جريدة الأهالي تحتفي بالزعيم :صانع البهجة وحالة استثنائية ومتفردة في فن التمثيل

888

الزعيم عادل إمام..الغالب مستمر

 يحتفي موقع جريدة الأهالي بالفنان عادل إمام بوصفه حالة استثنائية ومتفردة في فن التمثيل؟ واستحق ما وصل إليه عن جدارة واستحقاق.. كرائد من صناع البهجة في عالمنا.. ولأنه ظل الغالب طوال الوقت استحق بقانون اللعبة أن يستمر ..

*بقلم أشرف بيدس :

في الفن هناك اتفاق غير مكتوب بأن من يتجاوز الستين يحال إلي أدوار الأب ورؤساء مجالس الإدارة وزعماء العصابات الغامضين ورجال الأعمال المتعثرين أو المتيسرين, أو تسند له مهمة الادوار الشرفية التي تهين تاريخه, ويضطر الكثيرون لقبولها لمجابهة الحياة ومتطلباتها أو عشقا للفن, والأمثلة كثيرة لا حصر لها, عماد حمدي الفتي الأول في عصر السينما الذهبي تسند إليه الأدوار الثانوية والمهمشة في آخريات العمر, وعندما يجد أدوار بها مساحات تمثيلية في “حب تحت المطر- المذنبون- ثرثرة فوق النيل- سونيا والمجنون” نري أداء عبقري واستثنائي يكشف عن ضيق أفق المعنيين بالأمر وللأسف لا ينتبهون.. 

زكي رستم في أواخر أيامه كان يعاني من التجهيل والنكران بكل روعته الأدائية التي لم يظهر من يضاهيها.. محمود المليجي العملاق الكبير اضطر أن يعمل في آخر أيامه باليومية فيلم (أيوب), ولولا عناية يوسف شاهين السينمائية ما رأينا (عودة الابن الضال- الأرض- إسكندرية ليه), يوسف وهبي الذي ملأ حياتنا ألق وأسطورية يظهر في مشهد من فيلم “السلخانة” لا يقدم لتاريخه شيئا بل يستغل اسمه الكبير علي أفيش العمل, فريد شوقي الملك بشعبيته الطاغية لو لم ينتبه ويكتب بنفسه لنفسه أعمال اجتماعية ما كنا رأينا الوجه الآخر من موهبته التمثيلية,  والأمثلة كثيرة وحزينة.. قليلون جدا  – يعدون علي أصابع اليد الواحدة- هم من استطاعوا أن ينجوا بأنفسهم من مقصلة العمر وما أحدثته من تهميش وقلة حيلة, والبعض كان لديهم ما يستر احتياجاتهم.. أما قوة الرفض فكانت حصانة لا يملكها سوي النجوم الشباب المطلوبين في السوق.. الاستثناء التاريخي كان عادل إمام, وليس هناك حالات مشابهة.

لا يمكننا أن نحكم علي مسيرة ممثل من خلال كادر أو لقطة أو مشهد أو فيلم أو موقف أو رأي.. المنطقي أن نجمل كل هذه الاشياء في نتيجة واحدة, هذا هو الإنصاف.. خصوصا وأن الكبار يتخلل مشوارهم كثير من الاحداث والأعمال والمواقف والصراعات والمنافسات والشائعات وأحيانا التنازلات التي يعاصرونها, مثلهم مثل الآخرين, وكل ما يهمنا في الأمر هو المجمل من هذه الحياة الفنية,  حتي الإخفاقات التي تحدث بين الحين والآخر، يتم التجاوز عنها عبر تكاثف النجاح والاستمرارية.

بدأت نجومية عادل إمام تتبلور في بدايات السبعينيات بعد عدة أدوار ثانوية وفي هذه الآونة ظهر نجوم شباب يتحسسون طريقهم نحو القمة : عزت العلايلي – نور الشريف- محمود يس  – حسين فهمي, بعد تراجع جيل كان يحتل المشهد مثل : رشدي اباظة- أحمد رمزي- صلاح ذوالفقار- أحمد مظهر  – كمال الشناوي وغيرهم), ومع بداية الثمانينيات ظهر جيل آخر بدأ يتجه بخطي ثابتة وأدوار جيدة ناحية النجومية  محمود عبد العزيز  – يحيي الفخراني- محمد صبحي  – فاروق الفيشاوي  وأخيرا أحمد زكي, ونجحوا في مزاحمة الكبار علي أفيشات الأعمال, والجميع بما فيهم عادل إمام كان ينحت طريقه ويرسم مستقبله, في “رحلة الصعود إلي النجومية”.. ربما كان عادل إمام بعيدا عن منافسة هذه الأسماء لأن ملعبه كان الكوميديا, وكان هناك جيل صاعد تمثل في سعيد صالح- أحمد ماهر “تيخه”- والثلاثي (سمير- جورج  – الضيف) بدأوا جميعا في نفس التوقيت, وظهروا معا  نتيجة خفوت وهج عبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس ومحمد عوض بسبب تقدمهم في السن وعدم قدرتهم علي تجسيد كل ما يعرض عليهم وخصوصا الأدوار الشابة بعد ظهور هذه المواهب الجديدة, لم يستمر  أحمد ماهر وسافر  إلي أمريكا, وبعد عدة سنوات انفرط عقد الثلاثي برحيل الضيف واستقلال سمير ومرض جورج. وبقي عادل وسمير وسعيد يتصارعون علي عرش الكوميديا حتي حسم الأمر في أوائل الثمانينيات لصالح عادل إمام.

