أنهى دراسته الثانوية وعاد للوفاء بالشرط، كانت المدرسة قد أُقفِلت بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ممّا جعله يهاجر إلى أميركا ويعيش فى نيويورك، وكان قريبًا من الرابطة القلمية، كتب فى صحف عربية بينها “مرآة الغرب” التي كانت تصدر فى نيويورك فى ذلك الحين، وتكشّف عن وعي مبكّر بخطورة المشروع الصهيوني حيث كتب مقالاً يفنّد فيه وعد بلفور، أرفقه برسم كاريكاتوري تظهر فيه فلسطين على شكل حمامة، والصهيونية على شكل أفعى تحاول ابتلاعها. للأسف – تضيف نصرالله – أصيب الخال بمرض باركنسون العصبي، فعاد إلى الكفير، إذ كان بحاجة إلى من يعيله جسديًّا. هذا الخال هو مدرستي الأولى ومَن فتح عيني على معنى الكلمة. ثم فى ما بعد، هو مَن ساعدني للتواصل مع خالي الآخر توفيق، رجل الأعمال فى أميركا، بهدف الحصول على مساعدته فى متابعة دراستي الثانوية، إذ لم يكن فى القرية صف أعلى من الثالث الابتدائي”.
الخال توفيق
الخال الآخر، الذي كان له تأثيره فى حياة الكاتبة، هو توفيق الذي “اختير بدوره لمتابعة الدراسة فى الناصرة غير أن والده منعه بحجة أنه يكفى العائلة متعلّم واحد، وبذريعة الحاجة إليه لمساعدته فى “الرزقات”. “عندما طلبت مساعدته لمتابعة الدراسة”، تقول نصرالله، “بادر إلى إرسال شيك يغطي نفقات الدراسة فى المعهد الثانوي لأربع سنوات، وهذه الواقعة بقيت لغزًا يحيّرني لسنوات، إلى أن التقيتُ به فى أميركا لدى أوّل زيارة قمت بها، وكنت أحمل إليه سؤالي: كيف سارعت إلى مساعدتي وأخوتي وأنت من تعب وشقاء لتأسيس أعمالك فى هذه البلاد؟ تأمّلني لحظات قبل أن يجيب بأنّها لا تزال حسرة فى نفسه على رغم مرور السنين ونجاحه فى الأعمال أنّ والده حرمه من متابعة الدراسة”.
جدّتى تغرس الحكاية في
الشخص الآخر الذي كان له تأثيره فى نزوع الكاتبة المبكّر الحكائي هو جدّتها لأمّها. تعترف نصرالله، بفضلها بالقول: “كان هناك شخص آخر غرس الحكاية فيّ، وهي جدّتي لأمّي، وكنت أغفو فى حضنها وهي تروي. لها أنا أهدي الرواية الجديدة التي أكتبها حاليًّا”.. هذه الخلفيات هي فى جذور نشأة إميلي نصرالله كفتاة قروية عاشت مثل سائر الفتيات تعمل فى البيت كما فى الحقل، وأحيانًا كانت الأشغال شاقّة على تلك السن المبكّرة. وقد عرفت، بإيجابيّتها، كيف تستثمر هذه الخلفيات روائيًّا: “إنما أنا بطبعي إيجابية، وحوّلت هذه التجارب كلّها إلى مجرى الرواية، وهي ما أبقاني دائمًا على تواصل مع الطبقة الكادحة خصوصًا فى السن المبكّرة من العمر”.
“عديم وقع فى سل تين”
عن شغفها المبكّر بالقراءة، تقول: “حين دخلت الكلية الوطنية فى الشويفات، حضر معي جوعي المزمن للمطالعة، وصدف أن كلّفتني مديرة الكلية الأميرة أسمى أبي اللمع، الاهتمام بالمكتبة وأنا فى القسم الداخلي، فصحّ فيّ المثل الشعبي القديم: “عديم وقع فى سل تين”، فكنت أنفق كلّ أوقات الفراغ فى ترتيب المكتبة حتى إذا حان وقت النوم كنت أصطحب معي كتابًا خلسةً إلى غرفة النوم، وأغرق فى قراءته على نور السلّم المتسلّل من خارج الغرفة. فى تلك المرحلة، اغتنمت فرصة لم تكن متاحة لي من قبل، إذ كانت مطالعاتي الأولى قصاصات صحف، أو الكتاب المقدّس الذي لم أكن أفهم منه شيئًا. ولعلّي فعلت ذلك تعويضًا عمّا فاتني، حتى أنّي كنت أهرب من المشاركة فى الرحلات المدرسية وألجأ إلى المطالعة، ولم أكن أبالي بالقصاص الذي يترتّب على ذلك”.
الحبّ الأوّل
بعد تخرّجها فى الكلية الوطنية، كان على إميلي نصرالله، أن تخوض تجربتها العاطفية الأولى. عن تلك التجربة، تقول: “عدت أدراجي إلى القرية بهدف التدريس فى مدرستها. هنا، شاء القدر أن يتقدّم لخطبتي شاب محامٍ هو غالب الخوري، ابن أخي فارس الخوري من الكفير، رئيس وزراء سوريا فى حينه، ودامت الخطبة أحد عشر شهرًا قبل أن يُصاب بداء اللوكيميا القاتل. هكذا، عرفت صدمة قاسية لفتاة فى الثامنة عشرة من عمرها ممّا دفعني لأغادر القرية، وأعود إلى الكلية الوطنية للتدريس، حتى لا أسمع عبارات الشفقة من قبيل: “يا فقيرة، ويا مشحّرة، وشو هالحظ”. وأمضيت سنتين فى التدريس”.
الدراسة الجامعية
تُواصل إميلي نصرالله استعادة شريط الذكريات: “بعد ذلك، شعرت أنّي لن أكتفى بما حصّلته من الدراسة، فسعيت إلى الالتحاق بكلية بيروت للبنات، وأقمت فى القسم الداخلي من المدرسة الأهلية مقابل قيامي بالتدريس حصّتين اثنتين يوميٍّا. أمّا القسط الجامعي فكنت أجمعه ممّا يتوافر لي من كتابة المقالات والبرامج الإذاعية والتدريس الخصوصي، لكنّ القسط الأوّل، على ما أذكر، استدنته من زميلة فى “المدرسة الأهلية” هي المرحومة جليلة سرور”. تتابع شريطها بالقول: “بعد سنتين من الدراسة الجامعية، وكانت الجامعة فى حينه للبنات فقط، شعرتُ بحاجة إلى جوٍّ تكون فيه المنافسة أشدّ وأقوى، فانتقلت إلى الجامعة الأميركية حيث يختلط الجنسان. وهناك درست سنتين اثنتين لأتخرّج بشهادة بكالوريوس فى التربية العام 1958، فى تلك السنة كنت حاملاً بإبني البكر رمزي، إذ كنت قد تعرّفت إلى شريك العمر فيليب نصرالله، فقيل لي يومها إنني تخرّجت ب BA with baby بدلاً من BA with honor. خلال تلك المرحلة، كنت أكتب لمجلة “الصياد”، وأغتنم فرصة وجودي فى الجامعة لأحرّر موضوعات مستوحاة من الحياة الجامعية”.
حياة إميلي نصرالله الصحفية حافلة بالذكريات ولا سيّما خلال عملها فى مجلة “الصياد”.

التعليقات متوقفه