محمد فرج يكتب:عن التوجهات الوطنية والاجتماعية لثورة يوليو وقائدها

178

*بقلم محمد فرج:

ما هي التوجهات الرئيسية لثورة يوليو وقائدها؟ ..وما هي طبيعة هذه التوجهات؟.. وما علاقة توجهات ذلك العصر بما يحكمنا من التوجهات الوطنية والاجتماعية السائدة الآن في مصر المعاصرة؟

مفهوم التوجُّه الاجتماعي:
ساد مفهوم (التوَجُّه) في الفكر السياسي مع تصاعد ظاهرة ثورات التحرر الوطني، فظهرت مفاهيم التوجه الوطني والتوجه الاجتماعي والتوجه الاشتراكي، فما معنى تعبير التوجه؟
التوجه هو اسم فعل قصدي نحو هدف معين .
كأن أتوجه متحركاً باتجاه مكان معين قاصداً الوصول إليه، أو أتوجه ببصري تجاه مكان معين أو نقطة معينة قاصداً التركيز عليها، آو أتوجه بفكري تجاه فكرة معينة أو قضية معينة قاصداً تأملها أو فهمها واستيعابها أو حل إشكاليتها.
والتوجه هو السير نحو هدف معين انطلاقاً من نقطة معينة، وهو بذلك تعبير عن الحركة في الطريق بما تنطوي عليه هذه الحركة أو هذا السير من دوافع وأهداف.
وللتوجه بهذا المعنى دوافع وأهداف.
أما الدوافع فهي التي تحرك الفرد أو الجماعة تجاه هذا الفعل أو ذاك، والدوافع تنقسم إلى دوافع أساسية ودوافع ثانوية أو فرعية، وهي متنوعة، فقد تكون فكرية سياسية أو اجتماعية أو عقائدية أو اعتقادية أو أخلاقية أو سيكولوجية وغيرها، والدوافع بهذا المعنى تمثل منطلقات هذا التوجه أو ذاك، أي المنطلقات الدافعة للتوجه.
أما الأهداف فهي الغايات، أو الأغراض المبتغاة من هذا التوجه أو ذاك، أو النتائج التي يراد تحقيقها، وهي المصالح المبتغاة، أو الحصاد الذي ينبغي الوصول والحصول عليه وجني ثماره، وغير ذلك من المعاني التي لا ينبغي قصرها على المصالح أو الأغراض المادية فقط؛ بل تمتد إلى الأغراض المعنوية، الفكرية والأخلاقية والعقيدية والاجتماعية والسيكولوجية.
لذلك يجري الحديث عن التوجه تعبيراً عن المنطلق، والتوجهات تعبيراً عن المنطلقات، كما يجري التعبير عن التوجه تعبيراً عن الهدف، والتوجهات تعبيراً عن الأهداف، فالتوجهات إذن هي المنطلقات والأهداف، وعليه فالتوجهات الاجتماعية هنا بمعنى المنطلقات والأهداف الاجتماعية.
لكن الحديث عن التوجهات الاجتماعية ينصرف أيضاً إلى معنى الانحيازات الاجتماعية، سواء كان الانحياز إلى طبقة أو فئة اجتماعية معينة أو الانحياز ضدها، أي ينصرف إلى الموقف منها، معها أو ضدها، كما ينصرف تعبير التوجهات الاجتماعية إلى معنى الإجراءات ذات الطابع الاجتماعي التي يتم اتخاذها، وإلى معنى السياسات التي يتم تطبيقها في هذا المجال أو ذاك، وبهذا المعنى يجري الحديث عن التوجهات الوطنية أو التوجهات الاقتصادية أو التوجهات الثقافية أو التوجهات الاجتماعية وغيرها كتعبير عن السياسات المتبعة أو المطبقة، وهي في كل الأحوال تنطوي على منطلقاتها الفكرية وغير الفكرية وعلى أهدافها المادية والمعنوية وعلى إجراءاتها، وتعبر في كل الأحوال عن انحيازاتها الفكرية والاجتماعية الظاهرة وغير الظاهرة.
وانطلاقاً من كل ذلك فإننا نتعامل مع تعبير التوجهات الاجتماعية في هذا المقال بمعنى السياسات والإجراءات المطبقة، بما تنطوي عليه بالضرورة من منطلقات وانحيازات فكرية واجتماعية.