البداية كانت في عام 1964 من خلال دور “دسوقي افندي” والذي جسده أيضا علي المسرح في نفس العام، وكانت طلته تنبئ بقدوم كوميديان يملك حضورا وخفة ظل وأدوات مختلفة، ويبدأ الغيث, فكان عليه أن يحدد ملامحه الكوميدية وشخصيته الفنية، وقد ساعده علي ذلك وطور من قدراته وامكاناته المخرج فطين عبد الوهاب الذي تنبه لموهبته فأسند إليه العديد من الأدوار التي وضعت قدميه علي الطريق, ومن بعده كان نيازي مصطفي وفي مرحلة لاحقة محمد عبد العزيز, ثم سمير سيف وشريف عرفة وهكذا، دائما هناك أسماء وضعت بصماتها علي مشواره, والأمر لا يتوقف علي المخرجين, بل لعب المنتجين والمؤلفين أدوار مهمة في دفعه نحو القمة, ومثلوا محطات مضيئة في مشواره الفني العريض والمثمر.. ساعدوه وعاونوه, لكن مع اكتمال التجربة ونجاحها وتفردها, أصبح عادل إمام محطة مهمة في حياتهم الفنية.

“عافر” عادل إمام في الحياة انتصرت عليه وانتصر عليها، لكنه أتي بما لم يستطع غيره اتيانه.. وهنا لا نستطيع الهروب من سؤال أطلقه الناقد سامي السلاموني: هل كان يستطيع عادل إمام أن يستغل كل هذا الاحتفاء الجماهيري الطاغي في تغيير واحداث انقلاب في صناعة السينما بتقديم أشكال فنية متعددة متسلحا بتلك الجماهير الغفيرة؟ والإجابة هنا لا تقبل نعم أو لا.. لأن الحسبة مع نجم جماهيري تختلف في الطرح والجمع, ولا سيما أن عادل إمام نفسه كان يقابل هجوم النقاد عليه بمقولة ظل يرددها, “الفيصل بيني وبينكم هو شباك التذاكر”. والمجازفة التي تضمنها السؤال أمرا في غاية الصعوبة علي نجم لم يسمع سوي تصفيق الجماهير.

في حوار صحفي لمجلة “الوسط”  لاحظ إبراهيم العريس (الصحفي اللبناني والمحاور) رقم مكتوب بقلم فحم على مرآة الماكياج في غرفة عادل إمام بالمسرح اثناء عرض مسرحية “الزعيم”.. والرقم هو 3.410.000. وعندما سأله عن هذا الرقم؟  أجاب: “انه عدد الناس الذين شاهدوا فيلم “بخيت وعديلة” حتى اليوم”. ثم أضاف “منذ اللحظة التي صرت فيها سيد أعمالي صار أول ما يهمني هو إيراد شباك التذاكر.. انظر إلى هذه المرآة لقد كتبت عليها عدد حضور فيلمي الأخير، ولم أعلق آراء النقاد ليس لأنني لا احترم تلك الآراء، فأنا احترمها مهما كان توجهها، بل لأن أول شيء أحب ان اطمئن إليه هو إقبال الجمهور. هل لا يزال الجمهور واثقاً بي أم لا؟ هل سيواصل انفاقه عليّ ام لا؟ هناك نقاد كثيرون هاجموا افلامي، ولكن الجمهور كان غالباً ما يخيّب آمالهم ويقبل على تلك الافلام”.

