إبراهيم نوار يكتب:”تصنيع” البيانات وتأثير العوامل الموسمية والجدل حول الوضع الاقتصادي

73

*بقلم /د.إبراهيم نوار

الوضع الاقتصادي ليس ورديا كما تصوره الحكومة. وقد فاجأنا السيد رئيس الوزراء بإعلان حكومي مفاده أن أزمات مصر الاقتصادية قد انتهت والحمد لله! وجه المفاجأة في هذا الإعلان أن الحكومة لا تعترف في العادة بوجود أزمة، وإنما هي تنفي ذلك على خط مستقيم، حتى تقع كارثة كبرى تستدعي تخفيض سعر صرف الجنيه، ورفع أسعار الفائدة للمساعدة على جذب الأموال الساخنة. أما أن تكون أزمات مصر الاقتصادية كلها قد انتهت فعلا فقد رد عليه الدكتور محمود محيي الدين بضرورة تعريف ماذا نقصد بالأزمة أولا، وأوضح أن سياسة الحكومة كانت تتبع نهج “إدارة الأزمات الاقتصادية” وليس حلها، وذلك بإتباع توجيهات صندوق النقد الدولي. أما ما تحتاجه مصر حسب رؤية محيي الدين، فهو إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وليس برنامجا لإدارة الأزمات. وقد دخل على خط الجدل أيضا حوت رجال الأعمال المصري الملياردير نجيب ساويرس، داعيا الى أن تخلِّص الدولة رقبتها من حبل الديون ببيع ما تبقى لديها من الأصول العينية، و تخفيض أسعار الفائدة، والتنحي جانبا عن إدارة الاقتصاد، لأنها لا تجيد هذه الحرفة. وهو ما يذكرنا بقول رجل أعمال سابق حقق ثروته من علاقات وطيدة مع الدولة هو الراحل المهندس عثمان أحمد عثمان الذي كان يردد دائما ان الدولة رجل أعمال فاسد، وأنها ما تدخلت في شيء إلا أفسدته.

وبما أن الجدل حول السياسة الاقتصادية سيظل مستمرا لفترة من الوقت، ربما يطول أو يقصر، حتى تفاجئنا أزمة اقتصادية جديدة، إذا كانت الأزمات قد انتهت فعلا، فإننا نود إبداء ثلاث ملاحظات في هذا السياق. الملاحظة الأولى هي أن مستوى كفاءة أو نوعية الأرقام التي يدور الجدل بشأنها منخفض جدا، بما في ذلك أرقام البطالة والتضخم والنمو التي يتم “تصنيعها” مكتبيا. ويمكننا العودة إلى الوراء حين أعلنت الدولة وصندوق النقد الدولي معا أرقاما وردية في نهاية برنامج قرض ال 12 مليار دولار الذي حصلت عليه مصر عام 2016. وطبقا للنتائج المعلنة فقد انخفض الدين العام والتضخم والبطالة وارتفع معدل النمو وتم تحرير سعر الصرف، وانخفض سعر الدولار أمام الجنيه، وسمحت البنوك لعملائها بتحويل عملات أجنبية للخارج. ولم تمر سنة على تلك السياسة حتى عادت ريمة الى عادتها القديمة، فبدأت في فرض قيود على التحويلات، وتراجع سعر الجنيه حتى فرض البنك المركزي سعرا إداريا، وارتفع التضخم، وزاد الدين العام المحلي والخارجي، وتراجع النمو، وتفاقم العجز في الحساب الجاري. ومن ثم كان من الضروري أن تعود الدولة إلى صندوق النقد الدولي وهي تغني: “ما أحلى الرجوع إليه”!

ونظرا لأن برنامج قرض مصر الأخير مع صندوق النقد الدولي أوشك على الانتهاء، فقد حل موسم التبشير بأن “كل شيء تمام” وأن البرنامج نجح في تحقيق أهدافه، فقد تم إعلان انخفاض التضخم والبطالة، وزيادة معدل النمو و استقرار سعر الصرف، بل إن الجنيه المصري يحقق مكاسب معتبرة مقابل الدولار. ولا زلت عند رأيي بأن تراجع الدولار في مصر لا يعكس قوة الجنيه بقدر ما يعكس ضعف الدولار لأسباب أهمها سياسة ترامب التجارية. كما أن الجنيه يستمد قوة موسمية في فصل عودة المصريين العاملين في الخارج خلال موسم الإجازات. ولا شك أنه استفاد ايضا من تحويل بعض ودائع الدول العربية لدى البنك المركزي الى استثمارات. غير أن تأثير هذه العوامل التي استفاد منها الجنيه ينحصر في فائدة لمرة واحدة فقط، كما هو الحال في الودائع، أو ينحصر في موسم الصيف فقط، بسبب السياحة وعودة المصريين في الخارج.

