عن حقيقة الثورات الـشـعـبـيـة وحدودها يكتب محمد فرج للأهالي

38

بين الثورات الاجتماعية – كعملية تراكم وتحول جذري ونوعي شامل طويل وبعيد المدى في قوى وعلاقات الإنتاج، والثورات الشعبية السياسية المنظمة – كعملية نقل للسيطرة على السلطة السياسية للدولة من طبقة إلى طبقة أخرى أو من فئة طبقية قائدة إلى فئة طبقية أخرى – منفردة أو متحالفة مع غيرها – ؛ يوجد نمط سائد ومتواتر ومنظور ومتكرر للثورات هو نمط الثورات الشعبية.

وتأتي أغلب مشاكل وإشكاليات وطوباويات العمل الثوري من الخلط بين هذا النمط الأخير (نمط الثورة الشعبية) السائد، والطابع النوعي المختلف لكل من ثورات التحولات الاجتماعية الكبرى والثورات الشعبية السياسية المنظمة، ومحاكمة نتائج ومسارات الثورات الشعبية بشروط وقدرات وآمال وأهداف تحولات ونقلات الثورات الاجتماعية والسياسية المنظمة.

فما هي الثورات الشعبية ؟

– هي حراك ثوري شعبي كبير، يتسم بالعفوية، وغلبة الطابع الاحتجاجي غير المنظم على هذا الحراك.
وبسبب هذين العنصرين:
أي الطابع الاحتجاجي والعفوية يفضل بعض الكتاب والسياسيين إطلاق تعبير انتفاضة شعبية على مثل هذا الحراك، وفي حقيقة الأمر فإن تعبيرات مثل الهبة الشعبية والانتفاضة الشعبية والثورة الشعبية، هي مترادفات صحيحة تعبر عن حالات مختلفة من الحراك الشعبي الثوري من حيث الحجم والاتساع – وليس من حيث النوع – بين بعضها البعض، وتتحول بعض الهبات الشعبية في قرية أو في مدينة إلى انتفاضة شعبية متسعة في عدد من المدن، كما تتحول بعض الانتفاضات الشعبية ذات المطالب المحددة والمحدودة في مدينة أو في عدة مدن إلى ثورات شعبية متسعة في الجغرافيا ومتسعة في احتجاجاتها و مطالبها وشعاراتها المعلنة، كالانتقال من شعار إقالة وزير الداخلية أو إقالة الحكومة إلى الشعب يريد إسقاط النظام.

– وحيث أنه من الممكن – فرضاً وجدلاً – تحول الهبات الشعبية والانتفاضات الشعبية إلى ثورات شعبية؛ فإن هذه الثورات الشعبية – مهما اتسعت شعبيًّا واتسعت جغرافيًّا، ومهما زادت وتكررت موجاتها الثورية – لا يمكنها أن تتحول تلقائياً – عبر تكرار موجاتها الثورية – إلى ثورات اجتماعية أو إلى ثورات سياسية منظمة.

– حيث تختلف الثورات الشعبية عن ثورات التحولات الاجتماعية الكبرى التي يتحول فيها وخلالها وعبرها المجتمع القديم وينتقل إلى مجتمع جديد، كما تختلف عن الثورات الشعبية السياسية التي تنتقل فيها عملية السيطرة على سلطة الدولة من طبقة قديمة إلى طبقة جديدة، بسبب غياب التنظيم وسيادة العفوية عليها، ورغم خطورة غياب هذا العنصر وأثر سيادة العفوية وتداعياتها فإن هذا ليس هو الاختلاف الأهم ؛ بل يكمن الاختلاف الرئيسي في وجود نمطين مختلفين نوعيًّا بين هذه الثورات الشعبية وتلك الثورات الاجتماعية والسياسية، فالطابع الأساسي للثورات الشعبية هو طابع الحراك الثوري المطبوع بطابع الغضب والرفض والاحتجاج، فهي في طابعها الشعبي أقرب لحركات الاحتجاج، ولا تهيمن عليها العفوية وغياب التنظيم عن غفلة من قيادتها بل نتيجة لطابعها الاحتجاجي المحبوس في سيكولوجيا الغضب والرفض والاحتجاج.

– وتختلف الثورات الشعبية نوعيًّا عن ثورات التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى، لأن الأولى أي الثورات الشعبية ثورات غضب واحتجاج شعبي عاصف تهيمن على عقله الجمعي سيكولوجيا الجماعات المؤقتة، كجماعات الهبة الشعبية أو الانتفاضة الشعبية، ومن بين هذه الجماعات المؤقتة جماعات العرض المسرحي، أو جماعات تشجيع مباراة كرة قدم، أو جماعات مباريات مصارعة الثيران، أو الملاكمة أو المصارعة الحرة، أو حتى جماعات الاحتجاج داخل باص عام، فمثل هذا الجمهور الشعبي الكبير حين يخرج من ساحة الاحتجاج أو الغضب إلى منزله يجد نفسه منقطع الصلة – إلا قليلًا – ببقية الجمهور المشارك.
حيث لا تواصل حقيقي من خلال: النقابة أو الحزب السياسي أو القيادة الثورية المنظمة.
وفي إطار هيمنة هذه السيكولوجيا لا يجد أفراد الحراك الشعبي الثائر من خيوط تواصل سوى استمرار مشاعر الغضب والاحتجاج مشتعلة، وسوى تفسير الوعي الفردي لأسباب هذا الغضب وآفاقه المستقبلية، وبدون تواصل عبر النقابة وعبر الحزب وعبر القيادة الثورية تغيب البدائل أو تتنوع وتتصادم، وربما تتصارع وتتقاتل.