عبد الناصر والاستعمار والطبقات في مصر:

كان رفض وجود الاحتلال الأجنبي هو المنطلق الرئيسي لاندلاع ثورة 23 يوليو وتحديد موقف وتوجهات قائدها ورفاقه، فقد قامت تلك الثورة أساساً بهدف القضاء على الاستعمار وأعوانه، باعتبارها إحدى أهم حلقات الثورة الوطنية المصرية المناهضة للاستعمار، المناضلة من أجل إنهاء الاحتلال الأجنبي وتحقيق الاستقلال لمصر، وكان هذا التوجه الوطني لثورة يوليو وقائدها من الوضوح والمحورية بما جعله الهدف الأول، بل والأوضح من أهدافها الستة، كهدف عام جامع للضباط الأحرار بتوجهاتهم الفكرية والسياسية المتنوعة.
ولم يكن هذا المنطلق الرئيسي – الوطني – بعيداً عن تبلور وتطور جملة التوجهات المختلفة لثورة يوليو وقائدها، وخاصة بالنسبة للموقف من الأجانب والاستثمارات والمصالح الأجنبية المقامة في مصر (بنوك وشركات تأمين وغيرها)، تلك التي لحقها التمصير بعد عدوان 1956 وخاصة في بداية عام 1957.
هل كان الموقف أو المواقف المختلفة لثورة يوليو وقائدها من الطبقات والفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع المصري بنفس هذا الوضوح والحسم؟ هل كانت التوجهات الاجتماعية لقائد يوليو بنفس هذا الوضوح والحسم المتعلق بالموقف من الاستعمار؟
كان الموقف من الإقطاع أو كبار ملاك الأراضي في مصر واضحاً وحاسماً أيضاً منذ البداية، فقد جاء باعتباره الهدف الثاني من أهداف الثورة، إذ بعد القضاء على الاستعمار وأعوانه يأتي القضاء على الإقطاع، ولم يكن الأمر شعاراً فقط، بل دخل مجلس قيادة الثورة في مجابهة سريعة مع كبار ملاك الأرض بإصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد سقف أعلى للملكية في 9 سبتمبر 1952، أي بعد شهر واحد ونصف من إعلان قيام الثورة، وهي مجابهة سريعة تعبر عن توجه واضح تجاه طبقة كبار ملاك الأراضي في مصر، وتعبر عن وعي سياسي/ اجتماعي بالمخاطر السياسية التي تنتجها أوضاع تركز الملكية الزراعية في يد فئة قليلة العدد من العائلات الإقطاعية المرتبطة بالسراي، بأواصر علاقات الدم أو علاقات القرابة والنسب أو التبعية أو العلاقات السياسية، والوعي بالمخاطر الاقتصادية والاجتماعية لهذا الخلل في توزيع الملكية منتجاً مجتمع النصف في المائة، ومنتجاً أغلبية من المصريين الفقراء والمعدمين يعيشون في مثلث الفقر والجهل والمرض، أي الوعي بمخاطر هذا الخلل الطبقي الاقتصادي الاجتماعي الحاد في أوضاع توزيع الثروة في البلاد.
ولم يكن هذا الموقف الحاسم من طبقة كبار ملاك الأرض بعيداً عن موقف الحركة الوطنية المصرية؛ بل كان يعبر عن ارتباط وانتماء قادة يوليو لهذه الحركة الوطنية ونضالاتها وشعاراتها حول تحديد حد أعلى للملكية الزراعية، التي وصلت حد طرح متطلبات الإصلاح الزراعي في برلمانات ما قبل يوليو، لمواجهة اختلالات مجتمع النصف في المائة والقضاء على مثلث الفقر والجهل والمرض.
في المقابل كان توجه ثورة يوليو وقائدها ضد طبقة كبار ملاك الأرض – وهي فئة قليلة العدد – وسيطرتهم على مئات الآلاف من الأفدنة، يرتب في الوقت نفسه توجهاً منحازاً إلى ملايين أبناء الشعب المصري من الفلاحين والمعدمين وعمال الزراعة من ملاك وحائزي أقل من خمسة أفدنة، وكانوا في وقت قيام الثورة أكثر من 2 مليون فلاح و242 ألف، من بينهم 2 مليون فلاح و11 ألف لا يملك أي منهم أكثر من فدان واحد، بالإضافة إلى أكثر من 2 مليون من المعدمين وممن يعملون في أبعادايات ووسايا وعزب كبار ملاك الأرض.
وقاد هذا التوجه عمليات توزيع الأراضي المصادرة على صغار الفلاحين والمعدمين في الريف المصري بواقع خمسة أفدنة للأسرة، مما أدى إلى إعادة توزيع ملكية الأرض الزراعية وتغيير الخريطة الطبقية في الريف، ومواجهة خلل تركز الملكية الزراعية في يد عدد قليل من كبار ملاك الأراضي، لصالح التوسع في قاعدة الملكية.
