محمود دوير يكتب :محمد رمضان يتحدى سيد درويش.. محنة المجتمع والتعايش مع التردي

1

*محمود دوير

شنَّ عدد كبير من أبناء مدينة الإسكندرية هجوماً حاداً على الفنان “محمد رمضان” بلغ قيام بعضهم بوضع لافتات عملاقة ترفض وجوده في المدينة التي تمثل قبلة للفن المصري منذ نشأتها ويعتبر جمهور المدينة “الكوزموبوليتية” أحد أهداف صناع الفنون على كل العصور؛ فهي مدنية قدمت للثقافة المصرية مئات الرموز في كل مناحي الإبداع.
ففيها كان الظهور الأول للسينما، والظهور الأول للمسرح، كما أن “سيد درويش” صاحب الثورة الموسيقية التي نحيا بها حتى الآن هو أحد أبنائها وعشاقها.
جاء الهجوم على “محمد رمضان” بالتزامن مع الإعلان عن حفل فنيّ بالمدينة في السابع من أكتوبر المقبل وصفه “رمضان” قائلا “أقوى حفل في مصر” واتخذ الرفض الشعبيّ أشكالا عديدة: منها حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تتهم “رمضان” بأن أعماله أحد أسباب التراجع الأخلاقي في المجتمع، وقام البعض الآخر برسم علامة “ْاكس” على لافتات الدعاية للحفل الفني.
ماذا يعنى هذا للفن المصري أولا؟ ثم ماذا يعنى للذائقة المصرية؟
ثم أخيرا.. ماذا يعنى لـ “محمد رمضان” ذاته؟
تلك الأسئلة التي تبدو بسيطة هي في الحقيقة شديدة التعقيد وتحتاج إلى أن تتسع لها مقالات عديدة لكننا إذا حاولنا سريعا أن نمر على تلك القضايا المركبة
نتوقف عند الذائقة الجمعية وماذا يمثل هذا بالنسبة لها؟
في البداية لا بد أن نعترف أن الذائقة الجمعية في مصر تعاني من حالة تراجع شديدة ليس بسبب محمد رمضان أو غيره؛ فالأمر أبعد من ذلك حيث إن التلقي المجتمعيّ للفنون لخضع لعدة عوامل من بينها الوضع العام للمجتمع في تلك اللحظة التي نرصد فيها الموقف فمثلا لو أن “أحمد عدوية” كان قد ظهر في مصر عقب ثورة 1952 هل كان بإمكانه أن يحقق نفس الرواج بنفس المحتوى الفني؟
بالطبع ما كان يمكن أن يتحقق له ذلك النجاح.
فقد ظهر “عدوية” و”كتكوت الأمير” وغيرهم في لحظة “محنة مجتمعيه ” -إن جاز التعبير- ما بعد النكسة. ثم حقق مشروع “عدوية” الفني أكثر نجاحاته وتوهجه في مرحلة الانفتاح الاقتصادي (1974) حيث تلاقت طبقة “الأثرياء الجدد التي كونت ثروتها من نشاط الانفتاح – السداح مداح – تلك الفئة التي شكلت فيما بعد طبقة جديدة وتعددت أنشطتها خاصة في مجالات “الاستيراد والتصدير والسمسرة في توكيلات المنتجات الأجنبية والاستثمار العقاري والمضاربات في الأوراق المالية” وغلب على انشطتها الطابع الربحى البعيد تماما عن الإنتاج الحقيقي.
– هذه الفئة تتسم بأنها “نصف متعلمة نصف أمية” وفى وقت سريع وأصبحت تمتلك ثروة طائلة دون جهد يوازى حجم تلك الثروات
هذه الفئة – ثم الطبقة – تحتاج إلى معادل ثقافي ومحتوى فنيّ يعبر عنها ويمثلها وينتمي لها فكان في الموسيقى نموذج “السح ادح امبو” كما كانت سينما المقاولات.