-الثورات الشعبية أيضاً تختلف عن ثورات التحولات الاجتماعية والسياسية بأنها ثورات خاطفة، فهي بسبب طابعها الاحتجاجي الغاضب وسيادة العفوية وغياب عنصر التنظيم، تنفجر بداخلها ثورة التوقعات، ويعذبها عنصر الوقت، وتستعجل الحصاد، ويتحول مزاج جماهيرها النفسي مع كل حصاد أو أي حصاد أو شبه حصاد، وحين لا يأتي الحصاد المتوقع سريعاً تتحول ثورة التوقعات عند القادة أو من يتصورون أنفسهم كذلك إلى نوازع قاتلة من اليأس والإحباط.
-لكن أخطر سمات الثورات الشعبية بعد طابعها الاحتجاجي العفوي، وافتقادها للتنظيم النقابي والسياسي، واحتباس قواها داخل صندوق سيكولوجية الغضب والاحتجاج وحدها دون أفق، وافتقادها للوعي بالبدائل المستقبلية، واعتمادها على مجرد استمرار جزوة مشاعر الغضب متقدة ومشتعلة، هو توفر إمكانيات وعوامل تحولها إلى مغامرة كبرى، أو مقامرة، تتقاذفها وتلعب بها القوى المنظمة – المحلية والدولية، الداخلية والخارجية، الاجتماعية والسياسية، الدينية وغير الدينية، السلمية وغير السلمية – حيث تستثمر مثل هذه القوى حالة الحراك الثوري الشعبي النبيل، ولكن المحبوس في صندوق الغضب والاحتجاج، وتسير به في اتجاهات متناقضة لا تعبر بالضرورة عن الأسباب الحقيقية التي تفجر الغضب والاحتجاج الشعبي بسببها، بل تعبر عن أهداف وتوجهات واتجاهات تلك القوى المنظمة.

ومن هذه النقطة بالتحديد تتوالد ثلاث قضايا إشكالية :

الأولى :
هي محاولات رفض تسمية تلك الثورات الشعبية – مثل تلك التي اندلعت منذ أواخر عام 2010 وبداية عام 2011 في العديد من البلدان العربية، فيما يسمى (بثورات الربيع العربي) – بالثورات أصلاً، حيث ينظر بعض المفكرين والكتاب والسياسيين إلى النتائج المحدودة لبعض هذه الثورات الشعبية، مقارنة بما كان يتوقعه منها، فيفضل إطلاق تعبير انتفاضة شعبية أو حراك ثوري على هذه الثورات الشعبية.

والثانية :
هي محاولات النظر إلى هذه الثورات الشعبية وما جرى فيها من عنف طائفي وصراع إقليمي ودولي وسيطرة ميليشيات التأسلم والإرهاب على المشهد – في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا وغيرها – واستناداً إلى بعض الوقائع المرتبطة ببعض المنظمات وبدور كل من الإخوان وتركيا وقطر والولايات المتحدة الأمريكية فيها، وظهور جبهات وجماعات التأسلم المسلحة ثم ظهور داعش، باعتبارها ليست ثورات شعبية أصلاً ؛ بل مؤامرة.

أما الثالثة :
فهي حالة لوم النفس أو لوم الآخرين، ولسان حال هذه الحالة، ينطلق من تصور سائد لا يرى أي فروق نوعية بين الثورات الاجتماعية والسياسية والثورات الشعبية، ويتصور أن الثورات الشعبية – بل والانتفاضات والهبات الشعبية – إذ تندلع، يمكن تحويلها بسهولة إلى ثورات اجتماعية، فقط لو تم بذل جهد أكثر مثابرة في التحريض والدعوة المستمرة للثورة وانتظار الموجة الثورية القادمة ..
وفي حقيقة الأمر:

وفي حقيقة الأمر فإن الثورات الشعبية بسماتها المحددة يمكنها أن تنجح .. ويمكنها أن تفشل، كما يمكن خطفها والتلاعب بها بسهولة، والتآمر عليها وعلى قواها الشعبية، لكن ذلك لا يجعل من اندلاعها مجرد مؤامرة، لكن يمكن خطفها وركوبها وتحويلها إلى مؤامرة، لكنها أيضاً حين تنجح، لا يمكنها أن تنجح سوى في أهدافها المحدودة، الناتجة عن طبيعتها كثورة احتجاجية، ويمكنها أن تحدث تغييرات هامة، لكن ما تحدثه من تغييرات لا يرتقى أبدا لما تحدثه ثورات التراكم والتحولات النوعية الاجتماعية والسياسية الكبرى من تغييرات جذرية، نوعية وشاملة ومستدامة.
* محمد فرج الأمين العام المساعد لحزب التجمع

التعليقات متوقفه