هل دور الفنان هو التوعية أم التسلية؟.. البعض يقول : حسنا إذا كان الفن توعية مغلف بالتسلية, وآخرين يقولون : الافضل أن يكون تسلية مغلفة بالتوعية.. وقلة يريدون واحدة فقط دون الأخري.. وقبل الاجابة بهذا أو ذاك, نري أنه من المنطقي أن نسأل سؤال آخر: ما الذي يدفع الناس لمشاهدة عمل فني؟,  قضاء وقت ممتع.. شغل وقت فراغهم.. سعيهم للخروج من كبت الحياة ومشاكلها.. الضحك.. توقع حلول لأزمات يعيشونها.. التخلص من الشحنات السلبية.. الاعجاب غير المشروط بنجم أو نجمة.. التهكم علي العمل والسخرية لتفريغ الاحباط.. العادة.. التظاهر.. الهواية.. التشبه بالآخرين.. الابحار في شخصيات خيالية والذوبان معها.. ترقية مشاعرهم.. الثقافة .. التعرف علي أنماط مختلفة من البشر قد لا يصادفونهم في حياتهم.. ارتباط أرزاقهم بهذه الأعمال, أم أشياء أخري, والاجابة النموذجية هي كل ما ورد ذكره من إجابات مختلفة لأشخاص مختلفين, وفي هذه الإجابة تكمن إجابة السؤال الأول, وهو أن الفن تسلية ومتعة, ومن يريد التسلية فليتسلي.. ومن يريد التوعية فليتوعي.. وكل الأشياء نسبية, وليس هناك قانون يلزم المتفرج بالكشف عن نواياه, والمهارة هي أن تكون رسالة العمل الفني غير مباشرة وذات تأثير يزداد مع التراكم والتكرار والتعلم.. وحتي لا نهرب من الإجابة علي سؤال سامي السلاموني.. نعم كان يستطيع.. لكن الصورة كانت حتما ستكون لها تفاصيل أخري لم يكن يرغبها عادل إمام!!

هناك مقولة تقول “أن الكوميديا عمرها قصير لأي نجم مهما علا شأنه واكتملت موهبته” وهو أمر لو طبقناه بالأرقام والحسابات والسنوات سيتضح مطابقته لكل الحالات الكوميديا في الشرق والغرب, حيث لم يصمد نجم كوميدي في التاريخ أكثر من عقد ونصف العقد, خمسة عشر عاما علي أكثر تقدير باستثناءات قليلة, وتأتي النهاية أما بخفوت نجمه أو بالاعتزال, عدا ذلك لا تملك الذاكرة أسما واحدا.. لكن عادل إمام غير تلك المفاهيم الراسخة وضرب نموذجا استثنائيا في الصمود.

مثلت الأجيال الجديدة آلة كاسحة لكل الأسماء الكبيرة التي احتلت المشهد الفني, فلكل جيل نجومه الذي تلتف حولها الجماهير وتدعمها وتساندها.. ومنذ نجيب الريحاني وإسماعيل يس وفؤاد المهندس وسمير غانم وسعيد صالح ومحمد هنيدي وأحمد حلمي وأحمد مكي حتي علي ربيع ونجوم مسرح مصر, هناك جيل يسلم الراية للجيل الذي يليه.. لكن عادل إمام منذ أن صعد لم يبرح مكانه, ليس لأنه النموذج, وإنما لأن الجماهير أرادت ذلك ورفعته علي أعناقها, حتي مع كتابة المانيشتات الصحفية التي تعلن مع كل وافد جديد قرب نهايته.. وفي كل مرة تخيب توقعاتهم وينتفض من جديد بأعمال يلتف حولها الناس..

تسلح عادل إمام بالصلابة وخطط بوعي علي أن يكون رقم واحد أو علي الأقل يكون مختلفا عن الآخرين, وهناك واقعة يحكيها سمير خفاجي إن عادل إمام منذ أن رفض، وكان لا يزال جديداً، ان يلعب دوراً لم يستسغه في مسلسل “الفوازير” فيما رضي كل زملائه الناشئين تأدية الادوار التي عرضت عليهم مهما كان شأنها، كان من الواضح انه انما يعدّ نفسه لكي يكون نجماً كبيراً.. كما أن القبول الذي تمتع به من قبل الجماهير جعله عاشقا لفنه ولم يمتهن نفسه في يوم من الأيام” , هكذا يتضح أن الأمر لم يكن عشوائيا, بل كان مخططا له, وحتي يحتل هذه المكانة كان لابد أن يتسلح بقدرات متفردة وألا يشغل باله بالآخرين وسباقهم وأفلامهم, وأن يخلق سمات خاصة ومواصفات لا تقترب من بعيد أو قريب بما تملكه الأسماء الموجودة علي الساحة التي لديها من الوسامة والموهبة ما يجعلهم الاختيارات الأولي عند المخرجين والمنتجين وحتي عند البطلات, لكنه تمهل ولو كان فعل مثلهم وأرتضي بمكانة دافئة وسط هذه الأسماء لسقط سريعا, أو علي أفضل تقدير لتواجد دون علامات فارقة وهو أمر لم يبتغيه.. كان يرغب أن يكون مختلفا, وهو ليس الأكثر موهبة أو وسامة أو نفوذا أو علاقات, لكنه أدار موهبته بحرفية عالية، وقبل كل ذلك آمن بها.