وتبين جداول توزيع الملكية لعام 1965 مدى التحول الذي حدث في خريطة توزيع الثروة في الريف، حيث أصبحت فئة ملاك خمسة أفدنة فأقل تحوز نسبة 57.1% من جملة المساحة المنزرعة، بعد أن كانت في عام 1952 لا تزيد نسبة ما تحوزه عن 35.4%، بينما أصبحت فئة كبار الملاك ممن يملكون أكثر من مائة فدان لا تحوز أكثر من نسبة 6.5% من جملة المساحة المنزرعة، بعد أن كانت تحوز وحدها أكثر من 27% من الأراضي الزراعية، رغم أن هذه الفئة كانت لا تزيد نسبتها عن 0.3% من جملة الملاك في ذلك الوقت.
وظل هذا التوجه الاجتماعي لجمال عبد الناصر وثورته نحو كل من كبار ملاك الأرض وصغار الفلاحين والمعدمين في الريف واضحاً وحاسماً، تدعمه التشريعات والإجراءات القانونية منذ إصدار المرسوم بقانون رقم 178 لعام 1952، سواء في مجال تقنين إيجارات الأراضي الزراعية أو الانحياز لصالح الفلاحين المستأجرين لهذه الأراضي، عن طريق تحديد قيمة إيجار الفدان بسبعة أمثال الضريبة، أو محاصرة وتقليص كل من نظام الإيجار بالمزارعة لصالح نظام الإيجار النقدي، أو حصار عمليات طرد الفلاحين من الأرض لصالح استقرار عمليات الإنتاج الزراعي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لأسر صغار المزارعين.
وقد شهد هذا التوجه الاجتماعي دعماً حاسماً لصالح الفلاحين وعمليات الإنتاج الزراعي عن طريق تقنين وتعميم نظام التعاون الزراعي، وذلك بإنشاء وتعميم نظام الجمعيات التعاونية الزراعية، ونظام الدورة الزراعية، ونظام التسويق التعاوني للمحاصيل وخاصة القطن، ونظام التمويل التعاوني عن طريق بنك التنمية والائتمان الزراعي، بما وفرته هذه المنظومة التعاونية من توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي، بتوفير التمويل بفوائد رمزية، وتوفير البذور المنتقاة والأسمدة والمبيدات بأسعار تعاونية، ودفع صغار الفلاحين نحو عمليات المشاركة في الإدارة باشتراط أن يكون صغار الزراع الحائزين لخمسة أفدنة فأقل هم الغالبية المنتخبة من أعضاء مجالس إدارات الجمعيات التعاونية الزراعية.
كما شهد هذا التوجه مواجهات حادة لملاحقة ما سمي بتهريب كبار ملاك الأرض للملكيات الزراعية عن طريق التصرف بالبيع الصوري للخدم والأتباع لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، فتكونت لجنة تصفية الإقطاع عام 1966 برئاسة المشير عبد الحكيم عامر .
وخلال عمل اللجنة العليا لتصفية الإقطاع تم ضبط حوالي 200 ألف فدان و 94 قصراً و20 ألفاً من الماشية و363 من الخيول العربية الأصيلة و1613 من آلات الزراعة، وتم إبعاد 220 أسرة من كبار الملاك من المتهربين من قانون الإصلاح الزراعي عن القرى التي يتحكمون في أرضها وأبنائها، وتم حل عشرات من لجان الاتحاد الاشتراكي المسيطر عليها من عائلات الإقطاع وأعوانهم، ومجالس إدارة الجمعيات التعاونية الزراعية المنحازة لكبار ملاك الأرض أو المسيطر عليها منهم أو من رجالهم، وتم فصل مئات من عمد القرى ومشايخها ومن الموظفين والمسئولين في القوات المسلحة والشرطة والقضاء والسلك السياسي.

كان توجه ثورة يوليو الوطني ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي وقائدها واضحاً وحاسماً، وكان كذلك ضد الإقطاع وكبار ملاك الأرض، فهل كان توجه جمال عبد الناصر وثورته تجاه بقية الطبقات والفئات الاجتماعية بنفس وضوح وحسم التوجهات الوطنية؟ وبنفس وضوح وحسم التوجه تجاه طبقة كبار ملاك الأرض وفئات الفلاحين والمزارعين والمعدمين في الريف؟
كيف كان موقف جمال وثورته من فئات الرأسمالية المصرية؟ وبقية طبقات المجتمع؟
هذا ما سوف نتناوله ونبحثه ونتعرف عليه في مقال قادم.

التعليقات متوقفه