محمد فرج يكتب للأهالي: عن المعضلة الإيرانية ماذا بعد عملية المسيَّرات الإيرانية؟

103

منذ أن نشأت دولة إيران الراهنة بعد عام ١٩٧٩ ميلادية وهي تمثل معضلة إقليمية ودولية، ليس انطلاقا من إسمها فقط كجمهورية إسلامية، ولا انطلاقا من نظامها السياسي فقط الذي يقوم على نظام ولاية الفقيه ، بل أيضا انطلاقا من الدور الذي هيأت له نفسها منذ أن تم تسمية ثورتها الشعبية ضد حكم الشاهنشاه محمد رضا بهلوي باسم إمامها الخميني، فأصبحت ثورتها الشعبية ثورة الإمام الخميني الإسلامية الشيعية، وأصبح نظامها السياسي في الحكم قائما على دور محوري لحكم إسلامي شيعي رأسه الأعلى هو الإمام.

لكن حتى لو أنتج هذا الوضع بحد ذاته معضلة للدولة الإيرانية في الإقليم، إلا أننا لا نتحدث هنا عن هكذا معضلة سياسية للدولة الإيرانية، طالما ظل هذا هو اختيار شعبها، أي شعب الدولة الإيرانية، انطلاقا من تعريفنا للدولة باعتبارها: أرضًا وشعبًا وحكومة، فطالما ارتضى شعب إيران هذا النظام السياسي الحاكم لدولته لا بأس عندنا، لكن تبدأ المعضلة عندما يتم العمل السياسي للنظام، أي نظام، بالتمدد خارج أرضه، لفرض نظامه السياسي/الديني على شعوب ودول المنطقة عبر الأدوات والأذرع السياسية أو الدينية تحت مبررات سياسية أو دينية أو مذهبية.

المعضلة الراهنة:
وعلى الرغم من هذه المقدمة المدخل، عن المعضلة العامة التي خلقت لهذا النظام ودوره في المنطقة مؤيدين ومعارضين، أحباء وأعداء، موالين ورافضين، إلا أننا نتحدث هنا عن المعضلة الخاصة الراهنة للنظام الإيراني، تلك التي نشأت منذ تصاعد العدوان الصهيوني البربري على غزة والشعب الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ الماضي، فقد قدم النظام الإيراني نفسه، أو قدمه غيره من الموالين له، أو قدمته أذرعه السياسية في لبنان والعراق واليمن، باعتباره النظام القائد لمحور المقاومة، بل النظام الضد الحاسم ضد هذا العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين، وأنتج هذا التقديم حالة انتظار لطائر الرخ الإيراني الفارسي الذي سيأتي حتما ليخلص نساء وأطفال غزة من الجحيم الصهيوني، في ظل صمت وتواطؤ الأنظمة العربية، والأوروبية والأمريكية.
ليس شرطا أن يكون النظام الإيراني الراهن وحده مسئولا عن هذه الحالة الانتظارية له كتنين مخلص، لكنه، أي النظام الإيراني، ساهم منذ نشأته في صناعة هذه الحالة وهذا الحلم في أدمغة الناس، ودعمت هذه الحالة الأذرع السياسية والدينية الموالية لإيران، بحديثها المتواتر عن محور المقاومة وحرب الساحات.

تعقيد المعضلة:
لكن معضلة النظام الإيراني قد تعقدت تعقيدًا بالغًا بعد عدوان جيش الاحتلال على القنصلية الإيرانية في سوريا، إذ حانت لحظة الحقيقة، وتطايرت التساؤلات العملية، والمعضلة أن الموالاة قبل الرافضة قررت أن إيران لابد أن ترد.
هل ترد إيران لضرب إحدى سفارات إسرائيل في بلاد الأمة العربية والإسلامية؟ أم تدمر بعض سفارات إسرائيل في أوروبا بعملية تفجيرية خاطفة؟ أم ترد في العمق ردًّا خاطفًا؟ أم ترد في الأعماق مشعلة حربًا شاملة يخطط لها ويحبذها ويريدها العدو نفسه؟
لقد تعقدت المعضلة انطلاقًا من ضرورة الرد، بأي شكل وبأي كيفية، بيد أن هناك ردًّا يشعل الساحات ، وردًّا تقوم به الأذرع الإيرانية وتتحمل المسئولية في ساحتها اليمنية أو اللبنانية أو العراقية أو في غزة والضفة، وردًّا يشعل حربًا إقليمية.