حرص عادل إمام علي مد الجسور بينه وبين عدد كبير من الكوميديانات الجدد  اللذين احتلوا المشهد الكوميدي, حتي بات من النادر أن تجد نجما من هؤلاء لم يرشحه عادل إمام في عمل من أعماله, وفي المقابل حرصت الصحافة الفنية علي تأجيج الخلاف بينهما من أن وجودهم يهدد عرشه, ويتساءل بدوره “انا عايز أعرف هو ليه كل ما يطلع شاب جديد موهوب يقولوا هو ده اللي هيخلص علي عادل إمام.. المسألة دي بتحصل من أيام محمد صبحي، في البداية كنت اتضايق جدا، أما الآن فأكون في منتهي السعادة، لأن عادل إمام أصبح هو الثابت الذي يقيمون علي أساسه”.. ثم يضيف “منذ السبعينيات وحتي الآن لا يوجد سوي خمسة أو ستة نجوم في الكوميديا.. ولا يمكن أن يستمروا، فلابد من الجديد.. وبصراحة عندما ظهر الجيل الجديد، كانت مواجهة قوية.. لكن البعض قال أن عادل إمام كبر وعجز، لدرجة أنهم كانوا يرغبون في أن أكون مثل “زكي ابراهيم” افارق الحياة قبل أن يبدأ الفيلم.. البعض يحتار في الامر كيف يمكن لإنسان أن يستمر في النجاح لفترة طويلة.. وهم لا يفهمون أن هذا نتيجة حبي الحقيقي لفني ولبلدي ولناسي ولثقافتي.. أنا لا اجيد شيئا إلا التفكير في الفن”.

في  الفن أما أن تكسب السلطة وتخسر الجماهير, أو تكسب الجماهير وتخسر السلطة, الأثنان معا أمر شبه مستحيل ونتيجة لم يصل إليها فنان من قبل, خصوصا في تعاقب سلطة بعد أخري.. حاول البعض أن يرضي الجماهير علي حساب السلطة, وعندما فشل حاول أن يشاكس السلطة, أو يرضي السلطة, وعندما لا تبادله الرضاء ينقض عليها, وكثيرون احتاروا ما بين السلطة والجماهير فخسروا الأثنان.. والبعض ظن أنه أكثر دهاء فحاول تطويع السلطة والجماهير فكشف أمره, قليلون جدا الذين قالوا كلمتهم للتاريخ وحافظوا علي دفء العلاقة مع جماهيرهم وأولي الأمر, وكان من هؤلاء عادل إمام الذي لم ينفي تأييده للنظام, وفي نفس الوقت كان يحشو أعماله بصرخات مكبوته يطلقها البسطاء  الذين يعانون من فساد  وازدواجية الانظمة التي اعتلت السلطة.

حاول البعض اتهامه بأنه فنان السلطة فجاء رده : أقول ان الذين يتهمونني بالتواطؤ مع السلطة، عليهم ان يشاهدوا مسرحية “الزعيم”.. انا لا يمكنني أن أكون مشاكساً ضد طرف يخطئ ثم اسكت عن طرف آخر يرتكب الخطايا.. أنا واحد من أبناء الشعب..انا أعبر عن البسطاء وعن رأيهم وعن فكرهم. انهم يسكنون أعماقي. يعيشون في داخلي وأشعر انني أعيش في داخلهم, والشعب هو من دفع تكاليف كل ما املكه”.

لذلك لم يكن غريبا أن نكتشف أنه الكوميديان الوحيد في العالم الذي صنعت له كتب تهاجمه وتنتقد أفلامه, وأخري تمدحه وتثمن عطاءه.. غالي البعض في قدحه ففقد موضوعيته, وبالغ البعض في مدحه وفقد صوابه, وقليل كان محايدا ومتزنا,  وهو أيضا الكوميديان الوحيد في العالم الذي أخذ كل حقوقه كاملة دون نقصان.. وكلمه “حقوقه” مقصودة, لأن ما أخذه كان يستحقه. وهناك أيضا ممثلين أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه, وهذه حقيقة, ونزيد إن عادل إمام لم يكن الأكثر موهبة والأكثر إجادة والاكثر إبداعا.. بل هناك العديد منهم علي نفس المسافة من الإبداع والتوهج..

