فريدة النقاش تكتب  : بين «هنتجتون» و«تشومسكى»

353

بقلم فريدة النقاش:

هناك ما يشابه الولع عالمياً بكل ما تنتجه أمريكا من مواد ثقافية ودعائية وإعلامية، باعتبار هذه المواد تقدم نموذجا متقنا كامل الأوصاف يجري التشبه به وتقليده، يحدث ذلك رغم الجهود المغنية الموضوعية والعلمية التي بذلها فريق من المثقفين الباحثين والمفكرين من البلدان التي اكتوت بنيران الاستعمار الأمريكي بصوره الجديدة، رغم أنه لم يتخل عن الأساليب التقليدية،أي الغزو العسكري الباشر، كما حدث فى كل من أفغانستان والعراق، فضلا عن خططه الاستخباراتية لمحاولة إسقاط نظم وتدمير إقتصاد بلدان، وصولا إلى فرض العقوبات الاقتصادية على بلدان أخرى لتعطيل تطورها، وكلها ممارسات تفاقمت بعد سقوط التجربة الاشتراكية، وتفكك الإتحاد السوفيتي، ثم إلتحاق معظم بلدان المنظومة الإشتراكية السابقة بحلف الأطلنطي، وهو ما يعني التبعية المباشرة للولايات المتحدة الأمريكية.
أنتج هذا الانفراد الأمريكي بالهيمنة على العالم سيادة ضمنية ثم عملية للنموذج الثقافى الأمريكي، وهو ما حذرنا منه وزير الثقافة الفرنسي الأسبق «جاك لانج» حين قال «احذروا من الثقافة الأمريكية لأنها سوف تقضي على إنسانيتكم».
ومع ذلك وفى مواجهة هذه الهيمنة الطاغية، استطاعت الأصوات النقدية لمفكرين ومثقفين كبار حتى من داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها أن تتصدى لهيمنة هذه الثقافة التي وصفوها بالاستهلاكية، كاشفين عن مجموعة الأكاذيب والإدعاءات التي تأسست عليها، والمهارات الدعائية والإعلامية التي روجت هذه الأكاذيب والإدعاءات، وسوقتها، لا على الصعيد الأمريكي وحده، وإنما على الصعيد العالمي مصاحبة للبضائع الأمريكية، أي أن السلع حملت معها أفكاراً ورؤى خصصها منتجوها لكي تقضي على إنسانيتنا كما قال «جاك لانج»، لا فحسب عبر إشاعة الهوس الإستهلاكي، وإنما أيضا عبر التنميط والافقار الثقافى والمعنوي الشامل، عن طريق عبادة النموذج الأمريكي، بما يترتب عليه من تعميق التبعية الاقتصادية والسياسية عبر الثقافة.
وهذه هي بالضبط ستراتيجية «صامويل هنتنجتون» الذي سبق له منذ أكثر من عقدين من الزمان أن فتن بتحليلاته وتصوراته ورؤيته لطبيعة الصراع العالمي مئات من المثقفين فى بلداننا وبلدان أخرى حين نشر كتابه «صراع الحضارات» وهو الكتاب الذي تجلت فيه سمات رجل الأمن القومي، وأحد أكبر منظري الاستعمار الجديد والهيمنة الأمريكية، وأحد رواد فكرة إغراق العالم ومنطقتنا على نحو خاص فى الصراع الديني والمذهبي، معتبراً أن الدين هو الوجه الأساسي للثقافة، وأن الثقافة هي أساس صراع الحضارات، وقد باتت هذه الفكرة بندا ثابتاً فى السياسة الأمريكية بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة.
وقد أنتج «هنتجتون» فى هذا السياق مجموعة من الأفكار الهشة، وهي بالأحرى إعادة إنتاج لقاموس الإستشراق القديم الذي واكب عمليات الغزو الاستعماري الكبرى لبلدان القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، مع ملاحظة أن المستشرقين الأوروبيين، وبعيداً عن انحيازاتهم الاستعمارية كانوا من كبار المثقفين والباحثين.
وقد فضح مفكرنا الراحل «إدوارد سعيد» الأسس والمصالح التي دأب الاستشراق على خدمتها والدفاع عنها.
وغلف «هنتنجتون» الأهداف الحقيقية لفلسفته حول صدام الحضارات واستحالة تعايشها بأقنعة دينية وثقافية سرعان ما انهارت أمام النقد العلمي الجدي.
أما «فرانسيس فوكوياما» الذي أطلق عناصر «موضة أخرى واكبت ما كان قد فعله «هنتنجتون» قبل ربع قرن فهو القائل بأن الرأسمالية، والليبرالية الجديدة هي نهاية التاريخ، وأن هذا التاريخ قد قال كلمته الأخيرة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية ثم سقوط «صدام حسين» الديكتاتور الأخير من وجهة نظره وطبعاً متجاهلاً ديكتاتوريات أخرى مشمولة بالحماية الأمريكية، ولكن يحسب لفوكوياما أنه عاد وراجع أفكاره بعد انفجار الاحتجاجات حتى فى قلب المعقل الأخير، والمنتصر وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وتوالت عمليات النقد العلمي لليبرالية الجديدة، وتواكب هذا النقد مع بروز أشكال مختلفة من المنظمات الإشتراكية واليسارية التي حاولت استيعاب دروس التجارب السابقة وضمت فى صفوفها ملايين الشباب فى كل أرجاء العالم، ثم كانت ظاهرة ما سمى بالربيع العربي، والتغيرات الهائلة التي اجتاحت منطقتنا، ودفعت بالتيارات الدينية الإسلامية إلى سدة الحكم فى عدد من البلدان، ودعمتهم كل من أمريكا وأوروبا تطبيقا لرؤية «هنتنجتون» وأزعجها رفض الشعوب لهم بعد ذلك.
وعلى الشاطئ الأخر وقف مفكرون ومثقفون كبار نقديون وموضوعيون قدموا نقداً جذرياً لكل من الليبرالية الجديدة وللسياسات الإمبريالية، وساندوا كل القضايا العادلة فى العالم ضد السياسات الظالمة كاشفين عن المصالح الاقتصادية الكبرى القائمة على نهب الشعوب والتي هي أساس هذه السياسات.
وعلى رأس هؤلاء يقف المفكر التقدمي الكبير «نعوم تشومسكي» اليهودي الديانة الذي قدم أعمق نقد للسياسات الإسرائيلية وهو يساند حقوق الفلسطينيين فى كل المحافل، وهو يرى أن الغزو الاستعماري القديم لا يزال مستمراً.
نحتاج إذن إلى تعميق ثقافتنا النقدية حتى نخرج من حالة الانبهار بكل أشكال «الموضة» الثقافية التي تتدفق علينا مع البضائع الفاتنة فتختلط الأمور.
والنقد هو أداة معرفية لاغنى عنها لا فى التعليم فحسب وإنما أيضا فى العلاقات الإجتماعية والسياسية والثقافية، وأيضا فى أخطر القضايا الثقافية المطروحة علينا الآن، أي تجديد الفكر الديني، أو الثورة الدينية فى وصف الرئيس «السيسي» لهذا التجديد.
ونحتاج فى هذا السياق إلى فض الاشتباك أو بالأحرى اللبس بين حقيقة الضرورة الفكرية والثقافية لإعمال روح النقد، وبين العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتنامية بين بلادنا والولايات المتحدة الأمريكية.
وحين يكون علينا الاختيار بين «هنتنجتون» و»تشومسكي» نختار «تشومسكي».

التعليقات متوقفه