أشرف بيدس يكتب :نادية لطفي.. الراقية

899

*بقلم أشرف بيدس:

هناك أسماء عندما يحاول القلم أن يكتب عنها, فإن الأمر يستدعي مزيدا من الانضباط والحرص, فالعبارات المحفوظة المتداولة والكرنفالية وإن ضوت وغلبت الضوء فهي ممنوعة من المرور, ولا تليق بقيمتها الفنية والانسانية, لا مزايدة ولا مجاملة.. نحن في حضرة نادية لطفي, وتاريخها يكفي لنكتب بحروف واضحة ووقورة.

تاريخ فني ناصع, ومواقف انسانية ووطنية تشرف الفن, ولا تدعي البطولة والمزايدة, لواحدة من صاحبات وجهات النظر والرؤية الثاقبة غير السائدة, وهو ما انعكس علي أعمالها العديدة التي تناولت انماط عديدة من المرأة المصرية في مختلف طبقاتها الاجتماعية, في “قاع المدينة” ليوسف أدريس, جسدت دور الخادمة “شهرت” بأداء شعبي وتلوين صوتي منكسر يكشف عن بيئتها وآلامها التي تعانيها, ولا يخفي تطلعاتها في تغيير الواقع بأي طريقة, وفي “قصر الشوق” لنجيب محفوظ كانت “زوبة” العابثة التي رغبت في الستر المتواري خلف الجدران, في مشاهد استثنائية خرجت بها من عباءة الخجل لآفاق واسعة من الموهبة والاحترافية وبعيدا عن المقارنات لا نجد افضل من يتصدي لهذا الدور بكل تفاصيله الحسية والانثوية والادائية والخروج من كادرات الرقة والخجل حيث الجموح الذي لا يوقفه شيء أو يحد من انطلاقه اي عائق, وعلي حد قول سميحة ايوب ” دور مركب وصعب اجتازته بمهارة”, ونؤكد بأن الدور يحتاج إلي أكثر من مشاهدة لاكتشاف قدرات نادية لطفي التمثيلية, ثم “بسيمة” في “الأقمر” بائعة البرتقال والتي ظلت تقاوم موجات الفقر وهي تري سقوط كل من حولها بحثا عن الأمان بأساليب غير مشروعة, ولا ننسي “قشطة” بائعة الكازوزة  في “ايام الحب” التي تصبح تتحدي الظروف بدافع الحب نوتتحول إلي نجمة سينمائية, أدوار عديدة تصدت لها واستطاعت أن تقدمها بشكل مغاير حفظ لها التفوق والتميز. وهي أيضا “لويزا” الفارسة الصليبية التي تعاطفت مع العرب في “الناصر صلاح الدين, ثم “مادي” الفتاة المستهترة في “النظارة السوداء” لاحسان عبد القدوس, و”لولا” في “الاخوة الاعداء” في دور استثنائي وجرئ يتفوق علي كل النسخ الاجنبية التي تناولت “الأخوة كارامازوف” من خلال دور “جروشينكا” للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي.

كان من السهل أن تستغل الجميلة نادية لطفي ملامحها في نوعية أدوار معنية, وكانت جديرة بذلك, لكنها لم ترضخ للنمطية, ونجحت في عبورهذا المأزق باداءات رائعة ومن دون الوقوع في مصيدة التكرار, لذلك كانت جرأتها في قبول أدوار لا تتوافق مع خصائصها الشكلية تحديا نجحت في اجتيازه, ولم تكتفي بذلك بل كان التنوع والاختلاف اسلوبا امتهنته في أعمال كثيرة ومن دون الارتكان للعب في المضمون, أو كما يرغب الاخرون في رؤيتها.

ليس صحيحا أن نادية لطفي لم تنصف سينمائيا, فأعمالها تؤكد أنها متفردة في اختياراتها, ولديها رصيد متنوع, وإنها تحلت بالشجاعة والجرأة في تغيير جلدها التمثيلي بصورة لم تخلو من المغامرة وكأنها تعلن في تحدي أنها ستفعلها, وتفعلها..  لم تسعي نادية لطفي إلي الكم نتيجة حرصها لقيمة الدور, وهو ما جعلها ترفض كثيرا من الأعمال السينمائية عندما كانت تري أنها لن تضيف لرصيدها شيئا,  والقائمة طويلة والتي اتاحت للبعض فرص الانطلاق والظهور في أدوار كانت مرشحة لنجمة بحجم نادية لطفي, حيث كانت تري أن السينما هي انعكاس للانسانية بكل معانيها الجميلة, وليس لرصد حالات هنا وهناك, وأن الأدوار المتشابهة مضيعة للوقت وخداع للجماهير وللوقت.