في صراع طويل مع الجماهير والنقاد انحاز عادل إمام للجماهير, كل طرف يريده معه, يؤمن بما يؤمن به, ويكفر بما يكفر به, ولا فصال.. أما أبيض أو أسود.. لكن “لعبة الغالب مستمر” دفعته للاحتماء بالجماهير, واختلفت الآراء حوله حتي بين المتخصصين في الصناعة, والاكثر غرابة أن يكتشف المدقق أن القدح والمدح تجاورا وتلازما عند الحديث عنه وربما في فقرة واحدة وصفحة واحدة ومقال واحد..  كان هناك من يميل ناحية أحمد زكي عملاق من عمالقة التمثيل طور في مهنة التمثيل وبرحيله لم نشهد تطوير يذكر.. وهناك من عشق أداء نور الشريف كمثقف كبير وفنان أكبر عاني كثيرا من مواقفه السياسية والعروبية وقدم أعمالا رائعة لم يقترب منها أحد.. والبعض فتن بمحمود يس الذي ظلمته الأفلام الرومانسية ولم تكشف عن مخزون مواهبه وقدراته التمثيلية الرهيبة..  وكثيرون كانوا ينتظرون طلة محمود عبد العزيز بصرف النظر عما يقدمه, متيمين بطريقة أداءه السهلة والمبتكرة والمتوافقة مع خصائصه وسماته, وكثيرون كانوا يروا أن سعيد صالح أكثر قدرة علي الاضحاك من عادل إمام, أو كما وصفه محمود السعدني “يقدر يضحك طوب الأرض”. والبعض أخذ موقف من عادل إمام لكونه أشهر مشهور وسط هذه النجوم, ورأوا أنه لا يحتاج للمزيد.

قرأت ذات مرة  في مجلة يسارية تحليل نقدي حول فيلم “اضحك الصورة تطلع حلوة” للعظيم احمد زكي..  كتب الناقد يقول “أن عادل إمام لو كان قام بتجسيد الشخصية التي لعبها أحمد زكي لكانت النتائج كارثية!! لإنه كان سيفرغ  الشخصية من مضمونها الاجتماعي والانساني, وراح يعدد مثالب عادل إمام الذي لم يجسد الشخصية, ونسي الاحتفاء بأحمد زكي في غمرة هجومه!!, هناك نقاد عظام كبار أوسعوه نقدا مباحا حلالا كان يستحقه عن جداره, وهناك من تربص به.

عادل إمام حالة استثنائية حاربت وكافحت وناضلت واستوحشت في بعض الاحيان لتحافظ علي ما حققته.. ولأن ما حققه لم يسقط عليه في لحظات الخمول والاستسهال, بل جاء نتاج جهد ومعاناة , كما يوصف في إحدي حواراته “أنا من الذين حفوا وتعروا وداسوا على الشوك وتمرغوا فى أقصر الأدوار وعاشوا على فتات الجنيهات حتى وجدت طريقى وظهرت”.. أن كل من اقترب من عادل إمام اصابته عدوي النجاح والأضواء.. وكل ما ابتعد عنه انحسرت اضواءه في محيط ضيق لم يصل إلي تلك المناطق الرحبة الذي ظل ينعم بأنوارها, في الوقت الذي لم يصمد كثير من النجوم لأسباب مختلفة، خصوصا بعد تقدم العمر, وبقي هو في لعبة “الغالب مستمر” يختار أدواره بعناية ويدقق في كل كبيرة وصغيرة..

عادل إمام.. ليس جملة عابرة في حكاية الفن.. بل نستطيع أن نقول أنه حكاية متفردة ومنفردة.. لذا يستدعي الانصاف عندما نكتب عنه أن ندقق جيدا في كل كلمة, ليس لأنه أسهم اسهامات كبيرة بأعمال عظيمة في صناعة السينما.. ولكن لأنه أحدث عدة انقلابات في صناعة السينما غيرت كثيرا من المفاهيم الثابتة والسائدة في مسألة النجومية علي كافة الأصعدة, سواء شكلا أو موضوعا.. ونزعم أن كثير من أعماله لو كانت اسندت لغيره من الممثلين ما كانت حققت كل هذا النجاح.. ليس لكونه أكثرهم موهبة, لكنه تمتع بقبول وحب جماهيري جارف, حتي ظن البعض أن هناك اتفاقا مكتوبا بين عادل إمام والجماهير علي أن يظل يقدم لهم أعمالا فنية, وأن يدفعوا في مقابل ذلك حبا والتفافا حتي وأن شابت بعض هذه الاعمال أي شائبة ما.. فما يقبلوه من عادل إمام, لم يقبلوه من فنان آخر..والأمر ليس له تفسير فني.

