د. رفعت السعيد يكتب :مصر منذ 75 عاما.. ثقافة التنوير في المقمة

69

 

في أول يناير 1939 أصدرت مجلة  “الحديث” اللبنانية عددا خاصا عن مصر اسهم في تحريره عديد من المصريين والعرب، في مقالات واحصاءات تمثل بمجموعها صورة متألقة لما كانت عليه مصر بما يستدعي المقارنة بين ما كنا منذ ثلاثة ارباع القرن وبين حالنا الآن.  وابتداء اقرر أن المقارنة مؤلمة ومخزية. ونبدأ

يكتب سامي الكيالي صاحب ومحرر “الحديث” الافتتاحية  بعنوان “عامنا الجديد –هذا العدد عن مصر” والعدد مكون من 145 صفحة من القطع المتوسط ونقرأ “الذي دفعنا إلي إصدار هذا العدد عن مصر الحرة التي تثب وثبات جريئة. ومصر اليوم زعيمة البلاد العربية بدون منازع وقد أصبحت في حكم الدولة “المنتدبة”- إذ جاز هذا التعبير بثقافتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية في هذه البلدان. والشرق العربي يتطلع اليوم إلي القاهرة ويرغب اندفاعها القومي ونضالها السياسي وتطورها الذهني وانتاجها الثقافي ويأخذ من كل ذلك بنصيب كبير. ففي مصر نهضة مباركة ويقظة فذة في كافة ميادين الحياة فهي تثب إلي المجد بعزيمة الجبابرة وتحاول أن تصبح في مصاف أرقي الدول الكبري” (ص4).

ثم تنشر “الحديث” حوارا مع الدكتور هيكل باشا الذي وصفته بأنه “من كبار زعماء التجديد في تاريخ الحركة الفكرية الحديثة وصاحب التآليف الفذة في التاريخ والأدب” وهو يعمل كوزير للمعارف بنفس النشاط وفتح ميدان المباريات بين المؤلفين المصريين ورصد لذلك جوائز ثمينة” وإذ سألته “الحديث” ما هي رسالتكم العلمية في وزارة المعارف؟ أجاب ” أن يؤدي التعليم إلي عرفان ما في الحياة من حق وجمال وأن يهذب النفس، ويقوم الخلق ويسد حاجات الوطن، ويقوي الشعور القومي والاستقلال الذاتي، ويلاحق تطور الزمن. ولست أعتمد في ذلك علي تغيير المناهج فما كان القانون يوما مؤديا إلي الغاية بحسن تدوينه وإنما بدقة تطبيقه، وإنما اعتمد اساسا علي المعلم الكفء ذو الشخصية القوية والثقافة الشاملة والعقل الناضج. ونظمت مسابقات بين المعلمين رصد لها ثمانمائة جنيه في الادب والموضوعات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والتربوية والرياضية” ثم يقول “واستعنت ببعض ابناء مصر الممتازين علي وضع مشروع لكفالة الصحة العامة لتلاميذ المدارس وجعلت مادة التربية البدنية مادة أساسية” ثم نفرأ حوارا آخر مع صاحب السعادة “محمد العشماوي” بك  وكيل وزارة المعارف نقرأ منه” كانت الغاية من التعليم ملء وظائف الحكومة بموظفين يقوم معظمهم بأعمال آلية محضة لا ابتكار ولا تجديد فيها ، وكان برنامج التعليم لا طابع له من القومية. مشعث المواد مهلهل الاطراف خال من دراسة الادب والفنون وحتي اللغة الوطنية (ص12) ثم “ولا يكفي للكمال الشعور بالنقص بل لابد من الأخذ بالأسباب وصدق العزيمة فوجهت الوزارة عناية خاصة إلي التعليم الأولي لأنه العمود الفقري للتعليم العام، وهو الخلية الأولي إذا نمت ساعدت علي نمو مدارك الشعب في تقديره لمركزه في الحياة، وزيدت علي برامجها وسائل الاتصال بالبيئة ومادة التربية الوطنية بهدف تكوين مواطن مهذب متنور يعرف ما له وما عليه” ثم قدم الاحصاءات التالية : عبر عشرين عاما (1917 – 1937) زاد عدد المدارس الحكومية من 132 بها 542.000 طالب إلي 5000 مدرسة بها مليون طالب، ومدارس البنات الابتدائية كانت سنة 1920 خمسة تضاعفت 14 ضعفا  له كانت خمسا فأصبحت 81، والطالبات كن 843 بنتا فأصبحن 9133، كما اهتمت الوزارة بتعليم الموسيقي والفنون واقامت متحف الفن الحديث والمجمع الفني في روما، وشجعت المؤلفين والمترجمين. وقد دفع ذلك العالم الشرقي إلي أن يلتفت إلي مصر ليستمد منها الفكر والرأي”.