رغم محاولة البعض تناول تلك الرمزية في عدد من أغنيات “عدوية” أو إطراء صوته المميز والمعبر أو موسيقى بعض أعماله التي قدمها له مبدعون مثل “بليغ حمدي” و”هاني شنودة” إلا أنه يظل يمثل حالة فنية صنعها وضع طبقي واقتصادي واجتماعي وبالتالي احتضنه هؤلاء وصعدوا به إلى قمة الشهرة والثروة.
هذا النموذج يمكن الاستدلال عليه وتفسير الظواهر الفنية وفقا له مع فروق المرحلة الأطراف المحركة للصناعة وطبيعة المتلقي الذي يتغير بتغير المحيط الاجتماعي.. لكن المؤكد أن الواقع الاجتماعي والسياق القيمي للمجتمع هو ما يفرز فنون وثقافة كل مرحلة وكل تجمع بشريّ، ثم يحدث بعد ذلك ما يمكن تسميته بـ “التأثير الجدلي بين كلا الطرفين”.. الفن والمجتمع، والمجتمع والفن ولا يمكن تجاهل مكونات أساسية تؤثر بشكل قوى في تلك التركيبة الجدلية مثل: التعليم وطبيعة النخبة وسائل الإعلام – التقليدية والحديثة. –
وحول السؤال الثاني الذي طرحناه وهو: “ماذا يمثل هذا الحدث للفن المصري؟
تتوقف الإجابة قليلا لنطرح سؤالا آخر: هل الفن المصري شيء واحد؟
أو بمعنى آخر هل يوجد ما يمكن تحديده بشكل مباشر ومخاطبته بأن هذا هو الفن المصري أو هذه هي الجهة أو الشخص المسؤول عن الفن المصري؟
الحقيقة – من وجهة نظري – أن هذا تعبير مجازى لا يمكن الإمساك به. فقط يوجد تراث الفن المصري وواقع الفن المصري، أما من يتحدث باسم الفن المصري فبالقطع هو لا يمثل سوى رؤيته للفن مهما كانت درجة وعيه أو تخصصه أو تأثيره
فالفنون بشكل عام تخضع لذائقة مثلها مثل الطعام الذي قد تتباين فيه مستويات التذوق بين مجتمع وآخر وبين إقليم داخل نفس المجتمع وإقليم آخر وبين فرد في نفس الأسرة وفرد آخر وتختلف مع نفس الفرد في حالات زمنية متعددة.
إذن الفن المصري هو حالة متعددة الأطياف يجمعها مشتركات ويفصل بينها فوارق كبيرة زمنيا وثقافيا وحتى وفقا للمستوى الإبداعي والقدرة على الخروج على السائد والمستقر.
السؤال الثالث.. ولعله الأهم بالنسبة لكثير من المتابعين والمهتمين وهو:
ماذا يعنى هذا الموقف السكندري بالنسبة لـ “محمد رمضان” ذاته؟
الطبيعي أن أي فنان يرى حالة رفض من جانب البعض أو مجتمع ما لوجوده بينهم أو عدم قبوله ما يقدمه من أعمال فمن الطبيعي أن يسبب له هذا ضيقا أو غضبا أو يسعى للفهم والتفكير في أسباب ذلك الموقف وهذا هو الطبيعي، لكنني أجزم أن “محمد رمضان” لن يتأثر بكل ما يقال أو على الأقل لن يظهر تأثره بتلك الموجة من الرفض التي تسبق حفلة بالثغر.