كان يستلزم هذا الصمود قدر كبير من الثقافة والوعي, فأقبل علي القراءة بنهم شديد, وبرغبة في المعرفة وقد فتحت له مسارات كثيرة في التفكير والرؤي فبدا جاهزا متسلحا يملك وجهة نظر فيما يحدث حوله, نعم كان محظوظا, وساعدته الظروف مرة ومرتين وعشرون,  لكنها لم تساعده مائة وعشرون مرة, فالأمر اذن لا يمت بالحظ في شيء, أنه أسلوب عمل ومهارة, لم يكن خافيا عليه أن قطار الشهرة ينطلق بسرعة فائقة مستقطبا حوله الأضواء من كل جانب, وكما يقول العظيم شابلن “لقد كان النجاح مدهشا, لكنه كان يستتبع جهدا للحاق بايقاع تلك الحورية الخائنة التي تسمي الشعبية”, وأرتأي عادل إمام أن الاستمرار للحفاظ علي هذه الشعبية لابد له من جهد ورؤية مغايرة فكانت القراءة سبيله وملجأه والعمل ملاذا حتميا لا رفاهية فيه.. وإن كان الأمر بدأ مبكرا, ففي إحدي حواراته يقول” عندما كنت اذهب لشراء الجبنة من عند عم جودة البقال في الحلمية.. كان الرجل يلف الجبنة في ورق مجلات.. وكنت اقوم بقراءة المكتوب علي هذا الورق”.. ثم أضاف “ليس المهم القراءة فقط, ولكن الاهم هو استيعاب ما تقرأه”.. وضرب مثال علي ذلك قائلا : “أن طه حسين عندما اتي من مونبيليه  عام 1919 دارسا الحضارة اليونانية القديمة والديمقراطية عند الاثنيين.. وكان يقول ان المثقف لابد أن يصل للناس وأن يستغل ثقافته في التأثير في الناس”.

عشق القمة وعشقته, وأصاب كل من اقترب منه بعدوي التميز والاجادة ومثلت أعماله جسرا عبر عليه عشرات المواهب في مهنة التمثيل والإخراج والتأليف, ولم يخضع الامر يوما للمجاملة والاعتبارات الشخصية “في الفن لا أجامل أحد من أجل سواد عينيه, أو لكي أكرمه.. أنا أكرم الفن عندما اختار فنان ملائم للدور”, وهو الأمر الذي يطبقه علي نفسه فكثير من الأدوار الجيدة كان لا يري نفسه ملائما بها مثل “سواق الأتوبيس” لنور الشريف, و”الكيت كات” لمحمود عبد العزيز, و”البيه البواب” لأحمد زكي فقد سبق ترشيحه لها, لكنه رفضها جميعا, ومثلت محطتين هامتين في تاريخ الأول والثاني نالا عنهما جائزتين في التمثيل, أما الثالث فقد حقق نجاحا جماهيريا كبيرا.

من يصنع خلود الفنان؟ هل مواقفه السياسية، فنه، ذكاءه، حياته الخاصة، أصدقاءه، السلطة، الجماهير؟ الحقيقة ان من يصنع خلود الفنان هو ما يتبقي منه بعد رحيله، ولا يؤثر شيئا مهما كانت توابعه علي مسيرته الفنية، دائما يبقي الشريط الفني, ماذا قال وفي أي وقت قيل؟.. كثيرون من الفنانين الذين رحلوا حيكت حولهم حكايات كثيرة اندثرت في غياهب الأيام، وظلت أعمالهم هي من تحدثت عنهم. لذلك ستبقي أعمال عادل إمام هي التي تتحدث عنه, الحصيلة النهائية تقول أنه الأول والأخير حتي يظهر من يحل محله، يكفيه انه حالة متفردة في واقع امتلأ بالمتشابهات، قد تكون الظروف ساعدته وهو الأمر الذي كان متاح للكثيرون من أبناء جيله والأجيال التي سبقته والأجيال التي تلته.. لكن كل هؤلاء عند وقت معين لم يتحركوا خطوة واحدة للأمام، البعض وقف مكانه.. وآخرين تراجعوا للوراء.. كانت طلته آسرة عفية استقطبت كل التوهج حتي غشيت الرؤية عن الآخرين ممن وقفوا حوله, لو كان تقاعس أو تمهل لخطف الآخرون كل التوهج, وسرقوا كل الألق, وهي جرائم مباحة في الفن, لكنه ظل يعمل ويعمل, قانون اللعبة فرض عليه شروطها القاسية وامتثل لها لأنها كانت خياره. ولو كان سقط مرة واحدة ما قام حتي بالطبل الافرنجي.. فمثلما كان هناك من ينتظر طلته ليسعد بها.. هناك أيضا ما كان يعد أدوات التعذيب والركل والردم في حال سقوطه.. لكن الله حفظه.

