ما بعد كورونا .. لا تغيير فى توازن القوى

355

*د. نبيل رشوان :مثل ما يحدث عادة بعد الحروب، تنشأ قوى جديدة تتغير أنظمة، تصعد قوى تهبط أخرى من عليائها، وهكذا، وقد يتساءل البعض وهل نحن فى حرب الآن، نعم من الناحية الشكلية ليست هناك مدافع ولا صواريخ ولا طائرات، لكن أليس الناس فى المخابئ، نصف الكرة الأرضية خلف الجدران، ولا تستطيع أن تخرج رءوسها خارج البيوت.
لكن هذا مجرد فيروس فهل سيحدث تأثير على توازن القوى فى العالم بعد الانتهاء من أزمة فيروس كورونا لنرى، لكن الجديد فى الأزمة الحالية أن العالم يتابعها على الهواء بنظام “أون لاين” وليس كما حدث أثناء السارس عام 2003، أو انفلونزا الخنازير عام عام 2009، كما أن نظام الحظر المتبع سيؤدى بلا شك إلى انهيارات اقتصادية، لم تصل بعد إلى حد الانهيارات الكاملة ولكنها ستؤدى بلا شك إلى أن تقيم الدول الأسوار حول نفسها، بغية حساب الخسائر ومحاولة التعافى.
عندما جاءت أزمة كورونا كان العالم تتحكم فيه قوى عظمى واحدة هى الولايات المتحدة، روسيا تحت ضغط أوروبى ـ أمريكى بسبب أزمة أوكرانيا والتدخل فى سوريا، ولأسباب سياسية أخرى منها عدم تماهى النظام السياسى فى روسيا مع المنظومات السائدة فى أوروبا وتوسع الناتو شرقاً كسبب من جانب روسيا وغيرها. فيما يتعلق بالصين فقد كانت للتو قد خرجت من حرب تجارية مع الولايات المتحدة أنهكتها، وعندما حانت الفرصة للتوصل إلى اتفاقيات تحفظ ماء الوجه للجانبين وجدنا الصين كورونا تدق أبوابها بقوة، وتبادلت الاتهامات مع واشنطن، الأولى تتهم الثانية بنشر الوباء عندها بينما تتهم الثانية الأولى بإخفاء الأرقام الحقيقية للمصابين والموتى مما أدى إلى تفاقم وتفشى الوباء فى جميع أنحاء العالم. إلى جانب هذا وجد الاتحاد الأوروبى نفسه فى قلب عاصفة الكورونا، فى دول مثل إيطاليا وأسبانيا وفرنسا، وبعد أن هدأت موجات الفيروس فى الصين استعرت فى القارة الأوروبية والولايات المتحدة، التى وجدت نفسها مع أوروبا مركز الوباء فى العالم.
الصين بنظامها الشمولى استطاعت التغلب على الوباء إلا من حالات ضئيلة تقول إنها لأشخاص قادمين إليها من الخارج، بل أنها للتأكد من خلوها من المرض منعت الدبلوماسيين الأجانب من الحضور إلى الصين، بهدف تثبيت حالة عدم انتشار المرض، وهى الآن تجلس وتوزع المعونات على دول أوروبية مثل إيطاليا التى كفرت بالاتحاد الأوروبى، وأسبانيا التى تناضل فى صمت وفرنسا التى تعتمد على نفسها بالدرجة الأولى. لكن الصين وروسيا أرسلوا معونات للولايات المتحدة وأؤكد على هذا، وهذه الأخيرة بدورها قبلت الإعانة. فيما يتعلق بروسيا فقد رد ترمب الهدية بأفضل منها عندما هاتف ولى العهد السعودى وطلب منه خفض إنتاج النفط، وهو بذلك قدم خدمة جليلة للرئيس بوتين رداً على طائرة المعونات الطبية، رغم أن هناك أنباء من البيت الأبيض تشير إلى أن واشنطن اشترت المعدات الطبية من روسيا ولم تحصل عليها كمعونة وقال بعض المسئولين الأمريكيين فوجئنا بأن روسيا أرسلت معدات أكثر مما طلبت واشنطن شراءه، حيث كان الاقتصاد الروسى على وشك الإنهيار، لدرجة أن بيلاروسيا عرضت شراء 2 مليون طن نفط روسى للتخزين على أساس سعر البرميل 4 دولارات فقط. على أى حال سعر النفط فى شهر مايو القادم فى التعاقدات الآجلة لا يتجاوز 10 دولارات، ترامب خدم بوتين وخدم شركات النفط الأمريكية وخاصة الشركات المنتجة للنفط الصخرى العالى التكلفة، والتى أفلست لتوقفها عن العمل بسبب السعر المتدنى لبرميل النفط على مستوى العالم، وباتت تطلب دعما حكوميا.
