حتي لا تضيع وثائق رفعت السعيد

53

ما كدت استوعب جانبا من صدمة رحيل المؤرخ والمناضل اليساري “د.رفعت السعيد” عن عالمنا، حتي شغلني – وسط طوفان الحزن- مصير مكتبته ووثائقه، إذ كان يلمح كثيرا فى أحاديثه العامة والخاصة، إلى قلقه من المصير الذي ينتظرها بعد رحيله.. خاصة انه ليس بين ابنائه من تدخل القراءة أو الكتابة فى التاريخ، أو الاهتمام بالسياسة فى تخصصه أو حتي اهتمامه.

ولم تكن هواجس د. رفعت السعيد حول مصير مكتبته بعيدة عن شواهد كثيرة عن المصير المفجع، الذي انتهت إليه مكتبات عدد من الكتاب والمثقفين والفنانين، بعد رحيلهم لم يكن أولهم المخرج والناقد واستاذ السينما الراحل احمد كامل مرسي الذي رحل فى سبعينيات القرن الماضي، وباع ورثته مكتبته إلى تجار الكتب المستعملة على “سور الازبكية” وكانت تضم عددا كبيرا من نوادر الكتب فى الفنون السينمائية بلغات مختلفة، ولم تكن آخرها مكتبة الكاتب الرائد “يوسف الشاروني”، التي انتهت إلى المصير نفسه، ومكتبة الروائية عبد الرحمن منيف، الذي انتهي التجول بين المهاجر بأسرته إلى الاقامة فى إحدي العواصم الغربية بعد رحيله، وبعد اضطراب الأوضاع فى سوريا الذي اقام منيف بها فى سنواته الاخيرة، قبلت الاسرة نصيحة بعض معارفها، بأن تؤجر منزل منيف الذي يحوي مكتبته الهائلة لبعض الاصدقاء، فكان أول ما يفعلوه أن استولوا على المكتبة لتتبدد محتوياتها بالنهب والبيع لتجار الكتب.
وتكمن قيمة المكتبة الخاصة لكل اديب او كاتب او شخصية عامة، فى انها تعد مصدرا من اهم مصادر الترجمة لسيرته، وربما لسيرة الجيل الذي ينتمي إليه، ولمعرفة بعض التأثيرات الاساسية التي ساهمت فى تكوين رؤاه وافكاره، ودفعته فيما بعد الي السير فى الطريق الذي اختاره، وكان هذا هو ما دفع بعض الذين ترجموا لسيرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر- من المؤرخين الاجانب- على سبيل المثال، الي مراجعة قوائم المستعيرين فى مكتبة الكلية الحربية المصرية، خلال الفترة التي كان طالبا بها، للبحث عن عناوين الكتب التي كان يحرص على قراءتها.
وتزداد قيمة المكتبة الخاصة، إذا كان صاحبها ليس مجرد قارئ مثقف يجمع الكتب بهدف القراءة للمتعة والاستفادة، ولكنه قارئ وكاتب يجمع بين ذلك وبين اقتنائها كأحد مراجع ومصادر البحث والتأليف. وهو ما تتميز به مكتبة رفعت السعيد، التي اتسعت رفوفها لكي تشمل المراجع والمصادر التي اعتمد عليها فى تأليف سلسلة مؤلفاته، التي تمركزت فى معظمها حول موضوعين رئيسيين فى التاريخ المعاصر، هما الحركة اليسارية، وحركة تيارات الاسلام السياسي.
وبصرف النظر عن الاختلافات والمعارك التي دارت بين رفعت السعيد والمعاصرين له من المشتغلين بالسياسة والتاريخ حول حيادية المنهج الذي اتبعه فى تأليف هذه الكتب، فقد استطاع عبر اهتمامه بهذين الموضوعين منذ فترة مبكرة، وبمثابرته ودأبه، أن يقتحم كهفا كان مغلقا ومظلما تماما، أمام المؤرخين العرب، نتيجة لحالة التعتيم التي كانت تحيط بهما، إما لأن انشطتهما كانت كلها- أو اهمها- سرية، أو لأن خصومهما ممن يتولون السلطة، كانوا يفضلون ألا يبالغوا فى تضخيم اخطارهما.
وكانت مبادرة رفعت السعيد فى الاهتمام المبكر بتاريخ الحركة اليسارية المصرية، هي التي شجعت آخرين، ممن شاركوا فى قيادة أو عضوية المنظمات العديدة التي انضوت فى قيادة او عضوية هذه الحركة، على اغناء مصادر التاريخ لها بكتابة مذكراتهم، بل وشجعت بعض منظماتها على تأليف لجان للتاريخ لدورها، والدفاع عن ممارساتها، ودفعت بعض المؤرخين الاكاديميين على الخوض فى هذا المجال، الذي كان قاصرا قبل صدور مؤلفات السعيد على فصول متناثرة كتبها المؤرخون الاجانب.
ولا يختلف هذا الدور التحريضي، أو بمعني ادق التحفيزي-الذي لعبه رفعت السعيد، فى تنشيط حركة التأليف لتاريخ المنظمات اليسارية المصرية، عن الدور الذي لعبه فى تحفيز المواجهة الفكرية لنشاط العناصر المتشددة والارهابية فى حركة الاسلام السياسي.
وفى خلال هذه المعركة المتصلة، نجح رفعت السعيد، فى استنقاذ عدد من الوثائق التاريخية المهمة والنادرة التي تتعلق بالموضوعين، من التبدد والضياع.. فاستطاع أن يدرك عددا من قادة الحزب الاشتراكي المصري الأول، الذي تشكل فى العشرينيات قبل أن يغادروا الدنيا وأن يحصل على شهاداتهم عنه، وأن يحصل على شهادات من قادة واعضاء المراحل التالية من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، الثانية والثالثة فى الثلاثينيات والاربعينيات، إلى أن أنهت وجودها المستقل بقرارات حل نفسها عام1 965، وأن يجمع عددا كبيرا مما كان يصدر عن هذه المنظمات من بيانات وتحليلات كانت تطبع وتوزع على اعضائها بشكل سري ويعاقب من تضبط لديه نسخة منها بعقوبة لا تقل عن الحبس لمدة ثلاث سنوات.
وكان مصير هذه الوثائق وغيرها من الكتب النادرة، هي أهم ما يشغل رفعت السعيد خلال السنوات الاخيرة من حياته، خشية أن تتبدد وتضيع، ولا يستفيد أحد منها، فى مواصلة دراسة تاريخ الوطن الذي امضي حياته يناضل فى سبيل تحرره واستقلاله واستنارته، وكانت قراءة التاريخ، هي التي قادته إلى ذلك!
فهل يتقدم حلمي النمنم وزير الثقافة، لكي يقوم- عبر دار الكتب والوثائق القومية المصرية- بطمأنة رفعت السعيد فى قبره، بأن ما بذله من جهد فى جمع هذه الوثائق، لن يضيع هدرا.. أثق أنه سوف يفعل.

صلاح عيسى

التعليقات متوقفه