لم يأت عادل إمام من كوكب عطارد إلي كوكب الأرض علي متن الصاروخ من SpaceX  .. فهو ابن للحارة المصرية بحداقتها وصياعتها وفهلوتها وجدعنتها ولغتها الشعبية ومصطلحاتها وألفاظها وإشاراتها.. وأيضا بحلو كلامها الذي لا نظير له في القواميس اللغوية, أبن للحارة الطيبة والغاضبة.. يكفيه أن ينظر في عين محدثه ليكشف عن نواياه الأولي, حتي ومن خلال تصافح الأيدي.. “حوارتجي” يتأفف من القمامة لكنه يعرف تفاصيلها.. خبر الأزمات وشظف الحاجة والحرمان التي لم يقرأ عنها في مآسي مكسيم جوركي, أو روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس.. بل تعامل معها وعايشها واستخدم مفرداتها في الأفراح والاتراح.. وفي الحلمية اختلط بصنوف شتي من البشر شكلت وعيه الشعبي وحسه الإنساني.. لذا كان يدرك أن كثيرون أسكتثروا عليه ما وصل إليه.. وفطن لعبارات خبأت بين السطور والحدقات.. وظل حريصا علي ألا يمكن أحدا منه.. وفلح..

شهدت أعمال عادل إمام الدرامية الأخيرة تراجعا, ولم تلق هوس الشعبية الذي كان متاح من قبل بوفرة رغم عمق موضوعاتها، وشهدت الساحة ظهور نجوم جدد، لكنه رغم ذلك ظل يعمل ولم يتنازل عن تفصيلة واحدة، بل قد يكون غالي في بعضها في وقت رضخ فيه الجميع.. كان حريصا أن يحافظ علي كرامته الفنية ويدافع عنها أحيانا بعنف شديد.. كان يدرك أن تهاونه سيلقي به في قاع سحيق, وستلقي عليه الأحجار بدلا من الورود.. أن سر بقاء عادل إمام كل هذه السنوات أنه حصن نفسه من التنازل والانكسار.. عندما سئل ذات مرة: هل وافقت على تخفيض أجرك مع الازمات التي كانت تتعرض لها السينما؟ .. قال: “طبعا لا.. المسئولون عن نكسة السينما المصرية هم المطالبون بخفض أجورهم، وبصراحة أنا أرفع أجري مع كل فيلم جديد”.

استفاد عادل إمام من كل الظواهر السينمائية ولعب عليها بذكاء وحنكة وألتهم افضل ما فيها, وغض النظر عن أسوأ ما فيها, وظل يعدو تحيطه بعض الأسماء اللامعة والموهوبة.. لم يتنازل عن موقعه في الترتيب مهما كانت المغريات, تزاوج النجاح والجماهيرية ودافع عنهما بكل قوة وأحيانا بعنف, ولم يستسلم, كان يدرك أنه وظيفته الاولي هي صناعة الضحك, ونجح في ترويجها في طول الارض وعرضها.. حتي عندما بارت هذه السلعة عند الكثيرون وخشيوا علي أنفسهم من الإفلاس.. أرتضوا بالاتجار في سلع أخري حتي يمكنهم الاستمرار علي الساحة الفنية فشوهوا دون قصد مسعاهم, لكن عادل بحث عن طرق جديدة للعرض والاعلان لسلعته التي يعشقها, ولم يمنعه ذلك من المزج أحيانا لتقديم منتج فني متكامل. ولو كان فعل غير ذلك, ما وصل لما طمح إليه, رغم تقديرنا الكامل لكل آراء النقاد والمتخصصين..

أن الجماهير التي احاطت بعادل إمام منذ سنوات عديدة وحتي آخر أعماله لم تكن تحاول أن تجيب عن اسئلة فلسفية أو وجودية, او كانت تبحث عن مفهوم واضح لتناقض الإنسان حول ذاتيته وحريته, بل كانت تسعي للضحك والمتعة والتسلية,  والخروج من أزمات الحياة ولو بشكل مؤقت, فكان ضروريا أن يكون الفن أداة لتبسيط الحياة دون الدخول في مصطلحات وتفسيرات معقدة.. رفع عاد إمام شعار “اللي تغلبه ألعبه” وفق مقتضيات كل مرحلة عمرية وفنية, ورغم وجود  أفلام دون المستوي, لكن ذلك لم يوقف سعيه فقد كان يدرك منذ وقت مبكر أن رجوعه خطوة واحدة للوراء سيقذف به في غياهب ظل لا تشرق فيه شمس النجومية مرة أخري.

