الذكرى الـ “32” على انهيار الاتحاد السوفيتى..بوتين: انهيار الاتحاد السوفيتى أكبر كارثة جيوسياسية فى تاريخ البشرية
وزير إعلام روسيا ميخائيل بولترانين: جورباتشوف ويلتسين كانا يتظاهران بالصراع فيما بينهما وهما متفقان على هدم الاتحاد السوفيتى
المخابرات الأمريكية احتضنت يلتسين عندما سافر لأمريكا
وجورباتشوف حصل على الثمن جائزة نوبل للسلام
جورباتشوف كان يستطيع أن يفشل اتفاق بيلوفيجسكى بالقبض على الرؤساء الثلاثة
بوش علم بانهيار الاتحاد السوفيتى قبل رئيسه
أنفقت الولايات المتحدة 5 تريليونات دولار لهدم الاتحاد السوفيتى
بدأتُ الاهتمام بذكرى انهيار الاتحاد السوفيتى قبل الميعاد هذا العام نظراً لأنه فى الثامن من ديسمبر الماضى تكون قد مرت 32 عاماً على تلك اللحظة التى أعلن فيها ثلاثة من قادة الجمهوريات السوفيتية عن هدم الدولة السوفيتية، والتى وصفها الرئيس بوتين بأنها “أكبر كارثة جيوسياسية فى التاريخ”.
ففى ذلك اليوم اكتملت ما عرف بـ”مؤامرة بيلوفيجسكى”، حيث وقع رئيس روسيا بوريس يلتسين وأوكرانيا ليونيد كرافتشوك، ورئيس مجلس السوفيت الأعلى فى بيلاروسيا ستانيسلاف شوشكيفيتش ما عُرف باتفاقية بيلوفيجسكى التى نصت على أن: “الاتحاد السوفيتى كدولة ضمن مكونات المجتمع الدولى وواقع جيوسياسى لم يعد موجوداً”.
وتم توقيع اتفاقية تكوين ما عُرف برابطة الدول المستقلة أو دول الكومنولث على أنقاضه. وهم فى هذا تجاهلوا ولم يأخذوا فى الاعتبار رأى الملايين من الشعب السوفيتى، الذى من خلال استفتاء عام فى مارس 1991 صوت لصالح الحفاظ على الدولة السوفيتية.
خيانة روسية
ما حدث فى غابة بيلوفيجسكى (فى يبلاروسيا) التى تبعد عن الحدود البولندية 6 كيلومترات فقط، كان المشهد الختامي لخيانة تم الإعداد لها قبل ذلك بكثير، وعلى وجه التحديد فى شهر مايو من عام 1983، عندما سافر سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى جورباتشوف إلى كندا للتعرف على أحدث تكنولوجيا زراعية، أول ما فعل جورباتشوف فى كندا أن التقى بالكسندر ياكوفليف السفير السوفيتى حينها فى كندا و”العميل الأمريكى”، وفق رأى فلاديمير كريتشكوف رئيس المخابرات السوفيتية آنذاك بأنه عميل أمريكي، لكن جورباتشوف الذى كان يحكم البلاد تجاهل هذا بل واستدعاه ليكون فى موسكو إلى جواره وأطلق عليه مهندس البيريسترويكا.
حفظ الكسندر ياكوفليف فى ذاكرته لقاءه بجورباتشوف فى كندا، وكتب عنه فى مذكراته، التى قال فيها كيف أنه تحدث إلى جورباتشوف عن حالة الجمود والدوجمات القديمة للماركسية -اللينينية التى يعيش بها الاتحاد السوفيتى، واعتبر هذا العيش فى مناخ الاتحاد السوفيتى الحالى غير صحى (مذكرات ياكوفليف).
فكرة البيريسترويكا
ويعترف الكسندر ياكوفليف بأنه خلال جلسات عديدة مع جورباتشوف تولدت لديه فكرة البيريسترويكا، التى كتب عنها الكثير وتحدث عنها العالم والتى انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتى فيما بعد. لم يمر وقت كبير على هذه الأحاديث وفكرة البيريسترويكا، حتى تم تعيين جورباتشوف سكرتيراً عاماً للجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، أعلى منصب فى الدولة السوفيتية.