ثم مقال مترجم للدكتور طه حسين الذي قالت “انه دون ريب اعظم كاتب في البلاد العربية جمعاء والمرجع الأعلي في الأدب العربي، ويتحدث طه حسين عن “شعب عريق وأدب يجمع بين العراقة والحداثة يستهدف خلق كيان قومي جديد يتبع مجار جديدة لم تكن معروفة وأفكار متجددة ومستنيرة ليست معروفة من قبل في سائر البلاد المتكلمة بالعربية، وعن المشكلات التي تواجه الادب فيقول أن الجمهور ضيق جدا وعدد الذين يتذوقون المنتجات الادبية قليلون جدا، وقديما كان الادب يزدهر برعاية الملوك والأمراء، أما الآن فيعتمد علي جمهور القراء فأصبح الادب ديمقراطيا معتمدا علي الاهالي. لكن الادباء غير قادرين علي الاعتماد علي الادب كوسيلة للمعيشة فصار لزاما عليهم أن يتخذوا مهنة أخري فلم يعد بأمكانهم التفرغ للكتابة بما قلل من انتاجهم . كذلك فإن المحيط الثقافي تتفشي فيه الأمية والجهل والتعصب بما جعل الجمهور شديد المحافظة علي القديم وقيد حرية الكاتب . ويقول طه حسين “أن النضال السياسي استنفذ قوي معظم الكتاب فأخر ترقي الشعر لكنه هو نفسه الذي ارتقي بالنثر فالجدل السياسي منح الكتابة قوة وقدرة وأناقة”.. وتمضي مجلة “الحديث” لتقدم عديدا من الدراسات منها ” مصر والقضية الفلسطينية” تتحدث عن مؤتمر عقدته مصر  جمع كافة الهيئات البرلمانية في بلاد العرب للمداولة في قضية فلسطين واتخذ عديدا من القرارات الهامة، ويستعرض المؤتمر ونتائجه فارس بك الخوري الذي مثل سوريا علي رأس وفد من النواب (ص21). ثم دراسة بعنوان “مصر في الأدب الفرنسي” للاستاذ صديق شيبوب (ص26) ثم دراسة مطولة للدكتور زكي مبارك عنوانها “تطور الدراسات الادبية منذ عصر محمد علي حتي اليوم” ويقول علي مبارك عن المعارك الأدبية حول التجديد والاستنارة “كان كتاب الشعر الجاهلي نذيرا بفتنة ثار لها الجمهور وإهتزت منابر البرلمان. وما يهمني في هذا المقام أن أصرح بأنه سواء كان  الأساس الذي قام عليه كتاب الشعر الجاهلي أساس ضعيف أو متين وإنما يهمني أن أثق علي أن ظهور الكتاب أثار مشكلة أدبية هي الخلاف حول تحديد الحرية العلمية في البحث والتأليف، وقد دارت في ذلك الوقت بالنحس أو بالسعد، ولكننا خرجنا من ذلك بمحصول نفيس هو عشرات البحوث حول العصر الذي توجه نزول القرآن، وكانت الثورة علي كتاب الشعر الجاهلي كالثورة علي كتب “الإسلام وأصول الحكم” الذي ألفه الأستاذ علي عبد الرازق، وكان هجوما لا يقابله دفاع ولو كتاب الله لهذين المؤلفين أن يهما للدفاع عن الآراء المسطورة في هذين الكتابين لظفرت الدراسات الادبية والفلسفية بمحصول تنصب له الموازين” (ثم يسجل زكي مبارك في الهامش معلومة شديدة الأهمية يقول فيها “كان كاتب هذا المقال في ذلك الوقت مدرسا بالجامعة المصرية، وقد تصدي للرد علي خصوم الدكتور طه حسين، ولكن الدكتور رجاه أن يكف عن ذلك لئلا يظن الجمهور أن الجامعة يسرها أن تستعر نيران الجدال) ثم يعود زكي مبارك ليسجل  موقفا ليبراليا يستحق الاحترام ويصعب أن يقتدي به كثير من المتحاورين في الفضائيات والكتابات فيقول “وأقول مرة ثانية أني لا أريد أن افرح بما أراه في القيمة الذاتية للمؤلفات والأبحاث التي اثارت غضبة الجماهير وأنما يهمني أن انص علي أنها خلقت جوا ادبيا لم يعرفه الجمهور من قبل لأنها أباحت لسواد الناس أن يفكروا في حقائق وأباطيل لم يكن الباحثون يعرضونها عليهم قبل ذلك. وهل من القليل أن تنشأ أزمة وزارية من أجل كتاب؟ أو أن تضطرب الحكومة والبرلمان من أجل كتاب؟ (ص35).

ويمضي زكي مبارك قائلا “أن الثورة علي المؤلفين عرفها الجمهور مرات كثيرة قبل ذلك وأخصها الثورة علي الرسالة التي كان الدكتور منصور فهمي نشرها في باريس، ولكن الثورات الجديدة رجت أذهان الجمهور أقوي وأعنف فكان لذلك نتائج أدبية وذوقية تستحق التسجيل. ثم يختتم زكي مبارك دراسته الممتعة قائلا “سيأتي يوم يصبح فيه الأدب شغلا جديا لسائر الجماهير فلا يحصر بين جدران الأندية والمعاهد وصفحات الجرائد والمجلات. ولكن متي يأتي ذلك اليوم؟ حسبنا من الفوز أن نكون جنودا في طليعة النصر المنشود.

وأن كنا نكتفي بهذا العرض المتعجل لموج عارم من المعرفة والليبرالية والرؤية العلمانية زخرت به صفحات هذا العدد. الذي أكاد اقطع أنه لو أعيد نشره اليوم لأثار من الجدل والاختصام والأنكار في فضائيات عدة ولدفعنا علي الدعوة بإلحاح إلي محاولة الاهتداء والاقتداء بما كان عليه المثقف المصري منذ ثلاثة ارباع القرن.

فهل نحاول؟

التعليقات متوقفه