لم نري في تاريخ السينما المصرية “فيديت” شقراء, ارتدت “بدلة رقص” في كباريه درجة تانية, واستطاعت أن تقنع الجميع, لذلك فإن “فردوس” في “أبي فوق الشجرة” مثلت مرحلة انتقالية كبيرة في دور جسدت من خلاله أمرأة تملك قلب من ذهب, ورغبة مسها الشيطان بشروره.. ولم تستطع نجومية “حليم” أن تظلل علي وهجها فاحتلت مشاهدها بجدارة وفرشت من موهبتها بريقا خاصا لم تفعله الاخريات واحتفظ لها بنصيب كبير من المشاهدة, في واحد من أكثر الافلام عرضا في تاريخ السينما المصرية. ولم يختلف الأمر كثيرا في “السمان والخريف” عندما تصدت لدور “ريري” بروحها الحقيقية – روح الشخصية-  وكل ما تحمله من سقوط وانحلال, يتحول إلي مقاومة واعتزاز بالنفس وتنجح في احتلال مكانة أخري تبدل حياة الظلام بالنور والاندماج مع الاخرين ممن كانوا يستغلون ظروفها الاجتماعية, واستيعاب ضياع “عيسي الدباغ” بعد أن ضل الطريق واحتواءه, وأن كانت تلك هي سمات الدور, جاء التشخيص ليؤكد قدرتها علي تشبيك تلك الخيوط المتفرقة لنسج حالة انسانية شديدة الطبيعية, ودرسا بأن هناك فرصا أخري للنجاة, والقدرة علي تبادل الانكار والمبالاة في الاقتصاص عندما تحين الفرصة وتفلح في الاقناع.

نادرا ما نجد نجم أو نجمة لا خلاف عليهم.. فالجماهير تنقسم دائما نصفين بين الاسماء الكبيرة, ويصنع فريقين, مؤيدين ومعارضين, وهو أمر تغذيه الصحافة والنجوم أنفسهم, في حالة نادية لطفي لا انقسام ولا فرقة.. فهي ليست طامعة في شيء, ولا يشغل بالها الاخرين, لذلك مدت جسور المحبة بينها وبين زملائها والصحافة والجماهير, تملكتها روح الهواية منذ أول لقطة وحتي مشهدها الأخير, لكن ذلك لم يفقدها شخصيتها وقرارها بقبول ما يرضي قناعتها, ورفض ما تراه لا يرضي ضميرها الفني,  ولا يهم هنا مساحة الدور, أو كتابة الأسم علي الأفيش, فهي أمور ثانوية بالنسبة, ورغم ذلك لم يحدث تهاونا واحدا يذكر في مشوارها الفني, فالكل يعرف قيمتها, وهي لم تفرط في حقوقها تحت أي ظرف, ولم تتباهي بالرفض أو الامتناع, كانت ثقافتها ووعيها وكبريائها الفني يديرون الحياة بسهولة ويسر ومن غير ضجيج.

نادية لطفي جميلة,  وهي من جميلات السينما, لكن جمالها لم يصطنع مسافات وهمية بينها  وبين الجماهير, وهي حالة نادرة, هي ملك للجميع بفنها, ومن دون اقتراب أو مضايقات, مواصفاتها الارستقراطية تلتحم بالشعبية لحدود مذهلة واستثنائية, وغير مسبوقة مع الشقراوات, فهي كانت حقيقية شحم ولحم, ملامحها حقيقية, ضحكتها حقيقية, مواقفها حقيقية, لم تكن في حاجة لوضع مساحيق, فالطبيعة ساحرة ومفعمة وأيضا حقيقية.