كورونا كسرت حدودا كثيرة بين دول العالم، رغم أن كل دولة تعيش الآن فى حالة عزلة، لأنه مهما تخلصت الدول من هذا الفيروس فإن أى دولة موجود فيها هذا الوباء من الممكن أن تعيد العالم إلى المربع 1، ومن ثم فالعالم كله فى سلة واحدة، عولمة على أصولها لمن يقول أن هذا يوضح أن العولمة فشلت وكل دولة تغلق الآن على نفسها، نعم هذا من ناحية لكن أليس العالم يستفيد الآن من تجربة الصين ومن كوريا الجنوبية ومن اليابان، العولمة أصبحت شيئا راسخا مع التقدم التقنى حول العالم. بلاش ماذا لو اكتشفت أى دولة من دول العالم لقاحا أو دواء شافيا من هذا الفيروس، ألن تتقاسم اكتشافها مع العالم؟
أما أن الولايات المتحدة ستنزل من برجها العاجى من على قمة العالم، فهذا صعب على الأقل فى المستقبل القريب والمتوسط، والأسباب عديدة، فلو انتهت أزمة كورونا الآن، فلننتظر حتى يلعق العالم جراحه، ومن وجهة نظرى واشنطن هى الوحيدة التى خصصت 2,2 تريليون دولار لمكافحة آثار كورونا الاقتصادية، ثانياً الصين وإن تعافت مبكراً وقبل الآخرين نتيجة نظامها السياسى الشمولى وإخفائها بعض الخسائر البشرية، لن تستطيع التعافى اقتصادياً حالياً إلا حال تعافى أوروبا وباقى دول العالم والولايات المتحدة نفسها، مع من ستتاجر الصين؟! ثالثاً روسيا الحالة الاقتصادية سيئة للغاية وخسر الروبل ما يقرب من 15% من قيمته فى أيام معدودة بعد زيادة السعودية لإنتاج النفط وهجوم كورونا الكاسح، مما اضطر الرئيس بوتين إلى تعطيل الأعمال فى البلاد حتى أخر شهر أبريل الجارى، وفيما يبدو أن الإدارة وجدت أن القرار ربما قد يوحى بانتشار شديد للفيروس أو يؤدى لإرباك وتوتر المواطنين، فإعلن الكرملين أن تعطيل الأعمال سيعتمد على مدى تهديد انتشار الفيروس.
أما على نطاق الاتحاد الأوروبى فلا يخفى على أحد أن موسكو وواشنطن، غاية امنياتهما هو تفكيك الاتحاد الأوروبى، وأن مساعدات دولة منكوبة مثل إيطاليا جاءت من روسيا والصين ولم تأت من دول أوروبية، وهو ما اعتبرته روما تخليا من الرفاق فى الاتحاد عنها، فيما اعتبر البعض الآخر أن المساعدات الروسية الهدف منها دق أسفين بين الدول الأوروبية على أمل أن يتفرق الجمع بعد انتهاء أزمة كورونا، أو على الأقل يكون لروسيا رأس جسر داخل المنظومة الأوروبية تعتمد عليه لفك الحصار، بينما أرى أنه على العكس، وأن ما كان يهدد الاتحاد الأوروبى هو صعود التيارات الشعبوية، التى تشهد أكبر هزيمة لها فى التعامل مع أزمة كورونا، بداية من إيطاليا مرورأ ببوريس جونسون فى بريطانيا، وانتهاء بترامب فى الولايات المتحدة. بينما الأنظمة الليبرالية مثل المانيا وفرنسا، تتعامل مع الأزمة بهدوء وروية ودولة مثل فرنسا أعلنت أنها ستعتمد على نفسها فى إنتاج ما تحتاجه من أجهزة تنفس وكمامات وأجهزة طبية ولا أتحدث هنا عن المانيا التى لم تفتح فمها منذ الأزمة وتتعامل السيدة ميركل بهدوء يحسدها عليه أشد قادة العالم بأساً.
على أى حال إذا عتبرنا أن ما حدث فى الصين هو نجاح فى مواجهة فيروس كورونا، فإننا سنجد كثيرا من قادة العالم سيطالبون بصلاحيات إضافية لمواجهة مثل هذه الكوارث فى المستقبل ألم تنجح الصين بالنظام الشمولى وبعدد سكانها الضخم من التخلص إن جاز التعبير من الفيروس فى زمن قياسى، ألم يحتفظ نظام كوريا الشمالية بالبلاد نظيفة من فيروس كورونا، على الأقل المعلن حتى الآن، فى حين لو نظرنا إلى روسيا نجد أن بعض قوى المعارضة ترفع قضية تطعن فى قانونية فرض نظام العزل الذاتى على المواطنين، على اعتبار أن هذا القرار يجب أن يتخذه المسئول عن الطب الوقائى فى البلاد، ماذا تفعل الحكومة الروسية مع مثل هؤلاء الأشخاص، إذا كانت الدولة تعانى من أزمة ديموجرافية، وأن معظم من ماتوا فيها أو على الأقل 50% منهم فى سن الشباب، فى حين دولة مثل الصين أغلقت البلاد فى ظرف يومين مما مكنها من التخلص تقريباً من الوباء.