وحسب كلمات رئيس الوزراء السوفيتى السابق نيكولاى ريجكوف ” لقد تولد عند جورباتشوف إحساس بالثقة، فى أنه سينقذ العالم، ولعبت هذه الفكرة برأسه”، لكن ما سمى حينها بإصلاحات البيريسترويكا انتهت بأزمة اقتصادية عميقة، واهتزت منظومة السلطة فى الاتحاد السوفيتى لدرجة، أن دول الاتحاد وقفت الواحدة تلو الأخرى لتعلن عن سيادتها. ففى 12 يونيو 1990 أعلنت عن ذلك روسيا، وبعد ذلك فى 20 يونيو أعلنت أوزبيكستان عن وثيقة الاستقلال، تلاها يوم 23 يونيو مولدافيا، ثم 16 يوليو أوكرانيا تلتها بيلاروسيا فى 27 يوليو من عام 1990، وزاد الطين بلة أن بعض المناطق الروسية داخل الفيدرالية الروسية نفسها أعلنت عن سيادتها مثل منطقة إركوتسك الغنية فى سيبيريا، والسيادة لا تعنى الاستقلال التام بل تعنى أولوية القوانين والقرارات المحلية على المركزية.
أمام هذه المظاهرة لدول الاتحاد السوفيتى وقبيل المؤتمر العام الرابع لنواب الشعب، اقترحت النائبة ساجى أومولاتوفا (نائبة عن جمهورية الشيشان) إدراج مسألة سحب الثقة من رئيس الاتحاد السوفيتى جورباتشوف على جدول الأعمال. فى هذا الوقت انبرى الكرملين فى إجراء مفاوضات مع دول الاتحاد الكبرى حول توقيع ما يسمى الاتفاق الاتحادي الجديد، لكن للأسف كان القطار قد غادر، وهو ما ظهر جلياً إبان أحداث أغسطس عام 1991، الذى أظهر بعدها قادة دول الاتحاد السوفيتى رغبة ملحة وسريعة فى الانفصال، وكانوا يتسابقون من سينفصل أولاً، ومن ثم أفشلوا عملية توقيع الاتفاق الاتحادي فى نوفواوجارييفو الذى كان من المفترض أن يحل محل اتفاق عام 1922 الذى تأسس على قاعدته الاتحاد السوفيتى. ولم تعد النخب فى الدول السوفيتية لديها الرغبة فى العيش وفق المنظومة القديمة، وهو ما صوت عليه 76,4% من مواطنى الاتحاد السوفيتى فى استفتاء مارس 1991.
اتفاقية بيلوفيجسكى
ونعود لمذكرات ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا وقت توقيع اتفاقية بيلوفيجسكى، وأحد الوجوه الرئيسة التى لعبت دورًا فى هدم الاتحاد السوفيتى، والتى عكس فيها حمى الاستقلال بين النخب فى الجمهوريات السوفيتية، حيث أشار إلى دور الرئيس يلتسين الذى ظهر على المسرح السياسى بقوة والذى أقنع الرؤساء الباقين بعدم توقيع الاتفاق الاتحادي، وقال إن يلتسين الذى لعب الدور المهم فى هذه الأحداث “أنا لا أريد أن يعرف أحد أن هذه الأسئلة الثلاثة من بناة أفكاري بل هى لجورباتشوف، أنا تحدثت معه بالأمس وها أنا أنقل عنه السؤال الأول، هل أنتم موافقون على مشروع الاتفاق الاتحادي؟ .
السؤال الثانى هل يجب أن يتغير أو تدخل عليه تعديلات؟ والسؤال الثالث هل تستطيعون التوقيع عليه؟ وبعد أن تم رفض الأسئلة الثلاثة، سألنى يلتسين “وما المخرج الآن إذن” ووفق كلمات كرافتشوك حينها أجاب يلتسين، بهذا الشكل أنا أيضاً لن أوقع على الاتفاق الجديد.
استفتاء أوكرانيا
فيما بعد، وبعد استفتاء ديسمبر فى أوكرانيا الخاص بالاستقلال، وانتخاب كرافتشوك كرئيس لأوكرانيا، تحدث هذا الأخير بشكل أكثر صراحة، وقال “يمكن لأوكرانيا أن تفخر بأنها كانت وما زالت وأصبحت دولة طورت الاتحاد السوفيتى الإمبراطورية الأخيرة الأشرس فى التاريخ عام 1991” . الآن ومن خلال الأحداث الدائرة، نجد أن كرافتشوك كذاب، عندما قال بأن 90% وافقوا فى الاستفتاء على الاستقلال، الآن هذا واضح جداً من خلال المشاكل التى تعانيها أوكرانيا فى شرق البلاد (الدونباس حيث تدور الحرب الآن)، أنهم خدعوا الشعب، عندما كتبوا فى بطاقة التصويت هل يوافقون على استقلال أوكرانيا فى إطار الاتحاد السوفيتى أم بعيداً عنه، وهو السؤال الذى طرح فى أغسطس 1991، ولم يكن الحديث عن استقلال أوكرانيا التام عن الاتحاد السوفيتى، على أى حال استغلت النخبة الأوكرانية نتائج الاستفتاء، واعتبروا نتيجة الاستفتاء رغبة من مواطنى أوكرانيا فى الاستقلال التام، وهكذا استقلت أهم دولة فى الاتحاد السوفيتى بعد روسيا.