لابد من الرد
ولكن كيف؟:
كانت هذه هي المعضلة الإيرانية الجديدة، وهي معضلة فاقمت منها وعقدتها طموحات الحلفاء والموالين وأحلامهم، ورغباتهم في تجسيد محور المقاومة بزعامة إيران، فماذا فعلت هذه المعضلة الجديدة بتعقيداتها في ظل تنامي أحلام ورغبات الموالين لإيران؟ ماذا فعلت في إيران؟ وماذا فعلت في أحباء إيران والحالمين بها زعيمة لمحور المقاومة؟ وماذا فعلت في القضية الأصلية وهي قضية العدوان الصهيوني الغاشم الممتد على غزة والشعب الفلسطيني؟
اختار نظام الحكم في إيران إطلاق مئات المسيرات وعشرات الصواريخ من الأرض الإيرانية، واستبعد الاستخدام الواسع لضربات صاروخية من الساحات اللبنانية والعراقية واليمنية عبر حزب الله والحشد الشعبي والحوثي، في محاولة تأكيد أن الدولة الإيرانية بنفسها هي التي ترد، لكنها في نفس الوقت أرادت أن تعلن دون لبس أن عمليتها في حدود الرد فقط على عدوان إسرائيل على قنصليتها في سوريا، وأرادت أن تؤكد للأطراف الداعمة لإسرائيل أنها لا تريد أن تشعل حربًا شاملة في المنطقة، فاضطرت إلى إعلام الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة بحدود الضربة ومداها، فجاءت الضربة الإيرانية بمسيراتها وصواريخها وكأنها مجرد عملية لحفظ ماء الوجه، أو كأنها عملية مرتبة ومتفق عليها خاصة مع الولايات المتحدة، وسعت كل من الولايات المتحدة والدولة العبرية إلى تأكيد هذه المعاني، وساهم الإعلام المرئي من الحلفاء والأعداء إلى تأكيد هذه المعاني وهم ينشرون صورً المسيرات التي يتم اصطيادها في الجو وتفجيرها قبل أن تصل إلى أهدافها، وساهم المدي الزمني بين لحظة الإطلاق ولحظة الوصول في تأكيد هذه المعاني.

آثار الضربة:
وكان أخطر ما في هذه المعاني ما أدت إليه هذه الضربة الإيرانية من إحباط في قلوب الجماهير الراغبة في إيلام شديد للعدو الصهيوني الذي صال وجال تقتيلًا وهدمًا في غزة دون رادع دولي أو إقليمي أو عربي.
لكن أخطر ما في آثار العملية الإيرانية فقد جاء على حساب المسألة الأصلية والقضية الأولى بالرعاية التي نشأت ونمت وتطورت بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وهي قضية الشعب الفلسطيني، فقد قامت هذه العملية باختطاف مجموعة كبرى من النتائج التي تحققت عبر عدوان صهيوني همجي وصمود فلسطيني أسطوري، خاصة النتائج التي أصابت الكيان الصهيوني بشرخ كبير، تراجعت معه مشاعر الأمن والثقة في كل من الجيش الصهيوني وأجهزة أمنه ومخابراته، والنتائج التي تحققت بالتضامن الواسع إقليميا ودوليا مع الشعب الفلسطيني الصامد أمام آلة الحرب العدوانية والعنصرية الصهيونية، والإدانة الشعبية والسياسية الواسعة للكيان الصهيوني نتيجة لعدوانيته وحصاره وتطهيره العرقي وتهجيره للشعب الفلسطيني، وظهور قناعة واسعة بضرورة وقف الحرب والعدوان الصهيوني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة للشعب الفلسطيني، فإذا بالعملية الإيرانية تختطف هذه النتائج التي تحققت بأجساد ودماء وأرواح الشعب الفلسطيني وصموده الجبار، وتتركها في الخلفية، لتتقدم عليها الضربة الإيرانية وينشغل العالم بمداها، ويحتفي الكيان الصهيوني بنصره وصده للعملية الإيرانية، تلك التي أعطت قبلة الحياة للسلطة الصهيونية والنظام الصهيوني ونتنياهو الجريح، تتوارى القضية الفلسطينية والصمود الفلسطيني والعدوانية الصهيونية أمام العملية الإيرانية ذات الأثر المحدود عسكريًا، التي تقدمت المشهد وجرت معها إحباط المحبين وأفراح الصهاينة والاستعماريين الغربيين، وجرت معها أحاديث حق الدولة العبرية في الرد، وأعطت الحكومة الإسرائيلية فرصة للملمة جراحها، وجبر الكسور والشروخ التي أصابت كيانها، وحشد السكان في مواجهة الخطر الإيراني.

الخروج من المعضلة الإيرانية:
لكن المعضلة الإيرانية بتعقدها الجديد لا تقف آثارها عند حد، ولابديل للخروج من آثارها سوى بالعمل من أجل إعادة القضية الفلسطينية إلى المقدمة، بالتخلص سريعًا من أحلام وأوهام علقت بالضربة الإيرانية التي حدثت وعشناها، وأحلام ورغبات مازالت عالقة على ضربة إيرانية قادمة أو محتملة، ردًّا إيرانيا على الرد الإسرائيلي.
لا سبيل أمامنا سوى العودة إلى الأصل، إلى القضية الفلسطينية، إلى الصمود البطولي والأسطوري للشعب الفلسطيني أمام العدوان الصهيوني على غزة والضفة، صموده في وجه القتل و التهجير والتجويع، وما نتج عن هذا الصمود من نتائج كبرى، فكرية وسياسية وثقافية، رفضاً للتهجير، ورفضاً للتوطين، ورفضًا لتصفية القضية الفلسطينية.
لقد كشف هذا الصمود أمام العدوان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ أنه لا سبيل إلى الخروج من هذه المعضلة إلا بالوقف الفوري المستدام للحرب والعدوان، وانسحاب جيش الاحتلال والمستوطنين من غزة والضفة وكل الأراضي المحتلة، وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس، وملاحقة حكومة الكيان الصهيوني قانونيًّا على كافة الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني.
*محمد فرج

التعليقات متوقفه