لا يمكن أن ننسي في خضام الحديث عن أعمالها المتميزة, أن ننسي قائمة طويلة من الاعمال الكوميدية والاجتماعية التي نجحت في تصديرها بما ملكته من متعة وتسلية مع أحمد رمزي أو حسن يوسف ورشدي اباظة, والتي ساعدت علي انتشارها, واقترابها من قلوب الجماهير مثل (عندما نحب- جريمة في الحي الهادي- بنت شقية- عدو المرأة- الحياة حلوة- مطلوب ارملة- ثورة البنات- للرجال فقط- الباحثة عن الحب- جواز في خطر- السبع بنات- حب الي الابد- مذكرات تلميذة- ابدا لن اعود- قاضي الغرام). اضافة لأعمالها مع احمد مظهر(حبيبة غيري- ايام الحب- مع الذكريات), ومحمود مرسي (الخائنة- الليالي الطويلة) ومحرم فؤاد (عشاق الحياة- من غير ميعاد- نصف عذراء) وشكري سرحان ( سنوات الحب- حياة عازب- لا تطفئ الشمس- عودي يا امي- هارب من الحياة), كذلك دورها أمام فؤاد المهندس في فيلم “بديعة مصابني” و”الخطايا” أمام عبد الحليم حافظ, و(علي ورق سلوفان- الزائرة- سقطت في بحر العسل- الاب الشرعي) أمام محمود يس, كما وقفت أمام نور الشريف في (الحاجز- رحلة داخل امرأة- اين تخبئون الشمس) ولعبت بطولة مسرحية وحيدة  عام 1968 “بمبة كشر” من اخراج حسين كمال والحان بليغ حمدي أمام عبد المنعم مدبولي, ومسلسل اذاعي “أنف وثلاث عيون”.

في “المومياء” لشادي عبد السلام, لم يكن هناك أي شيء مغر لقبول هذا الدور الصغير الصامت الخاطف, فهو – علي الورق- لن يقدم لها شيئا في تاريخها, لكن ما بين السطور تكمن رؤية الفنان المثقف الواعي, الذي يري ما لا تراه العيون اللاهثة الباحثة عن الاشياء المضمونة, وتكسب الرهان ويبقي الدور علامة ناصعة مضيئة ليس في مشوارها الفني, ولكن في تاريخ السينما المصرية والعربية علي الاطلاق, ليحتل في جميع التصنيفات والقوائم المرتبة الاولي. وحظي العمل باحتفاء نقدي في فرنسا واشادت كبريات المجلات باداء نادية لطفي التي اصرت ألا تتقاضي أجرا وألا يكتب اسمها علي التتر.

الرضوخ كلمة لا نجد لها صدي أو ظلال في حياة نادية لطفي الفنية والشخصية, فقد كانت تتسلح دائما بقدرتها علي رفض الاشياء التي لا تتفق مع مبادئها وقناعاتها,  كانت تردد بأن الاوضاع السيئة للسينما وما تشهده من واقع مفكك لن ينتج سوي ملامح باهتة لصناعة عظيمة يجب أن تلتف كل الايادي للنهوض بها من خلال فتح مجالات في السوق الداخلي أولا, ومن ثم سيكون لذلك مردود علي السوق الخارجي بتبني رؤية واضحة بعيدا عن الامكانات, وأن هبوط الفيلم سيؤدي حتما إلي انكماش السوق.

تمتلك نادية لطفي سجل مشرف من مساهماتها الوطنية بدءا من حرب الاستنزاف وحرب اكتوبر, ومساهمتها في كسر الحصار الاسرائيلي عن المقاومة الفلسطينية, موقف الثابت تجاه العدو الصهيوني, وكانت لها مواقف عديدة في الدفاع عن القضية الفلسطينية, ولا يمكن بأي حال حصر هذه المواقف العديدة التي كشفت عن معدنها الاصيل ووطنيتها العظيمة ليست تجاه بلدها التي تنتمي إليها ولكن تجاه عروبتها وقوميتها, عاشت حياتها بطبيعية وأدت دورها كما تراءي لها, ولم تحسب للنجومية أو تعبأ بمتطلباتها, فهي من قامت بتسجيل 40 ساعة تصوير في القري والنجوع المصرية لتجمع شهادات الأسري المصريين في حربي 1956 و 1967 حول الجرائم الإسرائيلية، ولم يقتصر فنها فقط علي التمثيل فبالرغم من تقديمها 70 فيلم علي مدار 30 عامًا مختتمة أعمالها بفيلم “الأب الشرعي” عام 1988، إلا انها حاولت في مجال الانتاج وقامت بإنتاج فيلم تسجيلي باسم ” دير سانت كاترين”.

 ولدت الفنانة الكبيرة، نادية لطفي في حي عابدين في القاهرة عام 1938 , درست في المدرسة الألمانية في القاهرة , اسند لها رمسيس نجيب بطولة أول عمل أمام فريد شوقي في فيلم “سلطان” وهو من اختار لها اسم “نادية لطفي” وهو اسم بطلة رواية “لا أنام” لإحسان عبد القدوس.