صمت القبور
بعد الاستفتاء ساد العاصمة الأوكرانية صمت القبور، بينما كان الرئيس الأوكرانى ينتظر ما ستسفر عنه أحداث أغسطس فى العاصمة الاتحادية موسكو، وفقط عندما فشل “انقلاب أغسطس” فى موسكو خرج كرافتشوك ليعلن أنه قرر الخروج من الحزب الشيوعى السوفيتى. وحول هذا الموضوع يقول رجل المخابرات يورى تاراسكين فى كتابه “حرب ما بعد الحرب” أن “البطاقات الحزبية الحمراء للأشخاص الذين تسللوا للحزب والنخب الأوكرانية، كانت مجرد مظهر لإخفاء ماضيهم القومى المتعصب فى أوكرانيا، فقد كان كرافتشوك نفسه حتى عام 1950 من أتباع استيبان بنديرا، صاحب أشرس تيار قومى متعصب حارب السوفيت لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الثانية فى غرب أوكرانيا، وبعد ذلك تم زرعه داخل الحزب الشيوعى الأوكرانى”.
أما أشهر وزير إعلام فى عهد الرئيس يلتسين، ميخائيل بولترانين فقد أشار فى مقابلة مع صحيفة “فونتانكا” بتاريخ 8/12/2011 “إن يلتسين كان هو حجر الزاوية فى كل الأحداث، التى أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتى، فقد لعب يلتسين الدور الرئيس فى اتفاقية بيلوفيجسكى وما قبلها، فهو لم يأسف على شيء، ولم يكن يهمه أى دولة سيرأس ديمقراطية أم فاشية، أى دولة المهم أن يبقى على رأس السلطة فيها هو نفسه، وألا يبقى تحت سيطرة أحد، وهو كان متفقًا مع جورباتشوف الذى لم يكن يعنيه شيء، وهما فقط كانا يتظاهران بوجود صراع بينهما، لكن فى واقع الأمر لم يكن هناك أى صراع، فقد كانا متفقين” ويضيف بولترانين ” الغرب كان يشجع يلتسين على توسيع نفوذه، كما كان يفعل من قبل مع جورباتشوف، فعلى سبيل المثال جرت دعوة يلتسين لإلقاء محاضرة فى أمريكا أمام إحدى منظمات مكافحة الإيدز، رغم أن يلتسين عضو برلمان روسى ليس له علاقة بالموضوع، كما أنه مهندس بناء ولا علاقة له بالإيدز، حينها لم تلفت هذه الرحلة أنظار أحد، حيث بقى يلتسين فى أمريكا تسعة أيام ليلقى محاضرات عن الإيدز، وكان يتقاضى عن كل محاضرة 25 ألف دولار”. يشير بولترانين كذلك إلى رعاية المخابرات الأمريكية ليلتسين أثناء رحلته للولايات المتحدة ومنحه النصائح ليتمكن من الاستيلاء على السلطة فى روسيا.
هدم الاتحاد السوفيتى
لم يكن اختيار غابة بيلوفيجسكى لتوقيع اتفاق هدم الاتحاد السوفيتى مجرد مصادفة، فقد كانت هذه الغابة تبعد 6 كم فقط عن الحدود البولندية، حيث كان يتوقع المجتمعون أن تقوم المخابرات السوفيتية كى جى بى بإلقاء القبض عليهم، ومن ثم سيكون من السهل عليهم الهروب إلى بولندا. لكن الأهم أن يلتسين أدرك أن رئيس أوكرانيا كرافتشوك لن يوقع الاتفاق الاتحادى وهو ذاهب للاجتماع المشئوم وهو رئيس منتخب، وفى يده ورقة نتيجة استفتاء الشعب على الاستقلال. ستانيسلاف شوشكيفتش رئيس مجلس السوفيت الأعلى فى بيلاروسيا كان المضيف وهو الدولة الأصغر، ويلتسين كما هو معروف كان متفقًا مع جورباتشوف، بل إن هذا الأخير كان يعرف بما يحدث ولم يحرك ساكناً، فقد أخطره الكى جى بى ولم يفعل شيئا، بل بعد توقيع الاتفاق تم إخطار الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب به أولاً قبل جورباتشوف، وكما هو معروف دعا الرئيس الأمريكى لمؤتمر صحفى أعلن فيه أن “الاتحاد السوفيتى لم يعد موجوداً، والولايات المتحدة انتصرت فى الحرب الباردة”، وأعلن كذلك “أن الولايات المتحدة أنفقت على هدم الاتحاد السوفيتى نحو 5 تريليونات دولار”.