فى تطور آخر أرسلت روسيا معونات طبية ضخمة لأبناء العمومة فى صربيا، بعد أن تجاهلها جيرانها الأوروبيون وهى على بعد خطوة من الانضمام للاتحاد الأوروبى. روسيا تنظر إلى الأمام فهى تريد إقامة رأس جسر لها فى قلب الاتحاد الأوروبى خاصة وأن معظم دول يوغسلافيا السابق انضموا للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وقطعوا صلاتهم بكل ما يتعلق بالماضى فهل ستبقى صربيا على العهد السابق، أم أن مشكلتها فى كوسوفو إذا تم حلها أوروبياً ستجد هذه الدولة السلافية طريقها للاتحاد الأوروبى.
بالنسبة للدول الأخرى نجد أن هناك دولا صغيرة وتؤدى أداء جيدا فى صد هجوم الفيروس، لكن فى حدود الإمكانيات، ولسان حالها يقول متى ستنتهى هذه المصيبة فالاقتصادات لا تحتمل إغلاقات وحظر أكثر من ذلك، والأمل الوحيد فى الدول التى تقوم بالبحث العلمى لاختراع لقاح أو على الأقل دواء ينهى هذه الأزمة ولو مؤقتاً، من سيكتشف لقاحا أو دواء فقد فاز بالجائزة الكبرى فهذا سيكون تعويضاً عن كل خسائر الاقتصاد وسيكون سبباً لتسوية أى خلافات حدثت أثناء الأزمة، والمعاناة التى سببها الفيروس، والسباق هنا يجرى فى عدة دول هى المانيا والصين والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، لمن ستكون الجائزة الكبرى؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام حتى نهاية العام فالسباق محموم ولا يعرف الرحمة، فهو ليس علاجا من فيروس فحسب بل مكانة سياسية دولية، بل أتصور أن اختراع دواء أو لقاح هو الذى سيرفع من مكانة أى دولة بعد انتهاء هذه الأزمة لأن هذه الدولة هى التى ستنهى الأزمة، وستتحكم فى مصائر بقية الدول.
سيظل سلوك الولايات المتحدة مع فرنسا فيما يتعلق بشراء معدات طبية من الصين، مثالاً على عدم الأخلاق والأنانية سواء من واشنطن أو من بكين، حيث بعد أن أعدت الصين شحنة معدات طبية مخصصة لفرنسا، قامت الولايات المتحدة بدفع ثمن الشحنة نقداً واستولت عليها تاركة حليفتها فى الناتو فرنسا بدون معدات، والمدهش أن الصين مررت الصفقة، ولذلك أقول أن اختراع لقاح أو اكتشاف دواء من شأنه أن يسوى مشاكل تراكمت أثناء الأزمة.
فيما يتعلق بالرؤساء حول العالم، ترامب يرغب بالطبع فى تحقيق نجاح فى القضاء على الكورونا أو على الأقل التوصل إلى دواء و لقاح، وفى أسوأ الأحوال هو أن تستمر الأزمة إلى موعد الانتخابات بنفس الحدة فتتأجل رغم التعقيدات القانونية. أما إذا حقق ترامب نجاحا عاديا على الطريقة الصينية حتى فإنه لا محالة سيخسر الانتخابات بلا شك، لأنه ترك الوباء يستفحل. أما الرئيس بوتين فقد كان يأمل أن تجرى عملية التصويت على التعديلات الدستورية يوم 24 أبريل الحالى، ويجلس مستريحاً فى انتظار انتخابات عام 2024، وما عليه إلا أن يعرف من سيخوض النزال أمامه، لكن الرياح أتت على غير ما تشتهى السفن، السيدة ميركل، الأمور لا تعنيها كثيراً فهى ستتخلى عن منصبها مع انتهاء مدتها الحالية ويهمها أن تخرج من السلطة بشكل مشرف، الرئيس الفرنسى يعنيه تحقيق نجاح فأمامه فترة رئاسية ثانية، بوريس جونسون ـ بلا شك ـ أضعفت هذه الأزمة من موقفه كثيراً وانخفضت شعبيته، على أى حال بقدر النجاح فى الصراع مع كورونا، بقدر ما تكون فرص النجاح السياسى أكبر.

التعليقات متوقفه