كتب لها يوسف السباعي: “لعلك تؤكدين يقيني بأن الجاذبية موهبة لا مقاييس لها, وأن الصلة بين الفنان وجمهوره يوثقها شيء ما, نعجز عن توصيفه ونعجز ايضا عن فرضه, وانت بلا جدال تملكين هذا – الشيء ما- وكما استطعت أن أؤكد أن بك شيئا استطيع أن أؤكد انك أصبحت شيئا ما”, كما كتب جليل البنداري:” نادية لطفي تعيش بيننا كالموال البلدي والمثل الشعبي والنكتة الحراقة واخلاقها وتصرفاتها كلها لا تختلف عن اخلاق وتصرفات بنت البلد فهي شجاعة”.. وكتب مفيد فوزي: “لقد ضمنى عشاء مع صلاح أبوسيف وعبدالحليم حافظ، وكنا فى بيتها بجاردن سيتى، لقد عاشت نادية لطفى فى وسط البلد طول مشوارها ولم تسكن «كومبوند» أو فيلل أصحاب الملايين، وهى أصلا لم تدخر للغد ولا كان لها مشروع تجارى يسندها، كانت شقتها صالونا للكتاب والسينمائيين، وكانت كريمة فى دعواتها، كان يوسف إدريس يصف بيتها «مجلس نادية لطفى» وكانت تثار فيه تناقشات أدبية فتنسيك أنك فى حضرة فنانة شقراء جميلة، لعل أعظم ما فى  نادية أنها لم تكن تدرك أنها مشهورة وجميلة، هي واحدة من قليلات صادفتهن تملك «شرف العداوة» وتحترم الخلاف ولا تفتح جراب العلاقة مطلقا”.

عندما نرصد كل الكتابات التي تناولت الراقية نادية لطفي, سنجد بالانصاف وقد انتصفت الكفتين وتساوت.. ما بين مسيرتها الفنية ومواقفها الانسانية, وهو ما يعكس نبل الشخصية واتساقها مع نفسها, وبعيدا عن أي أمور شخصية مغرضة,  فلقد حمت ممارساتها النبيلة أي مغرض من أن يتناولها بسوء, فجاءت الصورة قريبة من الأصل إلي حد بعيد, مع الأخذ في الاعتبار طبيعة الشخوص الفنية وحتمية سلوكها ايجابا أو سلبا, والتي تبتعد عن اخلاقها الرفيعة ومواقفها المحترمة.

عن السينما قالت نادية لطفي: ” السينما ربتني وعلمتني ودلعتني, وفتحت لي مسارات عديدة للمعرفة, وأنا مدينة للسينما التي صنعت اسمي وشخصيتي, وهي مدرسة تربوية عالمية تدرس أجمل العلوم, وأهمها هي الإنسانية, وهي جنة الأرض بكل ما تشمله من عناصر, وهي عشقي الأول والأخير”.

تحلت نادية لطفي بأخلاق الفرسان, وأبلت بلاء حسنا قلما نجده أو نسمع عنه, فعندما تعاقدت علي فيلم “الخيط الرفيع” علمت بأن فاتن حمامة ترغب في تجسيد الشخصية, وكانت ائبة عن السينما عدة سنوات, فلم تجد غضاضة في التنازل عن الدور لها, وكثيرا ما من الأدوار التي عرضت عليها عندما كانت تشعر بأن هناك من الاخريات من تصلح أكثر منها للدور كانت تقوم بترشيحها عن طيب خاطر, وهي من قامت بتمريض رشدي اباظة في ايامه الاخيرة, وكانت تردد بأن 90% من اصدقائها رجال, ووصفتها إحدي صديقاتها في ايجاز بأنها “الثقة”.

أن قيمة نادية لطفي لا يمكن حصرها من خلال أعمالها الفنية أو حتي مواقفها الوطنية, أن قيمتها الحقيقية كونها انسانة تحترم نفسها  ومهنتها وتعتز بانتمائها وتدافع عنه, لذلك ستظل سيرتها عطرة لا تشوبها شائبة, لأنها أمرأة حرة دافعت عن ما أمنت به, ورفضت كل ما خالف ذلك, ظلت واضحة صريحة لا تقبل الحياد الباهت, وكانت مواقفها معلنة دون مواراة أو تخفي, ولم تخشي شيئا, ربما هذا ما جعلها تحتفظ بشبابها ونضارتها حتي بعد توالي السنوات, رحم الله نادية لطفي الانسانة التي كانت تشع شفافية ورقي.

 

التعليقات متوقفه