اتفاقية 8 ديسمبر
بتوقيع اتفاقية 8 ديسمبر 1991، يكون يلتسين وكرافتشوك وشوشكيفتش، قد قاموا بالانقلاب على الدولة السوفيتية، وبعد عودتهم إلى دولهم، قاموا بحملة دعاية مفادها أنهم أنقذوا الدولة السوفيتية من الانهيار ومن حرب أهلية ضروس كان من الممكن أن تندلع. لكن أهم ما قاله جورج بوش الأب هو “أن النصر الذى تحقق على الاتحاد السوفيتى، كان بأيدي المعارضة الداخلية” أى بأيدي عملاء فى الداخل. واللافت أن الدول التى نشأت على أنقاض الاتحاد السوفيتى، تم قبولها فوراً فى الأمم المتحدة، لكى يحصلوا على ضمان أمنهم واستقلالهم، تحسباً لتغير الظروف ومحاولة استعادتهم للاتحاد السوفيتى، ومن ثم عضوية الأمم المتحدة ستكون ضمانًا لعدم العودة عن عملية الانفصال. وحصل جورباتشوف على جائزة نوبل، ويلتسين حصل على ثمن عمليات الخصخصة وما زالت أسرته تجنى الأرباح منها حتى الآن، وبقية الزعماء عاشوا يحكمون حتى ماتوا وتنحوا أو تمت تنحيتهم. الحديث فى هذا الموضوع يطول، ورغم نفى الولايات المتحدة لأى دور فى هدم الاتحاد السوفيتى، إلا أن إعلان بوش عن نصر بلاده فى الحرب الباردة كشف كل شيء وهو الذى وصف انهيار الاتحاد السوفيتى بأنه “معجزة بحجم نزول الإنجيل”.
انهيار مستمر
والآن وبعد مرور اثنين وثلاثين عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتى، لا يوجد من يجادل فى أن الاتحاد السوفيتى ما زال يتساقط حتى بعد مرور كل هذه الأعوام. فنجد أن عملية الانهيار ما زالت مستمرة، فها هى أوكرانيا وما فيها من صراعات بين شرقها وغربها وبين روسيا وأوكرانيا (حرب تدور رحاها الآن والرئيس بوتين يقول إنها ستستمر خمس سنوات) ككل، ثم فى وسط آسيا والصراع بين قيرجيزستان وطاجيكستان على وادي فرجان والمياه أضف لذلك أوزبيكستان وهى طرف أصيل فى النزاع. وظاهر للعيان كذلك نزاع كاراباخ الذى هدأت الحرب فيها منذ أشهر قليلة، إضافة إلى جورجيا وحركتين انفصاليتين هما أبخاريا وأوسيتيا الجنوبية، هذا بخلاف مولدوفا ومقاطعة بريدنستروفية التى يقطنها مواطنون روس يرفضون التكامل مع الاتحاد الأوروبى، وهذا أيضاً بخلاف بيلاروسيا التى تعانى من اضطرابات لأنها متمسكة بالإرث السوفيتى والعلاقة مع روسيا.
الاتحاد السوفيتى وإن كان انهياره لم يحدث حروبًا كبيرة، إلا أن آثار سقوطه، وزلزاله، ما زالت تتردد حتى اليوم فى أرجاء العالم وكل يوم نسمع عن هزة ارتدادية لانهيار الإمبراطورية السوفيتية ممثلة فى حرب محدودة هنا أو هناك.
أما الساحة الدولية فلم تستقر بعد، وما إذا كان العالم أحادى القطب أم ثنائي أم متعدد الأقطاب، خاصة بعد صعود الصين وعودة روسيا بقوة للساحة الدولية بعد استرداد عافيتها، وصعود قوى جديدة مثل الاتحاد الأوروبى وحتى الآن لم يستطع أحد ملء فراغ الاتحاد السوفيتى، وقد يستغرق الأمر بعض الوقت.
التعليقات متوقفه