استغل عادل إمام موجات تدني السينما في انتاج أفلام للتسلية, وقدم بعضا من هذه الافلام, وعندما اشتدت سواعدها كان في أول الصفوف بأعمال حملت قيم اجتماعية وأبعاد سياسية واقتصادية..  لم يرضخ عادل إمام سوي لرغبات جماهيره وضميره الفني, كان يملك سر خلطة النجاح, وكان انتقاله من فيلم إلي فيلم آخر شغله الشاغل الذي حرص علي ديمومته, فكلما كان في حالة عمل مستمرة حافظ علي وجوده علي الساحة، لذا صادقه النجاح, ولم يقبل بغيره, ظل وفيا لقراءاته الفصيحة للمشهد السينمائي, وكلما كانت رهاناته تحقق ما راهن عليه, كان يثق أكثر وأكثر في رؤيته وأفكاره.. ولم ينجرف يوما وراء أهواء البعض من التجريب, فما كان يملكه من شعبية جعله يدقق في الخطوات التي يخطوها ولا يفتح المسافات بقدر لا تستطع قواه علي الاستمرار, لم يلتفت لكل ما كان يقال, وأيقن أن توالي الادوار لا يعني سوي النجاح, لذلك كان معياره للحكم علي موهبته هو تنامي الادوار أو شحها.. وعندما استطاع أن يؤسس قاعدة ثابتة صلبة, كان له الرأي والمشورة والاعتراض والموافقة والسماح.. لأن اسمه اصبح يحمل الفيلم بكامله.

 الكلام لن ينقطع عن عادل إمام .. وستكتب صفحات أخري تروي حكايات كثيرة عن مسيرته واسهاماته المتنوعة، ورغم ما حققه لم تكن الساحة ممهدة لاستقباله وحمله علي الأعناق من أول طلة، بل استلزم الامر كثيرا من الكفاح والشقاء وسط مجموعة من الموهوبون احتلوا أماكنهم وكأنهم أعمدة خرسانية ضاربة في قاع الأرض وعمق التربة الفنية، ولم يحاول أن يزحزح أحدا من مكانه، لكنه راح يفتش عن فرصة للانطلاق حاول أن يجد له مكانا مميزا وسط هذه القامات مستخدما أدواته الخاصة والتي لم تشبه أحدا سواء في المسرح أو التليفزيون أو السينما ومن خلال أدوار صغيرة وهامشية، لم يغامر بمسك أحد الخيوط المتدلية من تلك الاسماء الكبيرة التي كانت تصول وتجول، وراح يبحث لنفسه عن شكل جديد ومدخل لم يقترب منه أحد متوافقا مع تكويناته اللفظية والحركية والبدنية، فسك لنفسه عملة متفردة صعب علي الآخرين تقليدها أو اختراقها، واستطاع أن يحصل علي أعلي الاجور بعدما حصدت أعماله أكبر الايرادات, وتوقع الكثيرون وعلي فترات متقطعة بأفول نجمه, وأعلن الكثيرون أن تقدم العمر سيفقده التوهج خصوصا مع ظهور وجوه واعدة حملت سمات عصرها, لكنه استطاع أن يعبر بسفينته إلي مناطق آمنة بتقديم الجديد والحرص علي ألا يكرر نفسه, واستطاع ابن «الحلمية» بعد سنين من الكفاح والنضال والعمل الشاق أن يصبح من سكان «المنصورية،» بجهده فقط ودون واسطة أو محسوبية.

بقي هو في مكان متميز، وأن يكون النجم الاكثر شعبية، حتي في فترات الخمول الانتاجي لم يتنازل عن جنيه واحد من أجره لثقته بأن أفلامه تدر ارباحا طائلة علي منتجيها، ورغم ان بداياته كانت مع نجوم كبار واقتصرت مشاركته علي مشاهد قليلة ومتفرقة، توالت السنوات وتعاقبت ليحتل اسمه الافيش وتتزيل تلك الاسماء أماكن أخري اقل تميزا, كما تميزت اعماله بالجرأة وكشف المستور في كثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية التي تلقي بظلالها علي المواطن البسيط.

التعليقات متوقفه