ولن يسعى لتحليل الأسباب ولن يفكر كثيراً في الأمر.. لا لشيء سوى لأنه يعرف الأسباب جيدا ومن حوله يعرفون الأسباب ويصر هو ويصرون هم على الاستمرار في ذات الدرب ونفس الاختيارات؛ لأنها باختصار تحقق له النجاح المطلوب وتجعل منه الأعلى أجراً والأكثر رواجاً على وسائل التواصل الاجتماعي ومنذ ثم يحقق أرباحاً طائلة – تذكروا واقعة البنك حين استيقظ على معلومة خصم البنك الذي يضع به حساباته لجزء من أرصدته لصالح الطيار – الضحية – واستطاع “رمضان” أن يحصد مبلغا أكبر من الذي استقطعه البنك في دقائق عبر فيديو تم بثه على صفحته وقام بالتفاخر أمام الجميع بأنه حقق ذلك! –
وهناك أمثلة عديدة في حياة “رمضان ” تؤكد أن الهجوم عليه يحقق له أرباحا مالية هائلة وانتشارا وتواجدا إعلاميّا دائما هو لا يتمنى غيابه أبدا
رمضان “هو ابن مخلص للمرحلة – مرحلة الترند –” فمن الطبيعي ان يعمل وفق قوانينها وأدواتها وشروطها
أما قوانين القيمة واحترام المتلقي وصناعة تاريخ فنيّ يبقى مع الزمن وغيرها من الأغراض النبيلة فهذه لا يسأل عنها “رمضان” يا عزيزي.
يدرك “رمضان” أكثر منا جميعا أن جمهوره الذي يدفع له الملايين سواء في السينما أو الحفلات أو السوشيال ميديا لا يريد أن يراه شابا هادئا مثقفا حكيما يتحدث عن رحلته العصامية مع الفن والحياة ويتودد للناس “بسهوكة” و”مُحن” ولا يعيش حياة عادية مثل باقي أفراد الشعب يسلك سلوك طبقته المتوسطة التي في طريقها للانسحاق بكل ما تحمله من قيم وثقافة.
جمهوره يريد أن يراه وهو يقود طائرته الخاصة ويتباهى بأسطول سياراته الفارهة وغير ذلك من أدوات الطبقة التي تسكن في الساحل الشرير!
لأن جمهوره منقسم بين شخص يملك ما يملكه “رمضان” وبين فقير لكنه يملك طموح الثراء السريع؛ لذلك يتابعه بشغف لأنه يحلم بأن يصل إلى تلك الثروة في أسرع وقت وربما دون عمل؛ لأنه لم يرَ أن “رمضان” قدم ما يستحق كل تلك الثروة وكل هذه الشهرة.
إن نموذج الفنان “الأخلاقي” يتلاشى تماماً وربما لم يعد جذابا لدى قطاع عريض من جمهور تذكرة حفلات نجوم الصف الأول باستثناءات طبعا.
ولعل الإقبال الكبير على حفلات “سعد لمجرد ” وهو المتهم بأبشع التهم الأخلاقية – التحرش والاغتصاب – كاشف لذلك. ونفس الأمر عندما يرى الشباب “تامر حسنى” المتهرب من الخدمة العسكرية يغنى للجنود في أعياد أكتوبر! وكأنه كان أحد أبطال العبور فليس أمامهم سوى الاقتداء به.
هذه المعايير والمحددات وأيضا السياقات الاجتماعية لم يصنعها “رمضان” أو “لمجرد” أو “تامر” ولم يكن “عدوية ” أحد مؤسسيها لكن المجتمع هو من يصوغ ملامحه وطبية علاقاته ومنتجه الثقافيّ وفقا لتفاعلات اقتصادية وسياسية واجتماعية هي الأساس في كل شيء ويأتي من يتماهى معها ويعبر عنها بالفن
بينما يقف البعض بفنونهم على عداء مع أيّ شكل للتردي ويخوضون المعارك في سبيل صناعة واقع جديد وهواء صحي بلا تلوث.
وتبقى الإسكندرية عاصمة الفن.. وروح مصر البهيّة ووجهها الحضاريّ رغم حصار التعصب والإسفاف لشرايين قلبها النابض، ويبقى “النديم” يصرخ في حواريها ويؤذن في أزقتها ويعزف “سيد درويش” على شاطئها أغنيته الخالدة.

التعليقات متوقفه