وبعد انتهاء التأثير المؤقت أو الموسمي، سيعود الجنيه المصري لمواجهة العالم الحقيقي قبل نهاية العام الحالي وحتى نهاية الربع الأول من العام القادم. لقد تم تمويل مشروعات البنية الأساسية الضخمة، ذات العائد المنخفض، البعيدة عن العمران والكتلة السكانية الرئيسية بقروض محلية وأدوات تمويل خارجية يمتد أجل سدادها حتى عام 2033 تقريبا. ورغم أن بيانات المعاملات الخارجية للأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الأخيرة تشير إلى انخفاض عجز الحساب الجاري بنسبة 22.6% إلى 13.2 مليار دولار، فإن عجز الميزان التجاري قفز بنسبة 33% تقريبا ليصل إلى 38.3 مليار دولار.

الملاحظة الثانية تتعلق بالتخبط الحكومي في إستراتيجية إدارة الدين العام. الإستراتيجية  تتعثر بوضوح في تحقيق أهدافها بتخفيض الدين الخارجي سنويا بمقدار مليارين من الدولارات. فبعد أن انخفض إلى 152.9 مليار دولار في يونيو 2024 إذا به يعود للارتفاع مرة أخرى ليصل إلى 162.7 مليار دولار في يونيو الماضي، بنسبة زيادة بلغت 6.4% وهو ما يتجاوز معدل النمو المحقق طبقا للبيانات الحكومية البالغ 4.5%. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تتجاوز ديون مصر الخارجية حاجز الـ200 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، لتصل إلى 202 مليار دولار بحلول يونيو 2030. وتمثل فوائد الدين الخارجي المسددة عبئا ثقيلا على الحساب الجاري للمعاملات الخارجية. وطبقا لبيانات البنك المركزي عن الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الأخيرة، فإن مصر سددت فوائد بقيمة 5.7 مليار دولار على ديونها الخارجية (الرقم لا يشمل قيمة سداد الأقساط المستحقة) وهو ما يعادل 43% من قيمة العجز في الحساب الجاري.

أما الملاحظة الثالثة فهي أن حكومة مصر تمكنت من إصلاح العجز في الميزانية والعجز في الحساب الجاري شكليا عن طريق إجراءات إدارية (تقييد الواردات مثلا)، وسياسات استغلال جائرة للموارد الطبيعية (كما في حالة الغاز) من أجل زيادة الصادرات، مما أدى عمليا إلى إضعاف معدلات النمو الاقتصادي في الأعوام الثلاثة الأخيرة. وهي تتبع الآن سياسة جباية جائرة لتخفيض العجز في الميزانية، حيث أن معدل زيادة الإيرادات الضريبية وصل إلى ما يقرب من 7 أمثال معدل النمو الاقتصادي، الأمر الذي يضغط بشدة على نمو القطاع الخاص. وما يزيد الطين بله هو أن مدفوعات فوائد الدين العام التهمت ما يقرب من 80% من الإيرادات العامة، مما يعني هبوط الاستثمارات واستمرار الحلقة الحلزونية الصاعدة لأعباء الديون.

ولا أظن أن الجدل بشأن رشادة السياسة الاقتصادية سيتوقف، نظرا لأن الأشهر المقبلة ستشهد تقليل أثر العوامل الموسمية والطارئة. كذلك فإن الأمر الذي لا تدركه الحكومة حاليا هو أن وجود قطاع كبير ومهم مملوك للأجانب في مصر سيقلل قدرتها على التلاعب في السوق، خصوصا في سياسة سعر الصرف وقواعد استرداد التكاليف للشركات الأجنبية المستثمرة، سواء في قطاع النفط أو غيره، وإجراءات التحكم الإداري في الواردات. ويعكس العجز في ميزان دخل الاستثمار تباطؤ التدفقات إلى الداخل في حال التباطؤ في سداد مستحقات الشركات الأجنبية. كما أن معدلات النشاط في الشركات الأجنبية غير النفطية، خصوصا تلك التي توجه جزءا من إنتاجها للتصدير، تحتاج إلى سيولة دولارية كافية محليا من أجل تمويل أنشطتها واستيراد مستلزمات الإنتاج من الخارج، ومن ثم فإن قدرة الدولة على السطو على إيرادات صادرات هذه الشركات أو التحكم فيها ستقل كثيرا.

 

التعليقات متوقفه

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More

Privacy & Cookies Policy